الحمد لله على نعمه التي لا تُحصَى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى، وأشهد أن نبينا محمدًا عبدُه ورسوله، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك عليه وعلى أصحابه ، ومن اهتدى بهديهم أما بعد:
أيها المسلمون، الأمنُ -عبادَ الله- مِنَّة إلهيَّة، ونفحة ربَّانية، امتنَّ الله بها على عباده، فبالأمن تجتمع النفوس، وتزدهر الحياة، وتغدق الأرزاق، ويتعارف الناس، وتتلقى العلوم من منابعها الصافية، ويزداد الحبل الوثيق بين الأمة وعلمائها، وتتوثق الروابط بين أفراد المجتمع، وتجتمع الكلمة، ويأنس الجميع، ويتبادل الناس المنافع، وتُقام الشعائر بطُمَأْنينة، وإذا اختل الأمن تبدَّل الحال، ولم يهنأ أحدٌ براحة بال، فيلحق الناس الفزع في عبادتهم؛ فتهجر المساجد، ويمنع المسلم من إظهار شعائر دينه، قال الله سبحانه: ﴿ فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ﴾ [يونس: 83]، وتعاق سبل الدعوة، وينضب وصول الخير إلى الآخرين، وينقطع تحصيل العلم، وملازمة العلماء، ولا تُوصَل الأرحام، ويئن المريض، فلا دواء ولا طبيب، وتختل المعايش، وتهجر الديار، وتفارق الأوطان، وتتفرق الأسر، وتنقض عهود ومواثيق، وتبور التجارة، ويتعسر طلب الرزق، وتتبدل طباع الخلق؛ فيظهر الكذب، ويلقى الشح، ويبادر إلى تصديق الخبر المخوف، وتكذيب خبر الأمن.
باختلال الأمن تُقتَل نفوسٌ بريئة، وتُرمَّل نساء، ويُيتَّم أطفال، إذا سلبت نعمة الأمن فشا الجهل، وشاع الظلم، وسُلبت الممتلكات، وإذا حلَّ الخوف أذيق المجتمع لباس الفقر والجوع، ولعل أكثركم رأى بعينه في سنوات مضت كم من البلاد حولكم عاقبهم الله بنزْع الأمن والأمان من بلادهم، فعاشَ أهلُها في خوف وذُعْر، في قلقٍ واضطراب، لا يهنَؤُون بطعام، ولا يتلذذون بشراب، ولا ينعمون بنوم، الكل ينتظر حَتْفَه بين لحظةٍ وأخرى! نسأل الله العافية، قال الله سبحانه: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، قال القرطبي رحمه الله: (سَمَّى الله الْجُوع والْخَوْف لِبَاسًا؛ لِأَنَّهُ يَظْهَرُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْهُزَالِ وَشُحُوبَةِ اللَّوْنِ، وَسُوءِ الْحَالِ مَا هُوَ كَاللِّبَاسِ)؛ انتهى كلامه.
وأذكركم بقوله تعالى وهو يذكِّر قومَ سبأ بنعمة الأمن الحاصل لهم في سيرهم ليلًا ونهارًا في قُرَاهُمْ، : ﴿ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ ﴾ [سبأ: 18]. وامتنَّ اللهُ على ثمود قوم صالح نَحْتَهُم بيوتهم من غير خوف ولا فزع، فقال عنهم: ﴿وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ﴾ [الحجر: 82]، ويوسف عليه السلام يخاطب والديه وأهله ممتنًّا بنعمة الله عليهم بدخولهم بلدًا آمنًا مستقرًّا تطمئن فيه نفوسهم: ﴿وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ﴾ [يوسف: 99]، ولمَّا خاف موسى أعلَمَه ربُّه أنه من الآمنين ليهدأ رَوْعه، وتسكن نفسه: ﴿وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَامُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾[القصص: 31]، ويقول تعالى ممتَنًّا على قريش بنعمة الأمن: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قريش 4].
والعرب قبل الإسلام كانت تعيش حالة من التمزُّق والفوضى والضياع، تدور بينهم حروبٌ طاحنةٌ، ومعارك ضارية، وعلت مكانة قريش من بينهم؛ لاحتضانها بلدًا آمنًا؛ قال الله جل وعلا: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ ﴾ [العنكبوت: 67]؛ بل وأقسم الله بذلك البلد المستقر الآمن فقال: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴾ [التين: 1 - 3].
