الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد؛
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }[آل عمران 102]
عباد الله، إن نعم الله علينا كثيرة، {وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ } [النحل 18] ، ونعم الله تعالى تستوجب الشكر، فمن شكر الله تعالى على نعمه رأيته عبدًا مطمئن القلب، قرير العين، راضيًا عن ربه أتمَّ الرضا، ملأ قلبه حبًّا لله تعالى، ورجاءً فيه، ويقينًا في رحمته، واستبشر بقوله تعالى:{ وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7]؛ لأن الشكر لله تعالى يعقل النعمةَ الموجودةَ، ويستجلبُ النعمةَ المفقودةَ.
أيها الإخوة الكرام، من جملة نِعَم الله تعالى علينا نعمة ما يُسمَّى بوسائل التواصل الاجتماعي، وكل نعمة في الحياة الدنيا اختبار وابتلاء {لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40]، وأجهزة التواصل الاجتماعي بحد ذاتها نعمة، ولكنها وبكل أسف انقلبت إلى نقمة عند أكثر الناس، حيث سهلت عليهم معصية الله تعالى، بسبب الغفلة عنه تبارك وتعالى، والطامة الكبرى ما نراه في الذكاء الاصطناعي ، وهي مجموعة من التقنيات تعمل على جمع البيانات ، وقد تستخدم فيما حرمته الشريعة، والكذب والافتراء والبهتان، والتزوير، ومن ذلك تزييف الصور، والمقاطع الصوتية ، والمرئية، وانتحال الشخصيات، وذلك بهدف قلب الحقائق، ونشر المعلومات المضللة، والمساس بالسمعة والأعراض والإضرار بالأبرياء وتلفيق الفتاوى المكذوبة على ألسنة العلماء، متناسين قوله تعالى :{مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق 18]
يا عباد الله، يا أصحاب الجوَّالات، راقبوا الله تعالى القائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء : 1]
يا أصحاب هذه النعمة، لا تجعلوا الله أهون الناظرين إليكم، وتذكروا قول الله تعالى: { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ } [الحديد: 4]، واسمعوا حديث رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "استحيوا من اللهِ تعالى حقَّ الحياءِ، من اسْتحيا من اللهِ حقَّ الحياءِ فلْيحفظِ الرأسَ وما وعى ، ولْيحفظِ البطنَ وما حوى، ولْيذكرِ الموتَ والبِلا، ومن أراد الآخرةَ ترك زينةَ الحياةِ الدنيا ، فمن فعل ذلك فقد استحيا من اللهِ حق الحياءِ" صحيح الجامع .
على المرء كذلك أن يتذكر مسؤوليته عما تجترحه جوارحه من أفعال وأقوال، قال تعالى: ﴿ يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 24، 25].
وإن مما يذكر في هذا المقام ما جاء عن المعصوم صلى الله عليه وسلم حيث قال:" إنه أتاني الليلة آتيان، وإنهما ابتعثاني، وإنهما قالا لي انطلق، وإني انطلقت معهما"، وفيه: " فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالـجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يَصِحَّ ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل المرة الأولى"، وفيه: "وأما الرجل الذي أتيت عليه، يشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته، فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق"؛ (الحديث بطوله رواه البخاري).
وهذا واقع مشاهد يكذب الكذبة في هذا الجهاز فتبلغ الآفاق، وعقابه في البرزخ ما قد سمعتم.
فالحذرَ الحذرَ، واعلموا أن أعراض الـمسلمين وأسرارهم غير مباحة للتعدي، وعلى هذا الأساس يجب ستر الـمسلمين، ويحرم كل ما يؤدي إلى انتهاك أعراضهم وفضحها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشرَ من آمنَ بلسانِه ولم يدخلْ الإيمانُ قلبَه ، لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتَّبعوا عوراتِهم ، فإنه من اتَّبعَ عوراتِهم يتَّبعُ اللهُ عورتَه ، ومن يتَّبعِ اللهُ عورتَه يفضحُه في بيتِه.". صحيح أبي داود للألباني
إخوة الإيمان، إن من أعظم الخطر وأعظم مصيبة أن تُنْشر المعاصي والموبقاتُ في وسائل ومواقع التواصل الاجتماعي، وتبقى تلك الذنوب مستمرة في حياتك وبعد موتك.
قال حبيب الفارسي رحمه الله: "إن من سعادة المرء أن يموت وتموت معه ذنوبه". من كتاب حلية الأولياء .
إخوة الإيمان، إن وسائل التواصل في هذا الزمان أصبحت مَعاوِلَ هَدْمٍ للقيم والأخلاق، وأصبح التافهون والفاسقون قدواتٍ، كما قيل: نحن نشغل أوقاتنا بمتابعة فراغ الآخرين وتفاهتهم.
فهذا منذر شرٍّ على المجتمع عن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: "سيَأتي علَى النَّاسِ سنواتٌ خدَّاعاتُ يصدَّقُ فيها الكاذِبُ ويُكَذَّبُ فيها الصَّادِقُ ويُؤتَمنُ فيها الخائنُ ويُخوَّنُ فيها الأمينُ وينطِقُ فيها الرُّوَيْبضةُ قيلَ وما الرُّوَيْبضةُ قالَ الرَّجلُ التَّافِهُ في أمرِ العامَّةِ ". صحيح ابن ماجه للألباني
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أما بعد؛
إخوة الإيمان، إن على الآباء والأمهات مسؤولية عظيمة في مراقبة الأبناء والبنات "فكلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيته" صحيح البخاري، فإنكم ستسألون أمام الله عن رعيتكم، ومن الأمور التي تعين على مواجهة هذا الطوفان التقني الذي فتح أبواب الشر على مصراعيها تعزيزُ الرقابة الذاتية عند أبنائنا وبناتنا، وهي شعور داخلي، وقوة ضابطة، نابعة من إيمانه بمراقبة الله تعالى، واطِّلاعه على أعماله، تدعوه إلى الحرص على فعل الطاعات طلبًا لمرضاة الله وثوابه، والبُعْد عن المعاصي خوفًا من عقابه.
ومن الأمور المعينة الاهتمام بكتاب الله قراءةً وحفظًا، اقرؤوا القرآن وعلِّمُوه أبناءكم، قال أحد السلف: "عَلِّم ولدك القرآن، والقرآن سيعلمه كل شيء"، قال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾ [الإسراء: 9]؛ أي: يهدي للتي هي أعدل وأعلى من العقائد والأعمال والأخلاق.
قيل للحسن البصري: "فلان يحفظ القرآن، فقال: بل القرآن يحفظه!"
اللهم ارفعنا وانفعنا بالقرآن العظيم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا ، وانصرنا على القوم الكافرين ، واحفظ بلادنا وإمامنا ولي امرنا من كل سوء وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .