إن الحمد لله، نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا وسيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابِه، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وبعد:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
لا أريد أن أتحدث إليكم عن الإسرائيليات في كتب التفسير فالوقت يضيق بذلك، ثم إنني إذا ذكرت الأقوال الباطلة في تفسير الآية ربما ترسخ في الذهن فيشتبه الحق بالباطل.
والتفصيل في ذلك ذكرته في بحثي الذي قدمته لنيل درجة الدكتوراه وكان البحث من 450 صفحة ، وقبل ذكر الآيات والتفسير الصحيح لها لا بدمن الإشارة إلى تعريف الإسرائيليات
فالإسرائيليات جمع إسرائيلية نسبة إلى بني إسرائيل. وإسرائيل هو: يعقوب عليه السلام أي عبد الله وبنو إسرائيل هم: أبناء يعقوب، ومن تناسل منهم فيما بعد إلى عهد عيسى عليه السلام وهو آخر أنبياء بني إسرائيل.
وقد أكثر الله من خطابهم ببني إسرائيل في القرآن الكريم تذكيرا لهم بأبوة هذا النبي الصالح، حتى يتأسوا به، ويتخلقوا بأخلاقه، وقد ذكرها الله في قوله "الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإنجيل، مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَان" آل عمران من 1-4 ، وقال " إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ" المائدة 44 ، والمراد بها التوراة التي نزلت من عند الله قبل التحريف والتبديل، أما التوراة المحرفة المبدلة، فهي بمعزل عن كونها كلها هداية، وكلها نور، وكذا الحكم في الإنجيل التي نزلت بعد التوراة، والقرآن هو الشاهد والمهيمن على الكتب السماوية السابقة، فما وافقه فهو حق، وما خالفه فهو باطل، ومن كتبهم أيضا الزبور وهو كتاب الله أنزله على داود عليه السلام.
ثانياً: الفرق بين التفسير والتأويل:
التفسير لغة: مصدر فسَّرَه بتشديد السين مأخوذة من الفسر بمعنى البيان، وأما في الاصطلاح فقد اختلفت أساليب العلماء في تفسيره:
فمنهم من أطال في تعريفه فقال: هو علم نزول الآيات، وشئونها وأقاصيصها، والأسباب النازلة فيها، ثم ترتيب مكيها، ومدنيها وبيان محكمها، ومتشابهها، وناسخها، ومنسوخها، وخاصها، وعامها، ومطلقها، ومقيدها، وحلالها وحرامها ونحو ذلك.
وهذا التعريف غير جلِي ولا واضح، وكذلك لم يصرح بالغرضين الأهمين اللذين نزل لهما القرآن: وهما: كونه كتاب الهداية البينة التي هي أوضح الهدايات، وأقومها، قال الزركشي في البرهان: التفسير: علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبيان معانيه واستخراج أحكامه، وحكمه، واستمداد ذلك من علم اللغة، والنحو، والتصريف وعلم البيان وأصول الفقه والقراءات ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.
وهذا التعريف أوضح، وأيسر، وأدل على الغرضين الأهمين، اللذين ذكرناهما آنفا.
ومن العلماء من أوجز في التعريف، فقال: هو علم يبحث فيه عن أحوال القرآن الكريم؛ من حيث دلالته على مراد الله بقدر الطاقة البشرية.
التأويل:
التأويل لغةً: أصلُه من الأول، وهو الرجوع، فكأن المؤول للآية رجع بها إلى ما تحتمله من المعاني
وقيل: مأخوذ من الإيالة وهي السياسة، كأن المؤول للكلام ساسه، وتناوله بالمحاورة والمداورة حتى وصل إلى المراد منه
أما معناه في الاصطلاح: فقد قال أبو عبيد بن سلام، وطائفة من العلماء: هما بمعنى واحد، وعلى هذا: فيعرف بما عرف به التفسير، وقد أنكر ذلك بعض العلماء، بل بالغوا في الإنكار وقال الراغب الأصفهاني في مفرداته: التفسير أعم من التأويل وأكثر استعمالاته في الألفاظ ومفرداتها، وأكثر استعمال التأويل في المعاني والجمل وقال بعض العلماء: التفسير: يتعلق بالرواية، أي التفسير بالمأثور، والتأويل: يتعلق بالدراية؛ أي التفسير بالرأي والاجتهاد، ومهما يكن فقد شاع واشتهر أن التفسير أعم من أن يكون بالمأثور، أو بالرأي والاجتهاد، وأعم من أن يكون متعلقا باللفظ أو بالمعنى.
