إن الحمد لله، نحمدُه ونستغفره ونستعينه ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا، من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، بعثه اللهُ رحمةً للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، بلّغ الرسالة وأدّى الامانة ونصحَ الأمّةَ فجزاهُ اللهُ خيرَ ما جزى نبياً من أنبيائه، صلواتُ اللهِ وسلامه عليه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وعلى صحابته وآل بيته، وعلى من أحبهم إلى يوم الدين
أيها الإخوة
أحييكم بتحية الإسلام الخالدة فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
وبعد
إن كثرة صدق رؤيا المسلم علامة من علامات الساعة الصغرى كلنا يلمسها ، لما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب) ولعل الحكمة في ذلك أن المؤمن في آخر الزمان يكون غريبا، كما في الحديث الذي رواه مسلم أيضا (بدأ الإسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ) فيقل أنيس المؤمن ومعينه على الطاعة آنذاك، فيكرم بالرؤيا الصادقة تبشيرًا وتثبيتًا على الصراط المستقيم
و المعبرون للرؤى من القلة بمكان، خاصة أولئك الذين أتاهم الله العلم والحكمة والبصيرة النافذة في التعبير، وكتب تفسير الرؤى مُترعة بالغث والسمين، والجم الغفير من الناس لا يحسن الاستفادة منها ولا التعامل معها، ومن ثم كانت هذه المحاضرة كاشفة للقارئ سُبل التفسير وآدابه وكيفيته هادية إلى أصوب تفاسير الرؤى وأدقها، انتخبت كثيرٌ منها من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
سبل التفسير وآدابه وكيفيته
الأول: الرؤى ثلاث
رؤى حسنة صالحة هي بشرى من الله، وجزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة
ورؤى سيئة مكروهة هي أهاويل من الشيطان ليُحزن بها ابن آدم و ليتلاعب به في منامه
ورؤى مما يحدث المرء نفسه، أو يهم به في يقظته فيراه في منامه، ويدخل فيها ما يعتاده الرائي في اليقظة، كمن عادته أن يأكل في وقت فنام فيه، فرأى أنه يأكل، أو بات طافحاً من أكل وشرب، فرأى أنه يتقيأ
وما عدا ذلك أضغاث أحلام أي الأحلام المختلطة الملتبسة ولا يصح تأويلها لاختلاطها وعدم التئامها على أصول التعبير
الثاني: إذا كانت الرؤيا حسنة صالحة استُحب لرائيها أربعة أشياء
أولاً: أن يحمد الله عليها
ثانياً: أن يستبشر بها
ثالثاً: أن يحدث بها من يحب دون من يكره
رابعاً: أن يفسرها تفسيراً حسناً صحيحاً ، لأن الرؤيا تقع على ما تفسر به
الثالث: إذا كانت سيئة مكروهة استُحب لرائيها سبعة أشياء، إن فعلها لن تضره إن شاء الله تعالى وهي
أولاً:الاستعاذة بالله من شرها
ثانياً: الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم ثلاثاً
ثالثاً: التفل عن اليسار ثلاثاً
رابعاً: التحول عن الجنب الذي كان نائماً عليه
خامساً: الصلاة
سادساً: أن لا يحدث بها أحداً
سابعاً: لا يفسرها لنفسه
ودليل ذلك كله من الأحاديث الشريفة
روى البخاري من حديث أبي سعيد الخدري أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: إذا رأى أحدكم رؤيا يحبها، فإنما هي من الله، فليحمد الله عليها وليحدث بها، وإذا رأى غير ذلك مما يكره، فإنما هي من الشيطان، فليستعذ من شرها ولا يذكرها لأحد فإنها لا تضره
وأخرج الترميذي وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأى أحدكم الرؤيا الحسنة فليفسرها، وليخبر بها وإذا رأى الرؤيا القبيحة فلا يفسرها، ولا يخبر بها
وروى الشيخان عن أبي سلمة قال: لقد كنت أرى الرؤيا فتُمرضني حتى سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: الرؤيا الحسنة من الله فإذا رأى أحدكم ما يحب فلا يحدث به إلا من يحب وإذا رأى ما يكره فليتعوذ بالله من شرها ومن شر الشيطان وليتفل ثلاثاً ولا يحدث بها أحد فإنها لن تضره
وفي رواية لمسلم: فإن رأى رؤيا حسنة فليُبشر ولا يخبر إلا من يحب
وروى مسلم من حديث جابر عن رسول صلى الله عليه وسلم قال: إذا رأى أحدكم الرؤيا يكرهها فليبصق عن يساره ثلاثاً، وليستعذ بالله من الشيطان ثلاثاً، وليتحول عن جنبه الذي كان عليه
وروى مسلم أيضا من حديث أبي هريرة: فإن رأى أحدكم ما يكره فليصل، ولا يحدث بها الناس
الرابع: خطوات تفسير الرؤيا
أ- ركز على المهم من الرؤيا أو الذي تراه يرمز إلى أمر من أمور الواقع أو ما تعلقت أمثاله ببشارة أو نذارة، أو تنبيه أو منفعة في الدنيا أو الآخرة، واطرح ما سوى ذلك من الحشو والخلط والأمور التي لا تنتظم
ب- أجعل لكل ما ركزت عليه من الرموز أو الأمور المهمة أصلاً من أصول التعبير المستنبطة بدلالة القرآن الكريم أو بدلالة الحديث الشريف أو بدلالة المعنى والقياس والتشبيه، أو بدلالة الأسامي واشتقاق اللغة
فالتعبير بدلالة القرآن الكريم
كالحبل تعبره بالعهد، لقوله سبحانه: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله
والسفينة تعبرها بالنجاة لقوله تعالى: فأنْجَينَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَة
والخشب تعبره بالنفاق لقولة تعالى: كَأَنَّهُمْ خُشُب مُّسَنَّدّة
والحجارة تعبرها بالقسوة لقولة تعالى: فَهِىَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قْسَوَةً
والطفل الرضيع تعبره بالعدو لقوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آل فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا
والرماد تعبره بالعمل الباطل لقوله تعالى: مثل الذي كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح
والماء يعبر بالفتنة لقول تعالى: لأسقيناهم ماءً غذقاً لنفتنهم فيه
وأكل اللحم النيئ يعبر بالغيبة لقوله تعالى: أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً
والنعاس يعبر بالأمن لقوله تعالى: إذ يغشيكم النعاس أمنة منه
والبقل والقثاء والفوم والعدس والبصل يعبر لمن أخذه بأنه قد استبدل شيئاً أدنى بما هو خير منه من مال أو رزق أو علم أو زوجة أو دار لقوله تعالى: فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال اتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير
والشجرة الطيبة تعبر بالكلمة الطيبة، والخبيثة بالكلمة الخبيثة لقوله تعالى: ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة... الآية
والبستان يدل على العمل، واحتراقه يدل على حبوطه، لقوله تعالى: فاصابه إعصار فيه نار فاحترقت
والبيض يعبر بالنساء لقوله تعالى: كانهن بيض مكنون. وكذلك اللباس لقوله سبحانه: هن لباس لكم والنور يعبر بالهدى، والظلمة بالضلال لقوله تعالى: يخرجهم من الظلمات إلى النور
والتعبير بدلالة السنة
كالغراب يعبر بالرجل الفاسق لأن النبي صلى الله عليه وسلم: سماه فاسقاً
والفأرة بالمرأة الفاسقة لأن النبي صلى الله عليه وسلم: سماها فويسقة
والضِلَع والقوارير تعبر بالنساء لقوله صلى الله عليه وسلم: المرأة خلقت من ضِلَع، وقوله: ويحك يا أنجشة رويداً
سوقَك بالقوارير. رواهما الشيخان
والقميص يعبر بالدِين لقوله صلى الله عليه وسلم: رأيت الناس عرضوا علي وعليهم قميص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما يبلغ دون ذلك، وعُرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجتَرُه، قالوا فما أوَلتَه يا رسوله الله، قال: الدِين. أخرجه الشيخان
