إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
عباد الله؛ إن من أكبر الحقوق وأوجبها على المسلم حق الوالدين، ولهذا قرنه سبحانه بحقه كما قال تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [النساء: 36]، بل أوصى، سبحانه، بالإحسان إليهما، وصحبتهما بالمعروف ولو كانا كافرين، ولكن لا يطيعهما في معصية الله والإشراكِ به، كما قال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ﴾ [لقمان: 14، 15].
وكان من صفات أنبياء الله، عليهم السلام، التي مدحهم الله بها برُّ الوالدين؛ كما قال عن يحيى عليه السلام: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ﴾ [مريم: 14]، وقال تعالى عن عيسى عليه السلام: ﴿ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا ﴾ [مريم: 32].
أيها المسلمون، المقصود ببرِّ الوالدين: الإحسان إليهما بجميع وجوه الإحسان، قولًا وفعلًا، الإحسان بالكلام الطيب وخفض الصوت، والصلة المستمرة، والإحسان بالخدمة وبذل المال وقضاء الحوائج، والرّفق بهما بمراعاة المشاعر وجبر الخواطر، والبحث عن رضاهما وتحصيل محبوباتهما.
عباد الله، لقد وردتْ النصوص الكثيرة في الكتاب والسنة مرغبةً في بر الوالدين محذرةً من عقوقهما، فمن ذلك قوله تعالى: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [الإسراء: 23، 24] ففي هذا الآية يأمر سبحانه وتعالى بعد الأمر بعبادته والنهي عن الإشراك به، ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما، وطيب الكلام معهما، خصوصًا حالَ الكِبَر، حيث يَضعف الوالدان ويحتاجان إلى مزيد عناية وخدمة، وقد يصدر منهما ما لا يتوافق مع رغبة الابن، وينهى سبحانه عن نهرهما والإغلاظ عليهما، حتى إنه سبحانه وتعالى نهى عن مجرد التَأفُّف لهما الذي هو علامة على عدم الرضا، ثم يرسم جلَّ وعلا صورةً بليغة للرِّفق بهما واللين معهما، وهي خفض الجناح لهما، تشبيهًا بالطائر الذي يخفض جناحه لفراخه حُنُوًّا عليهم، ثم يأمر سبحانه وتعالى بالدعاء لهما جزاءَ ما قدَّما للولد حال صغره من عناية وتربية.
كما وردت الأحاديث الكثيرة في فضل بر الوالدين وتحريم عقوقهما، ومخالفة أمرهما، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم جعل بِرَّ الوالدين مقدمًا على الجهاد في سبيل الله؛ كما في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ العمل أحب إلى الله؟! قال: "الصلاة على وقتها"، قلت: ثم أي؟! قال: "بر الوالدين"، قلت: ثم أي؟! قال: "الجهاد في سبيل الله".
وجاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذنه في الجهاد، فقال: "أَحيٌّ والدك؟"، قال: نعم قال: "ففيهما فجاهد" ؛متفق عليه.
ففي هذا الحديث جعل النبي صلى الله عليه وسلم بِرَّ الوالدين من الجهاد، وأمر هذا الرجل بالرجوع إليهما، وترك جهاد التطوُّع.
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «رَغِمَ أَنْفُ، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك أبويه عند الكبر، أحدَهما أو كليهما فلم يدخل الجنة» ، فالسعيد من وُفِّق لبر والديه والإحسان إليهما، فإن في برِّهما خيري الدنيا والآخرة، والشقي من عقَّهما وخالَف أمرهما وأغضبهما، وسيندم لا محالة في الدنيا أو الآخرة.
هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد عباد الله: برُّ الوالدين لا ينقطع بموتهما - ولله الحمد - بل هو متصلٌ بعد الموت، وذلك بالدعاء لهما، والصدقة عنهما، وصلة رحمهما، والإحسانِ إلى صديقهما، فقد أخرج مسلم في صحيحه أن ابن عمر رضي الله عنهما لَقِيَه رجلٌ بطريق مكة، فسلَّم عليه عبد الله، وحمله على حمار كان يركبُه، وأعطاه عمامة كانت على رأسه، قال ابن دينار: فقلنا له: أصلَحك الله، إنهم الأعراب، وإنهم يرضون باليسير، فقال عبد الله: إن أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن أبرَّ البر صلةُ الرجلِ أهلَ وُدِّ أبيه".
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا مَاتَ الإنْسَانُ انْقَطَعَ عنْه عَمَلُهُ إِلَّا مِن ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِن صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو له."؛ أخرجه مسلم.
ولعلَّ اجتهادك في برهما بعد موتهما، يَمحو تقصيرك في حقهما حال حياتهما.
فينبغي للمسلم أن يُكثر من الدعاء لوالديه، وأن يتصدق عنهما، ويصلَ أرحامهما، ويكرم أصحابهما.
اللهم ارحم والدينا كما ربَّونا صغارًا، وأعنَّا على برِّهم أحياءً وأمواتًا. اللهم وفق ولي امرنا وولي عهده لما تحب وترضى ، اللهم هيء لهما البطانة الصالحة الناصحة، ووفق اللهم جميع ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وابتغاء مرضاتك، اللهم كن لإخواننا المستضعفين في غزة، اللهم ارحم شهداءهم، واشف مرضاهم ، وداو جرحاهم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.