ثالثاً: شروط المفسر:
أولاً: صحة الاعتقاد.
ثانياً: التجرد من الهوى .
ثالثاً: أن يبدأ المفسر أولاً بتفسير القرآن بالقرآن.
رابعاً: أن يطلب التفسير من صحيح السنة.
خامساً: إذا لم يجد المفسر التفسير من السنة رجع إلى أقوال الصحابة الكرام.
سادساً: إذا لم يجد المفسر التفسير في القرآن ولا في السنة ولا في أقوال الصحابة فقد رجع كثير من الأئمة في ذلك إلى أقوال التابعين.
سابعاً: العلم باللغة العربية
ثامناً: العلم بأصول العلوم المتصلة بالقرآن.
تاسعاً: دقة الفهم التي تمكن المفسر من الترجيح والاستنباط.
رابعاً: أشهر المفسرين من الصحابة.
أولاً: أبو بكر الصديق.
ثانياً: عمر بن الخطاب.
ثالثاً: عثمان بن عفان.
رابعاً: علي بن أبي طالب.
خامساً: عبد الله بن مسعود.
سادساً: أبي بن كعب.
سابعاً: زيد بن ثابت.
ثامناً: عبد الله بن عباس.
تاسعاً: أبو موسى الأشعري.
عاشراً: عبد الله بن الزبير.
خامساً: أشهر المفسرين من التابعين:
أولاً: مجاهد بن جبر.
ثانياً: سعيد بن جبير.
ثالثاً: عكرمة مولى بن عباس.
رابعاً: عطاء بن أبي رباح.
خامساً: الحسن البصري.
سادساً: مسروق بن الأجدع.
سابعاً: سعيد بن المسيب.
ثامناً: أبو العالية.
تاسعاً: الربيع بن أنس.
عاشراً: الضحاك بن مزاحم.
أيها الأخوة
بعد هذه المقدمة أبدأ بذكر التفسير الصحيح لبعض الآيات متجنباً الأقوال الإسرائيلية فيها نظراً لضيق الوقت
أبدأ بقول الله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة 27
لن أذكر لكم ما قاله ابن جرير في تفسيره لهذه الآية كما لن أذكر لكم ما قاله السيوطي في تفسيره الدر المنثور، حيث كتبا في ذلك أكثر من خمس وثلاثين صفحة، ولست في مقام التطاول عليهما غير أني ذكرت أقوالهما في رسالتي، وأكتفي بما وجه ابن كثير في تفسيره إلى القول الصحيح متجنباً الأقوال المرجوحة فقال وأما قوله تعالى (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة 27 ، فالقواعد: جمع قاعدة، وهي السارية والأساس
يقول تعالى: واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، البيت، ورفعهما القواعد منه، وهما يقولان (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى ((وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا ۖ إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) الآية، القواعد أساسه واحدها قاعدة، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة
ذُكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل، عليه السلام، بمدد طويلة وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين وقد نقل معهم في الحجارة، وله من العمر خمس وثلاثون سنة.قال ابن إسحاق: وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً، وكانت تكسى القباطي، ثم كسيت بعد البرود، وأول من كساها الديباج الحجاج بن يوسف.
قلت: ولم تزل على بناء قريش حتى أحترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين، وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية، لما حاصروا ابن الزبير، فحينئذ نقضها ابن الزبير إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم، عليه السلام، وأدخل فيها الحجر وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض، كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين، رضي الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجاج، فردها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك، كما قال مسلم في صحيحه.
وذُكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير، فقال له مالك: يا أمير المؤمنين، لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك، لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها، فترك ذلك الرشيد، نقله عياض والنووي، ولا تزال والله أعلم هكذا إلى آخر الزمان، إلى أن يخربها ذو السويقتين من الحبشة، كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) أخرجاه، وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال (كأني به أسود أفحَجَ، يقلعها حجراً حجراً) رواه البخاري
وقال الإمام أحمد في مسنده عن عمرو بن العاص، رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (يُخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة، ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها. ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمسحاته ومعوله) الفدع: زيغ بين القدم وعظم الساق
وهذا والله أعلم إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج، لما جاء في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليحجن البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج ".
ثانياً: ومن الإسرائيليات ما ذكره غالب المفسرين في تفاسيرهم في قصة طالوت وتنصيبه ملكاً على بني إسرائيل واعتراض بني إسرائيل عليه وإخبار نبيهم لهم بالآية الدالة على ملكه وهي التابوت فقد ذكر ابن جرير والقرطبي والسيوطي وغيرهم في تفاسيرهم أقوالاً طويلة أكثر من عشرين صفحة، وأصرف النظر عن ذكرها لكم مكتفياً بقول ابن كثير رحمه الله في تفسيره للآية (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَىٰ وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) البقرة 148
يقول نبيهم لهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي كان أخذ منكم، (فِيه سَكِينَهّ مِنْ رَبّكُمْ) التفسير الصحيح للسكينة والذي ينبغي أن تفسر به السكينة أن المراد بها: الطمأنينة والسكون الذي يحل بالقلب عند تقديم التابوت أمام الجيش، فهي من أسباب السكون والطمأنينة وبذلك تقوى نفوسهم وتشتد معنوياتهم فيكون ذلك من أسباب النصر فهو مثل قوله تعالى (فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْه) أي طمأنينته وما ثبت به قلبه
قال عبد الحق بن عطية: والصحيح أن التابوت كانت فيه أشياء فاضلة، من بقايا الأنبياء وآثارهم، فكانت النفوس تسكن إلى ذلك، وتأنس، وتقوى.
القول الصحيح في التابوت:
الذي نقطع به، ويجب الإيمان به: أنه كان في بني إسرائيل تابوت أي صندوق من غير بحث في حقيقته وهيئته، ومن أين جاء؛ إذ ليس في ذلك خبر صحيح عن المعصوم، وأن هذا التابوت كان فيه مخلفات من مخلفات موسى، وهارون عليهما السلام، وأن هذا التابوت كان مصدر سكينة، وطمأنينة بني إسرائيل، ولاسيما عند قتال عدوهم، وأنه عاد إلى بني إسرائيل، تحمله الملائكة، من غير بحث في الطريق التي حملته بها الملائكة، وبذلك كان التابوت آية على صدق طالوت في كونه ملكا عليهم.
ثالثاً: الإسرائيليات في قصة قتل داود جالوت:
ومن الإسرائيليات ما يذكره المفسرون في قصة قتل داود جالوت، فقد ذكر السيوطي في تفسيره الدر المنثور أقوالاً كثيرة في قوله تعالى (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) البقرة 251
أصرف النظر عنها حيث ضمنها أقوال ابن جرير، فقوله تعالى (وَقَتَلَ دَاوٌدُ جَالُوتَ) ذكر بعض المفسرين أنه قتله بمقلاع كان في يده رماه به فأصابه فقتله، فآل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة; ولهذا قال تعالى (وآتاه الله اُلْمُلْكَ) الذي كان بيد طالوت والحكمة أي: النبوة بعد شمويل (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) أي: مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: الإسرائيليات في المائدة التي طلبها الحواريون:
ومن الإسرائيليات التي ذكرها المفسرون عند تفسير قوله تعالى (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ ۖ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُوا نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ * قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ ۖ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ ۖ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَّا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ) المائدة: 112 – 115
ذكر ابن جرير والسيوطي والقرطبي وابن كثير أقوالاً لم يذكر أحد منهم أن هذا هو القول الصحيح، لذا صرفت النظر عن ذكرها لكم واكتفيت بما ذكره الشيخ أبو شهبة في كتابه (الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير) وهذا نصه: قال الله تعالى (إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ)المائدة 122، إذ: ظرف زمان لما مضى من الزمان، وهو مفعول لفعل محذوف، والتقدير: اذكر يا محمد ما حدث في هذا الزمن البعيد؛ ليكون دليلًا على صدق نبوتك، فما كنت معهم، ولا صاحبت أهل الكتاب، ولم تكن قارئاً، ولا كاتباً.