واللبن يعبر بالعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوله بالعلم ويعبر بالفطرة لحديث الإسراء
والمرأة السوداء الثائرة الرأس تعبر بالوباء لقوله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى قامت بمَهْيَعَةَ وهي الجحفة فأولت أن وباء المدينة نقل إليها. رواه البخاري
والصراط المستقيم يعبر بالإسلام، والأسوار تعبر بحدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله لحديث النواس (ضرب الله مثلا صراطا مستقيما، وعلى جنبتَي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داع يقول: يا أيها الناس، ادخلوا الصراط جميعا ولا تعوجوا، وداع يدعو من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب، قال: ويحك، لا تفتحه؛ فإنك إن تفتحه تلجه . فالصراط الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم) الحديث رواه أحمد والترمذي وغيرهما
والدار تعبر بالجنة، والمأدبة تعبر أيضا بالإسلام، والداعي الذي يدعو إلى المادبة محمد صلى الله عليه وسلم، فمن أجاب الداعي ودخل الدار، فتلك الرؤيا بشارة له بالجنة إن شاء الله لحديث البخاري: جاءت ملائكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم، وفيه: مثله كمثل رجل بنى داراً وجعل فيها مأدبة وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم ياكل من المأدبة
والإبل تعبر بالعز، والغنم بالبر كة، والخيل بالخير لحديث ابن ماجه: الإبل عز لأهلها، والغنم بركة ، والخير معقود في نواصي الخيل إلى يوم القيامة
والكلب يعود في قيئه يعبر برجل يعود في هبته للحديث المتفق على صحته: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه
والأترجة تعبر بالمؤمن الذي يقرأ القرآن، والتمرة بالمؤمن الذي لا يقرأ القرآن، والريحانة بالمنافق الذي يقرأ القرآن، والحنظلة بالمنافق الذي لا يقرأ القرآن، لقوله صلى الله عليه وسلم: مثل المؤمن الذي يقرأ القرآن مثل الأترجة ريحها طيب وطعمها طيب، ومثل المؤمن الذي لا يقرأ القرآن كمثل التمرة لا ريح لها وطعمها حلو، ومثل المنافق الذي لا يقرأ القرآن كمثل الحنظلة ليس لها ريح وطعمها مر. متفق عليه
والظلم يعبر بالظلمات والعكس، والشح بالهلاك وسفك الدماء لقوله صلى الله عليه وسلم: اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دمائهم، واستحلوا محارمهم. رواه مسلم
والنخلة تعبر بالمسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: إن من الشجرة شجرة لا يسقط ورقها وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي، قال ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله، قال: هي النخلة. متفق عليه
وحامل المسك يعبر بالجليس الصالح، ونافخ الكير يعبر بالجليس السوء للحديث المتفق عليه: مثل الجليس الصالح والجليس السوء
ويكون التعبير بدلالة المعنى والقياس والتشبيه
كالنار تعبر بالفتنة، لأن النار تفسد كل ما تمر عليه وتتصل به
والنجوم بالعلماء، لحصول هداية أهل الأرض بها
والحديد وأنواع السلاح يعبران بالقوة والنصر
والرائحة الطيبة تعبر بالثناء الحسن وطيب القول والعمل
والرائحة الخبيثة بالعكس
والديك رجل عالى الهمة بعيد الصَيت
والحية عدو أو صاحب بدعة يهلك بسُمه
وخروج المريض من داره ساكتاً يعبر بموته، ومتكلماً يعبر بحياته
والخروج من الأبواب الضيقة يعبر بالفرج والنجاة
والسفر من مكان إلى مكان يعبر بالانتقال من حال إلى حال
وموت الرجل يعبر بتوبته ورجوعه إلى الله تعالى لأن الموت رجوع إلى الله تعالى
والزرع والحرث بالعمل
والكلب عدو ضعيف كثير الصخب
والأسد رجل قاهر مسلط