ووعد الله نبيَّه محمدًا وأصحابه بأداء النسك على صفةٍ تتشوَّف إليها نفوسهم؛ وهي الأمن والاطمئنان، قال الله جل وعلا: ﴿ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ ﴾ [الفتح: 27].
ومما اختصَّت به مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمنها حين تفزع القرى من المسيح الدجَّال، فعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يَدْخُلُ المَدِينَةَ رُعْبُ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، لَهَا يَوْمَئِذٍ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ، عَلَى كُلِّ بَابٍ مَلَكَانِ"؛ رواه البخاري.
ولما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة عام الفتح منح أهل مكة أعظم ما تتوق إليه نفوسهم، فأعطى الأمان لهم، وقال: "مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ"؛ رواه مسلم.
ومن هنا؛ فالأمن في الإسلام مقصدٌ عظيمٌ شُرِع له من الأحكام ما يكفُلُه ويحفظُ سِياجَه، ويدرأُ المساس بجنابه، فقد تضافَرت النصوص القطعية على وجوب المحافظة على الضروريات الخمس؛ وهي: الدين، والنفس، والعقل، والعرض، والمال.
وحرَّمت الشريعةُ كل وسيلةٍ إلى النَّيْل من هذه المقاصد، أو التعرُّض لها، وشرَعت من الأحكام الزاجرة ما يمنع من التعرُّض لها، أو يمسُّ بجوهرها.
ومن هذا المُنطلق نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يتسبَّب الإنسان إلى فعلٍ يؤدِّي إلى المَساسِ بالأمن والاستقرار، يقول صلى الله عليه وسلم: "لا يُشِر أحدُكم إلى أخيه بالسلاح؛ فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزعُ في يده، فيقع في حفرةٍ من النار"؛ متفق عليه.
بل ولقد بلَغت عنايةُ الإسلام ونصوصه أن جاءت بالنهي عن كل ما يُؤذِي المسلمين في طرقاتهم وأسواقهم ومواضع حاجاتهم؛ في الحديث:"إياكم والجلوس على الطُّرُقات"، (صحيح البخاري)، ويقول صلى الله عليه وسلم: "إذا مرَّ أحدُكم في مساجدنا أو أسواقنا ومعه نَبْلٌ؛ فليُمسِك على نِصالها أن يُصيبَ أحدًا من المسلمين منها بشيء"؛ متفق عليه.
وقال في حق المعاهد: "مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا"؛ رواه البخاري.
هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، وبعد:
عباد الله، حق على كل مسلم أن يعمل جاهدًا على استتباب الأمن والأمان، وأن يكافح من أجل تحقيقه، وأن يقوم على توفير أسباب جلب الأمن والأمان، ومن أهمها:
أولًا: الإيمان والتوحيد، وإقامة شرع الله تعالى، وهذا هو وعد الله في قرآنه: ﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾ [النور: 55].
ثانيًا: شكر نِعَم الله تعالى، ومن أجلها نعمة الأمن، فإنه بالشكر تدوم النعم وتزداد، قال تعالى: ﴿ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ﴾ [إبراهيم: 7]، والعكس بالعكس؛ فبكفر النعم تزول، ويحل محلها العذاب بالخوف، وهذه حادثة واقعية قصَّها علينا القرآن الكريم قائلًا: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112].
ثالثًا: المودة والتآلف وإصلاح ذات البين: فالأمان والطمأنينة تبع ونتيجة لانتشار الحب والإخاء بين المسلمين، وقد حثنا رسولنا صلى الله عليه وسلم على الصلح بين المتخاصمَيْن؛ فإن الخصومة هي بذر للخوف، وتبديد للأمن في المجتمع.
رابعًا: عمل الحسنات واجتناب السيئات، فإن الذنوب والمعاصي نذير الشؤم، ومجلبة الشر، وحلول الخوف محل الأمن، وإن فعل الحسنات والقربات والصالحات أمان من كل خوف وفزع في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ ﴾ [النمل: 89].
خامسًا: الدعاء بدوام الأمن والاستقرار، فقد سمعنا الخليل إبراهيم عليه السلام وهو يدعو فيقول: ﴿ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا ﴾ [البقرة: 126]، فلندْعُ إذن لأوطاننا ولأهلينا ولبيوتنا ولطرقاتنا ولقلوبنا ولنفوسنا أن يرفرف عليها الأمن والأمان والطُّمَأْنينة والوئام والسلامة والإسلام، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }[البقرة: 201] .
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ۖ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۗ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ }[العنكبوت: 45].