الحواريون: جمع حواري وهم: المخلصون الأصفياء من أتباع عيسى عليه السلام ويطلق أيضا على الأصحاب المخلصين من أتباع الأنبياء، وفي صحيح البخاري: (إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوارِيًّا وإنَّ حَوارِيَّ الزُّبَيْرُ بنُ العَوّامِ. ) يعني الزبير بن العوام.
المائدة: الخوان الذي عليه الطعام، إلى آخر ما ذكره متجنباً ذكر أوصاف المائدة وما عليها من الأطعمة وطريقة نزولها إذ لا دليل من القرآن على ما ذكره المفسرون في ذلك، وليس في الآية ما يدل على أنهم كفروا ولا على أن غيرهم قد كفر بها.
خامساً: الإسرائيليات في سؤال موسى ربه الرؤيا:
ذكر الألوسي في تفسيره روح المعاني أقوالاً لن أذكرها لكم وكذا ابن جرير إذ قد فند ابن كثير رحمه الله هذه الأقوال بصفة عامة في تفسيره بقوله عند قوله تعالى (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الأعراف: 143
يخبر تعالى عن موسى، عليه السلام، أنه لما جاء لميقات الله تعالى، وحصل له التكليم من الله تعالى سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال: رب أرني أنظر إليك قال: لن تراني، قال السدي عن ابن عباس في قول الله تعالى (فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) قال: ما تجلى منه إلا قدر الخنصر (جَعَلَهُ دَكْا) قال: ترابا، (وَخَرَّ موسَى صَعِقاً) قال: مغشيا عليه. رواه ابن جرير.
سادساً: الإسرائيليات في قوله تعالى (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ ۖ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ) يوسف آية 24
قال ابن كثير: المراد بهمه بها هم خطرات حديث النفس. حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق، ثم أورد البغوي حديث عبد الرزاق عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم (يقول الله تعالى إذا هم عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها، وإن هم بسيئة فلم يعملها فاكتبوها حسنة، فإنما تركها من جرائي، فإن عملها فاكتبوها بمثلها) وهذا الحديث مخرج في الصحيحين وله ألفاظ كثيرة، هذا منها، وأما البرهان الذي رآه قال ابن جرير: والصواب أن يقال: إنه رأى آية من آيات الله تزجره عما كان هم به.
وقوله (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ) أي: كما أريناه برهاناً صرفه عما كان فيه، كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره، (إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) أي: من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار، صلوات الله وسلامه عليه
سابعاً: ومن الإسرائيليات ما ذكره ابن كثير وابن جرير والسيوطي في تفاسيرهم عند قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) الرعد آية 29
ولن أقتطف شيئاً مما ذكروه، بل سأقتصر على ما ذكره أبو شهبة قال: والمأثور عن السلف في تفسير طوبى غير ذلك، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسيرها: فرَح لهم وقرة عين
وروي أيضًا عن بعض الصحابة، وغير واحد من السلف: أن طوبى شجرة في الجنة، بل ورد ذلك عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً: طوبى شجرة في الجنة، ظلها مسيرة مائة سنة، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها.
