الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
وبعد:
* قول الحق تبارك وتعالى " والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر ولا يقتلون النفس التي حرَّم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاماً * يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهاناً " الفرقان 68 ، 69 .
هذه الآية العظيمة فيها التحذير من الشرك والقتل والزنا والوعيد لأصحاب هذه الجرائم بما ذكره الله سبحانه وتعالى في قوله: "ومن يفعل ذلك يلق أثاماً"، أي: إثمًا كبيرًا عظيمًا، فسره سبحانه بقوله: " يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا "، فهذا جزاء من اقترف هذه الجرائم الثلاث أنه يضاعف له العذاب ويخلد فيه مهاناً لا مُكَرَّماً .
وهذه الجرائم الثلاث مختلفة في المراتب ، فجريمة الشرك هي أعظم الجرائم وأعظم الذنوب ، وصاحبُها مخلدٌ في النار لا يخرج من النار أبداً بإجماع أهل العلم كما قال الله تعالى "ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر أولئك حبطت أعمالهم وفي النار هم خالدون " التوبة 17 ، وقال تعالى " ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون " الأنعام 88 ، وقال سبحانه " ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين " الزمر 65 ، وقال في حقهم " يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم " المائدة 37 .
فالمشرك إذا مات على شركه ولم يتب فإنه مخلد في النار ، والجنة عليه حرام والمغفرة عليه حرام بإجماع المسلمين ، قال تعالى " إنه من يشرك بالله فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار " المائدة 72 ، وقال سبحانه " إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء 48 ، فجعل المغفرة حراماً على المشرك إذا مات على الشرك ، أما ما دون الشرك فهو تحت مشيئة الله.
والخلاصة أن المشرك إذا مات على شركه فهو مخلد في النار أبد الآباد بإجماع أهل العلم ، وذلك مثل الذي يعبد الأصنام أو الأحجار أو الأشجار أو الكواكب أو الشمس أو القمر أو الأنبياء ، أو يعبد الأموات ومن يسمونهم بالأولياء أو يستغيث بهم ويطلب منهم المدد أو العون عند قبورهم أو بعيداً منها ، مثل قول بعضهم : يا سيدي فلان المدد المدد ، أو يا سيدي البدوي المدد المدد ، أو يا سيدي عبد القادر أو يا سيدي يا رسول الله المدد المدد الغوث الغوث ، أو يا سيدي الحسين أو غير ذلك ممن يدعوه المشركون ، وهذا كلُه من الشرك الأكبر والعياذ بالله ، فإذا مات عليه صاحبُه صار من أهل النار - والعياذ بالله - والخلود فيها .
أما الجريمة الثانية وهي القتل ، والثالثة وهي الزنا : فهاتان الجريمتان دون الشرك وهما أكبر المعاصي وأخطرها إذا كان من تعاطاهما لم يستحلهما بل يعلم أنهما محرمتان ولكن حمله الغضب أو الهوى أو غيرُ ذلك على الإقدام على القتل وحمله الهوى والشيطان على الزنا وهو يعلم أن القتل بغير حق محرَّم وأن الزنا محرم ، فأصحاب هاتين الجريمتين متوعدون بالعقوبة المذكورة إلا أن يعفو الله عنهم أو يمنَّ عليهم بالتوبة النصوح قبل الموت .
ولعظم هاتين الجريمتين وكثرةِ ما يحصل بهما من الفساد قرنهما الله بجريمة الشرك في هذه الآية ، وتوعد أهلَ هذه الجرائم الثلاث بمضاعفة العذاب والخلود فيها تنفيراً منها وتحذيراً للعباد من عواقبها الوخيمة ، ودلَّت النصوص الأخرى من الكتاب والسنة على أن القتل والزنا دون الشرك في حق من لم يستحلهما وأنهما داخلان في قوله تعالى " ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء " النساء 48 ، أما من استحلهما فهو كافر حكمه حكم الكفرة في الخلود في العذاب يومَ القيامة .