والثعلب يعبر برجل غادر ماكر محتال مراوغ عن الحق
وكل زيادة محمودة فى أعضاء الجسم فزيادة خير، وكل زيادة متجاوزة للحد فى ذلك فشر
وكل صعود وارتفاع فمحمود، وكل سقوط وخرور من علو إلى أسفل فمذموم
ويكون التعبير بالأسامي واشتقاق اللغة
كمن رأى رجلاً يسمى راشداً يعبر بالرشد، وإن كان يسمى سالماً يعبر بالسلامة وسعيداً بالسعادة ونافعاً بالنفع، وعقبة بالعافية، ورافعاً بالرفعة، وأحمد بالحمد وصالحاً بالصلاح
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه عن النبى صلى الله عليه وسلم قال: رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأننا فى دار عقبة بن رافع فأُتينا برطب من رطب ابن طاب، فأولت الرفعة لنا فى الدنيا، والعاقبة فى الآخرة، وأن ديننا قد طاب
قال ابن الوردي
والاشتقاق في الأسامي أصل *** عن ابن سيرين وصح النقل
فـاعمل به ان غابت الأصـول *** قَصُرت رؤيـاه والدليـــل
وان رأى المريضُ سالما نجــا *** وإن رأى مسافرا أو مخرجا
أو راحلا أو امرأةً أو سفـــــراً *** فهو قريب ساكن تحت الثرى
يقول المناوي في شرح البيتين الاخيرين الصورة الثالثة: أن يرى مريض أنه زاره رجل اسمه سالم، أو سليم، أو سلامة، أو سلمان، أو سلِمَ، أو سليمان، أو نجا، أو ناجي، فانه يسلم وينجو من مرضه
وان رأى نفسه مسافرا أو خارجا من بيته أو بلده أو رأى أنه انتقل من مكان إلى مكان أو رأى قوما سَفْراً (بفتح وسكون) أي مسافرين يعني خارجين الى السفر ونحو ذلك فانه يموت من مرضه ذلك قريبا ويسكن الثرى أي التراب وقس على ذلك
وإليك أمثلة توضيحية
رأى الحجاج بن يوسف في منامه: كأن جاريتين من الحور العين نزلتا من السماء فاخذ الحجاج إحداهما ورجعت الأخرى إلى السماء، فبلغت رؤياه ابن سيرين فقال: هما فتنتان يدرك إحداهما ولا يدرك الأخرى فأدرك الحجاج فتنة ابن الأشعث ولم يدرك فتنة ابن المهلب
في هذه الرؤيا رمزان
الاول: الجاريتان
الثاني: أخذ الحجاج إحداهما ورجوع الأخرى
وقد جعل ابن سيرين للرمز الأول أصلاً من أصول التعبير أخذه بدلالة السنة وهو تعبير النساء بالفتنة لقوله صلى الله عليه وسلم (ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء) متفق عليه
وجعل للرمز الثاني أصلاً وهو الإدراك ثم ألف بين الأصلين واستخرج معنى واضحاً فوقع كما قال
وأتى ابن سيرين رجلُ فقال: إني خطبت امرأة فرأيتها في منام سوداء قصيرة، فقال: أما سوادها فمالها وأما قصرها فعمرها فلم تلبث إلا قليلا حتى ماتت ووورثها الرجل
وهنا كذلك رمزان
الأول: سواد المرأة
الثاني: قصرها
فجعل ابن سيرين للرمز الأول أصلاً من اللغة ففي لسان العرب ولفلان سواد أي رأس مال كثير واختار للرمز الثاني أصلاً بدلالة المعنى والقياس والتشبيه فشبه البدن بالعمر في الطول والقصر ثم جمع بين هذين الأصلين واستخرج هذا المعنى
وعن عبد الله بن مُسلم قال: كنت أجالس ابن سيرين فتركت مجالسته وجالست قوماً من الإباضية فرأيت فيما يرى النائم كأني مع قوم يحملون جنازة النبي صلى الله عليه وسلم فأتيت ابن سيرين فذكرت له ذلك، فقال: ما لك جالست أقواماً يريدون أن يدفنوا ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم
في هذه الرؤيا رمزان
الأول: جنازة النبي صلى الله عليه وسلم
الثاني: حمل القوم لهذه الجنازة وارادة دفنها
فعبر ابن سيرين الرمز الأول بالحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم وعبر الرمز الثاني بالقضاء على هذا الحق ثم ألف بين هذين الأصلين واستخرج التفسير المذكور آنفا