بل قيل: إنها الشجرة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله (إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها) رواه البخاري، ومسلم، وفي بعض روايات البخاري: اقرأوا إن شئتم: (وَظِلٍّ مَمْدُود)
ثامناً: الإسرائيليات في سورة الإسراء وذلك في إفساد بني إسرائيل، وما يذكره بعض المفسرين عند قوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ ۖ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ۚ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ۚ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) الإسراء: 4 -8
لقد أسهب في ذلك ابن جرير في تفسيره وكتب في هذه الآية عشرين صفحة، ولن أشير إلى ما كتب ويرحم الله الإمام الحافظ الناقد ابن كثير حيث قال في تفسيره يخبر تعالى إنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب، أي: تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علواً كبيرا، أي: يتجبرون ويطغون ويَفْجرون على الناس كقوله تعالى (وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآَءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ) أي: تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به.
وقوله (فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أولاهما) أي: أولى الإفسادتين (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ) أي: سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد، أي: قوة وعدة وسلطنة شديدة (فَجَاسُواْ خلال الدّيَارِ) أي: تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم، أي: بينها ووسطها، وانصرفوا ذاهبين وجائين لا يخافون أحدا (وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً) وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف في هؤلاء المسلطين عليهم: من هم ؟ فعن سعيد بن جبير وغيره : أنه بختنصر ملك بابل.
وقد ذكر ابن أبي حاتم له قصة عجيبة في كيفية ترقيه من حال إلى حال، إلى أن ملك البلاد، وأنه كان فقيرا مقعدا ضعيفا يستعطي الناس ويستطعمهم، ثم آل به الحال إلى ما آل، وأنه سار إلى بلاد بيت المقدس، فقتل بها خلقا كثيرا من بني إسرائيل
وقد أخبر الله تعالى أنهم لما طغوا وبغو سلط الله عليهم عدوهم، فاستباح بيضتهم، وأذلهم وقهرهم، جزاء وفاقا، وما ربك بظلام للعبيد؛ فإنهم كانوا قد تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء، وقد روى ابن جرير في سنده عن يحيى بن سعيد قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: ظهر بختنصر على الشام، فخرب بيت المقدس وقتلهم، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا، فسألهم: ما هذا الدم، فقالوا أدركنا آباءنا على هذا، وكلما ظهر عليه الكبار ظهر، قال: فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن.
وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب، وهذا هو المشهور، وأنه قتل أشرافهم وعلمائهم، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة، وأخذ معه خلقا كثيراً أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم
وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها، ثم قال تعالى (إِنْ أًحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَاْتُمْ فَلَهَا) أي: عليها، وقوله (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي: الكرة الآخرة أي: إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعدائكم (لِيَسُوؤُوا وُجُهَكُمْ) أي: يهينوكم ويقهروكم (وَلِيَدْخُلُو الْمَسْجِد) أي بيت المقدس (كَمَا دَخَلُوهُ أَوَلَّ مَرَّةٍ) أي: التي جاسوا فيها خلال الديار (وَلِيُتَبِرُوا) أي: يدمروا ويخربوا (مَاعَلَوْا) أي: ما ظهروا عليه تتبيرا.
(عسى ربكم أن يرحمكم): أي: فيصرفهم عنكم (وَإنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) أي: متى عدتم إلى الإفساد (عُدْنَا) إلى الإدالة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال؛ ولهذا قال (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) أي: مستقرا ومحصرا وسجنا لا محيد لهم عنه.