ومن تاب من أهل هذه الجرائم الثلاث وغيرِها توبةً نصوحاً فإن الله يغفر له ويبدل سيئاته حسناتٍ إذا أتبع التوبةَ بالإيمان والعملِ الصالح كما قال سبحانه بعدما ذكر هذه الجرائم الثلاث وعقوبة أصحابها " إلا من تاب وءامن وعمل عملاً صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً " الفرقان 70 ، فالله سبحانه يغفر لأهل المعاصي التي دون الشرك إذا شاء ذلك ، أو يعذبُهم في النار على قدر معاصيهم ثم يخرجهم منها بشفاعة الشفعاء كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعةِ الملائكة والمؤمنين، ويبقى في النار أقوامٌ من أهل التوحيد لا تنالهم الشفاعة من أحد فيخرجهم الله سبحانه وتعالى برحمته لأنهم ماتوا على التوحيد والإيمان ولكن لهم أعمال خبيثة ومعاصي دخلوا بها النار ، فإذا طُهِّروا منها ومضت المدة التي كتب الله عليهم أخرجوا من النار برحمة من الله عز وجل ويُلْقَوْنَ في نهر يقال له ( نهرُ الحياة ) من أنهار الجنة ينبتون فيه كما تنبت الحبة في حميل السيل ، فإذا تم خلقهم أدخلهم الله الجنة ، وبهذا يُعْلَمُ أن العاصي كالقاتل والزاني لا يخلد في النار خلودَ الكفار بل له خلود خاص على حسب جريمته لا كخلود الكفار ، فخلود الشرك خلودٌ دائم ليس له منه محيص وليس له نهاية كما قال تعالى في حق المشركين " كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم وما هم بخارجين من النار " البقرة 167 ، وقال تعالى " إن الذين كفروا لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه ليفتدوا به من عذاب يوم القيامة ما تُقبِّل منهم ولهم عذاب أليم * يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها ولهم عذاب مقيم " المائدة 36 ، 37 .
الله عز وجل يبتلي عباده بالسراء والضراء وبالشدة والرخاء ، وقد يبتليهم بها ؛ لرفع درجاتهم وإعلاء ذكرهم ومضاعفة حسناتهم كما يفعل بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام ، والصالحين من عباد الله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم "حينما سُئِلَ:" أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً قال الأنبياءُ ثم الأمثلُ فالأمثلُ يُبتَلى الناسُ على قدرِ دِينِهم " ( قلت: صححه الألباني في صحيح الترغيب) ، وتارة يفعل ذلك سبحانه بسبب المعاصي والذنوب ، فتكون العقوبة معجلة كما قال سبحانه " وَمَآ أَصَٰبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍۢ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍۢ " الشورى 30 ، فالغالب على الإنسان التقصير وعدم القيام بالواجب ، فما أصابه فهو بسبب ذنوبه وتقصيره بأمر الله .
فالحاصل أنه قد يكون البلاء لرفع الدرجات وإعظام الأجور كما يفعل الله بالأنبياء وبعض الأخيار ، وقد يكون لتكفير السيئات كما في قوله تعالى " من يعمل سوءاً يُجز به " النساء 123 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ. " ، رواه البخاري ، وقوله صلى الله عليه وسلم " من يرد الله به خيراً يصب منه " .رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه .
وقد يكون ذلك عقوبة معجلة بسبب المعاصي وعدم المبادرة للتوبة كما في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال " إذا أرادَ اللَّهُ بعبدِه الخيرَ عجَّلَ لَه العقوبةَ في الدُّنيا ، وإذَا أرادَ اللَّهُ بعبدِه الشَّرَّ أمسَك عنهُ بذنبِه حتَّى يوافيَ بِه يومَ القيامة" ( قلت: أخرجه الترمذي وحسنه الألباني) .
وبالله التوفيق