وجاء رجل لابن سيرين فقال: إني رأيت كأن على رأسي تاجا من ذهب، فقال له ابن سيرين: اتق الله فإن أباك في أرض غربة وقد ذهب بصره وهو يريد أن تأتيه فأدخل الرجل يده في حجزته وأخرج كتاباً من أبيه يذكر فيه ذهاب بصره وأنه في أرض غربة ويأمر بالإتيان إليه
في هذه الرؤيا ثلاث رموز
الأول: الرأس
الثاني: التاج
الثالث: الذهب
واختار ابن سيرين لهذه الرموز أصولاً بدلالة المعنى واشتقاق اللغة، فالرأس رئاسة، ورئيس الإنسان أبوه، والتاج من لباس العجم، وأرض العجم أرض غربة للعرب، والذهب ذهاب البصر، ثم ألف ابن سيرين بين هذه الأصول واستخرج هذا المعنى العجاب الذي وقع كما قال
والرؤيا تقع على ما تفسر، فقد أخرج الحاكم من حديث انس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الرؤيا تقع على ما تُعبر ومثل ذلك مثل رجل رفع رجله فهو ينتظر متى يضعها، فإذا رأى أحدكم رؤيا فلا يحدث بها إلا ناصحاً أو عالماً
وأخرج أبو داود والترمذي وابن ماجه، عن أبى رزين العقيلي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الرؤيا على رِجل طائر، ما لم تعبر، فإذا عبرت وقعت. الحديث
ومن ثم نقول منبهين: لابد أن تُعبر الرؤيا على خير ما أمكن وإلا فالكف عن تفسيرها أولى وأحرى
نقل المناوي في شرحه للألفية الوردية عن بعضهم قوله: ينبغي للمعبر أن يتأنى ويتثبت، وأن يبحث بحثا تاما، وينظر تأليف الكلام ونظمه، ويميز بين حشوه، وحقيقه، وأن يقف على المقصود من كل رؤيا عرضت عليه، ثم يعرضها على قوانين التعبير، فان احتملت الرؤيا تعبيرين، يخرجها على ما هو أليق وأوفق بالرأي
وربما ترى الرؤيا ويعود تأويلها إلى أخيك أو صديقك، أو أحد أقاربك، أو من له علاقة بك، ويكون ذلك إذا كانت الرؤيا لا تليق بك معانيها، ولا يمكن أن ينال مثلك موجبها، ويكون صاحبك أحق بها منك، كدلالة الموت مثلاً لا تنقل عن صاحبها إلا أن يكون سليم الجسم في اليقظة وشريكه مريضا، فيكون لمرضه أولى بها لدنوه من الموت
وقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم في النوم مبايعة أبي جهل له، فكان ذلك لابنه عكرمة، فلما أسلم، قال صلى الله عليه وسلم: هو هذا. ورأى لأسيد بن العاص ولاية مكة، فكان لابنه عتاب بن أسيد ولاه النبي صلى الله عليه وسلم مكة
وإذا رأيت رؤيا، وكان في تأويلها عورة مسلم قد سترها الله عليه، فاستر عليه، ولا تحكها، ولا تسمه فيها إن ذكرتها فإنك إن فعلت ذلك اغتبت أخاك
قال ابن الوردي
واكتم عوار الناس إن عبرتا *** واحذر من الإعجاب إن أصبتا
وغلب الأرجح والأقوى اعتبر *** إذ في المنام الخير والشر حضر
وأعلم أن التأويل يختلف باختلاف أقدار الأشخاص وهيئاتهم، فلكل إنسان تعبير يناسبه، وتأويل يليق به، فتكون لواحد رحمة، وعلى الآخر عذابا
سأل رجل ابن سيرين قال: رأيت في المنام كأني أؤذن قال: تحج، وسأله آخر: فأوله بقطع يده في السرقة، فقيل له في التأويلين، فقال: رأيت الأول على سيما حسنة، فأولت قوله سبحانه وتعالى (وأذن في الناس بالحج)، ولم أرض هيئة الثاني فأولت قوله عز وجل: ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون
وربما رأى الصبي الصغير الشيء فكان لأحد أبويه، والعبد فكان لسيده، والمرأة فكان لبعلها أو لأهل بيتها
قال ابن الوردي
والعبد رؤياه تخص المولى *** وما ترى المرأةُ نال البعلا
وانقل إلى الوالد رؤيا الطفل *** إن كان هؤلاء غيرَ أهل
وإن كانت الرؤيا غريبة نادرة لم تقع مثلها فلا يتجاسر، ولا يبادر في تفسيرها، بل يتوقف فيها حتى تظهر عاقبتها
وبالله التوفيق
وصل اللهم وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
1437-11-04هـ
ألقيت هذه المحاضرة في جامع موضي بمحافظة الدرعية عام 1430 هـ