قال ابن عباس (حَصِيرًا) أي: سجنا، وقال قتادة: قد عاد بنو إسرائيل، فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون
أيها الإخوة
هذا هو الحق الذي ينبغي أن يصار إليه في الآية، والقصص القرآني لا يعنى بذكر الأشخاص، ولا الأماكن؛ لأن الغرض منه العبرة، والتذكير، والتعليم والتأويل، والذي دلت عليه الآية: أنهم أفسدوا مرتين في الزمن الأول، وظلموا وبغوا، فسلط الله عليهم في الأولى من أذلهم وسباهم وهو بختنصر وجيشه؛ وسلط الله عليهم في الثانية من أذلهم، وساء وجوههم، ودخل المسجد الأقصى، فأفسد فيه، ودمر، ولا يعنينا أن يكون هذا الذي نكل بهم هو: طيطوس الروماني أو غيره؛ لأن المراد من سياق قصته ما قضاه الله على بني إسرائيل أنهم أهل فساد، وبطر، وظلم، وبغي، وأنهم لما أفسدوا وطغوا، وتجبروا سلطه الله عليهم من عباده من نكل بهم، وأذلهم، وسباهم، وشردهم، ثم إن الآيات دلت أيضا على أن بني إسرائيل لا يقف طغيانهم، وبغيهم، وإفسادهم عند المرتين الأوليين، بل الآية توحي بأن ذلك مستمر إلى ما شاء الله، وأن الله سيسلط عليهم من يسومهم العذاب، ويبطش بهم، ويرد ظلمهم وعدوانهم، قال عز شأنه (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا) أليس في قوله هذا إنذار ووعيد
وما يؤكد هذا الإنذار والوعيد قوله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
تاسعاً: الإسرائيليات في قصة بلقيس ملكة سبأ
ومن الإسرائيليات ما ذكره بعض المفسرين عند تفسير قوله (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ ۖ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ ۗ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) النمل آية: 44.
والحق: أن سليمان عليه الصلاة والسلام أراد ببنائه الصرح أن يريها عظمة ملكه، وسلطانه، وأن الله سبحانه وتعالى أعطاه من الملك، وحاشا لسليمان عليه السلام وهو الذي سأل الله أن يعطيه حكما يوافق حكمه، فأوتيه أن يتحايل هذا التحايل، حتى ينظر إلى ما حرم الله عليه، وهما ساقاها، وهو أجل من ذلك وأسمى
ولولا أنها رأت من سليمان الدين المتين، والخلق الرفيع، لما أذعنت إليه لما دعاها إلى الله الواحد الحق، ولما ندمت على ما فرط منها من عبادة الكواكب والشمس، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين
عاشراً: الإسرائيليات في قصة داود عليه السلام:
ومن الإسرائيليات التي تخل بمقام الأنبياء وتنافي عصمتهم ما ذكره بعض المفسرين في قصة داود عليه السلام عند تفسير قوله تعالى (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَىٰ دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ ۖ قَالُوا لَا تَخَفْ ۖ خَصْمَانِ بَغَىٰ بَعْضُنَا عَلَىٰ بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَىٰ سَوَاءِ الصِّرَاط * إِنَّ هَٰذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَاب * قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِ ۖ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ ۗ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ * فَغَفَرْنَا لَهُ ذَٰلِكَ ۖ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ وَحُسْنَ مَآبٍ) ص: 21 – 25
قد ذكر المفسرون هاهنا قصة مأخوذة من الإسرائيليات ولم يثبت فيها عن المعصوم صلى الله عليه وسلم حديث يجب اتباعه.
لذا نعزف عن ذكر القصص الغير موثقة ونشير إلى المعنى العام عند قوله تعالى (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه، وهو أشرف مكان في داره وكان قد أمر ألا يدخل عليه أحد ذلك اليوم فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب أي: احتاطا به يسألانه عن شأنهما.
وقوله عز وجل (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ) أي: غلبني يقال : عزَ يعز: إذا قهر وغلب.
وقوله تعالى (وَظَنَّ دَاوُودُ أَنّمَاَ فَتَنَّاهُ) قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أي اختبرناه.
وقوله (وَخَرَّ رَاكِعاً) أي: ساجدا وأناب، (فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ) أي: ما كان منه وقيل: إنه أوخذ؛ لأنه حكم بمجرد سماعه لكلام أحد الخصمين، وكان عليه أن يسمع كلام الخصم الآخر، وقد قيل: إذا جاءك أحد الخصمين، وقد فقئت عينه، فلا تحكم له؛ لجواز أن يكون خصمه قد فقئت عيناه، فإنها وإن كانت لا تخل بالعصمة لكنها تخدشها، ثم هي لا تليق بالصفوة المختارة من الخلق، وهم الأنبياء
الحادية عشرة: الإسرائيليات في قصة أيوب عليه السلام:
ومن القصص التي تزيَّد فيها المتزيدون، واستغلها القصاصون، وأطلقوا فيها لخيالهم العنان، قصة أيوب عليه السلام، فقد رووا فيها ما عصم الله أنبياءه، وصوروه بصورة لا يرضاها الله لرسول من رسله، غير أن أنقى ما ذُكر عند تفسير قوله تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)ص: 41 – 44
يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله أيوب عليه السلام وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليما سوى قلبه ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله ورسوله فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه نحوا من ثماني عشرة سنة، وقد كان قبل ذلك في مال جزيل وأولاد وسعة طائلة من الدنيا فسُلب جميع ذلك ورفَضه القريب والبعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحا ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريبا، فلما طال المطال واشتد الحال وانتهى القدر وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال (أَنِّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّحِمِينَ) وفي هذه الآية الكريمة قال (وَاْذْكُرَ عَبْدَنَآ أَيُوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّى مَسَّنِىَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) قيل : بنصب في بدني وعذاب في مالي وولدي، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين وأمره أن يقوم من مقامه وأن يركض الأرض برجله، ففعل فأنبع الله عينا وأمره أن يغتسل منها فأذهب جميع ما كان في بدنه من الأذى وتكاملت العافية ظاهرا وباطناً ولهذا قال تعالى: (اُرْكضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ ).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنَّ نبيَّ اللهِ أيُّوبَ لبث به بلاؤُه ثمانيَ عشرةَ سنةً ، فرفضه القريبُ والبعيدُ ، إلَّا رَجلَيْن من إخوانِه كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدُهما لصاحبِه ذاتَ يومٍ : تعلمُ واللهِ لقد أذنب أيُّوبُ ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين ، فقال له صاحبُه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثمانيَ عشرةَ سنةً لم يرحَمْه اللهُ فيكشِفَ ما به ، فلمَّا راحا إلى أيُّوبَ لم يصبِرِ الرَّجلُ حتَّى ذكر ذلك له ، فقال أيُّوبُ : لا أدري ما تقولان غير أنَّ اللهَ تعالَى يعلمُ أنِّي كنتُ أمرُّ بالرَّجلَيْن يتنازعان ، فيذكران اللهَ فأرجِعُ إلى بيتي فأُكفِّرُ عنهما كراهيةَ أن يُذكَرَ اللهُ إلَّا في حقٍّ ، قال : وكان يخرُجُ إلى حاجتِه فإذا قضَى حاجتَه أمسكته امرأتُه بيدِه حتَّى يبلُغَ ، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها وأُوحي إلى أيُّوبَ أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فاستبطأته ، فتلقَّته تنظُرُ وقد أقبل عليها قد أذهب اللهُ ما به من البلاءِ وهو أحسنُ ما كان ، فلمَّا رأته قالت : أيْ بارك اللهُ فيك ، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبتلَى ، واللهِ على ذلك ما رأيتُ أشبهَ منك إذ كان صحيحًا ، فقال : فإنِّي أنا هو : وكان له أندَران أي (بيدران): أندَرُ للقمحِ وأندَرُ للشَّعيرِ ، فبعث اللهُ سحابتَيْن ، فلمَّا كانت إحداهما على أندرِ القمحِ أفرغت فيه الذَّهبَ حتَّى فاض ، وأفرغت الأخرَى في أندرِ الشَّعيرِ الورِقَ حتَّى فاض " السلسلة الصحيحة للألباني.
وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيْنَما أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا خَرَّ عليه رِجْلُ جَرادٍ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي في ثَوْبِهِ، فَنادَى رَبُّهُ: يا أيُّوبُ ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قالَ: بَلَى، يا رَبِّ، ولَكِنْ لا غِنَى بي عن بَرَكَتِكَ. ) صحيح البخاري.
وبالله التوفيق
وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
1437-11-04هـ
ألقيت هذه المحاضرة في جامع الملك عبد العزيز بمحافظة الخرج عام 1429 هـ