الحمد لله والصلاة على رسول الله
أحبتي في الله
أحييكم بتحية الإسلام الخالدة فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
وبعد
أتشرف باللقاء بكم في بيت من بيوت الله ابتغاء مرضاته وتقرباً إليه فحياكم الله
تجيء الأزمة كالكير الذي يذهب خَبَثَ الحديد، كالنار التي تحرق الأرض
فتعود أخصب من أخصب منها، كالحُمى تأخذ الجسد وتطرحه وتمتصه لتطهره من الذنوب، وتجيء الأزمة وفي طيها خير للأمة
لعل عَتَبُك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعلل
وهكذا لا تنفك الأمة في كل زمن عن أزمة تكون لها كالصدمة الكهربائية التي تنفضها وتحرك دماءها الساكنة
يا ابن الإسلام
قد أَقْبَلَتْ عليك أزمة ولا بد لك من موقف، فهاك بعض المواقف أسأل الله تعالى أن ينفعك بها ويعيذنا من مضلات الأهواء والفتن
أولاً: الثبات والتثبيت
يا أيها الذين ءامنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا
الأزمات عواصف تهز الأمة؛ ولا بد للأمة من تثبيت
الهلع الذي يغمر القلوب الضعيفة يجعلها كالخشبة على ظهر الموجة، كورقة في ممر الريح
القلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر، ولجذب الشياطين، واليقين هو حظ المؤمنين ( يا أيها الذين ءامنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقو الله) في الغار، في أزمة الهجرة، تجمع شرذمة من دولة قريش يطاردون رأس
الأمة؛ يلاحقونه في الجبال، في الكهوف، في كل الدروب؛ يرسلون العيون، يتتبعون الآثار، حتى وقفوا على رأسه، وهنا يلتفت أبو بكر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفا عليه ولم يعلم أن في الجبل من هو أشد ثباتا من الجبل، قال أبو بكر رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرأيت آثار المشركين؛ قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه لرآنا، قال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما. ويستمر الثبات والتثبيت؛ قال أبو بكر: وَاتْبَعَنَا سراقة بن مالك ونحن في جَلد من الأرض؛ فقلت: يا رسول الله: أُتينا. فقال: لا تحزن؛ إن الله معنا، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتطمت فرسه إلى بطنها. رواه البخاري، (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) التوبة: 40
وفي يوم اليرموك، حين تغطرس النصارى، فقال أبو بكر رضي الله عنه: و الله لأشغلن النصارى عن وساوس الشيطان بخالد بن الوليد فجاءهم خالد، و جاءت الروم في تعبيئة لم ير الراؤون مثلها قط؛ في مائتين و أربعين ألف علج، و المسلمون لا يبلغون أربعين ألفاً، فالتفت رجل من المسلمين إلى خالد بن الوليد رضي الله عنه فقال: ما أكثر الروم و أقل المسلمين. فقال سيف الله خالد بن الوليد: ويلك بئس ما قلت، أتخوّفني بالروم، بل ما أكثر المسلمين وأقلَّ الروم، و إنما تكثر الجنود بالنصر و تقل بالخذلان وودت و الله إن الأشقر يعنى فرسه برأ من توجُّعه، و أنهم أُضعفوا في العدد
وثبتوا فثبتهم الله ونصروا الله فنصرهم
ثانياً: تثبيت العلماء
والعلماء بشر تعصف بهم الفتن كما تعصف بالناس، ويرتفع الإيمان وينخفض وتشتد العزيمة وترتخي وما زال السلف يوصي بعضهم بعضاً أن اصبروا
في موقف ينسى الحليم سداده ... ويطيش فيه النابه البيطار
في ترجمة إمام السنة والثابت يوم المحنة أحمد بن حنبل قال صالح بن أحمد سمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة ورحلنا منها في جوف الليل فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل، فقيل له: هذا، فقال للجمال على رِسلك ثم قال: يا هذا ما عليك أن تُقتل هاهنا وتدخل الجنة ثم قال: استودعك الله ومضى، وسألت عنه فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الشعر في البادية يقال له جابر بن عامر يُذكر بخير، قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق، قال: يا أحمد إن يقتلك الحق مُتَ شهيداً، وإن عشت عشت حميداً فقوي قلبي
ثالثاً: ترسيخ الإيمان
في الأزمة تقبل القلوب على خالقها، تلتفت إلى أعلى (وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه) التوبة: 118، وكلما رأت القلوب أن الدنيا أدبرت عنها أقبلت هي على الآخرة
وهناك سبب ثاني يدفعنا إلى الحرص على بث الإيمان هو أن الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيه؛ وفي الإيمان نور وغيث وهداية
الأزمة تصيب القلوب وتغمرها بالخوف والفوضى وتُزاحم الإيمان، فلا بد أن تملأ قلبك، أن تتصل بالله، أن تشحن القلوب (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون) الأنفال: 45، عن هند بنت الحارث الفِرَاسية أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعا يقول: سبحان الله، ماذا أنزل الله من الخزائن، وماذا أنزل من الفتن، من يوقظ صواحب الحجرات يريد أزواجه لكي يصلين (رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) رواه البخاري، قال ابن حجر رحمه الله: وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر؛ قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة)البقرة: 153، وكان صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة، وأمر من رأى في منامه ما يكره أن يصلي، وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة
وقال في موضع آخر في الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة؛ لتُكشف أو يَسلم الداعي ومن دعا له
ويقال هنا أيضاً: ولتكون الصلاة زادا في طريق الأزمة المظلمة (بادروا بالأعمال فتنا كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمنا ويصبح كافرا؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا) رواه مسلم، (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى)البقرة: 197
وهناك سبب ثالث يدفعنا إلى الحرص على بث الإيمان وهو أن الإيمان أمان (إن الله يدافع عن الذين آمنوا) فبقدر الإيمان تكون المدافعة (وإن الله لمع المحسنين) فبقدر الإحسان تكون المعية(أليس الله بكاف عبده) فبقدر العبودية تكون الكفاية
في اليرموك في غَور الأردن والأزمة أزمة روم انتصب سيف الله المسلول خالد بن الوليد يلقي على جيشه درسه التربوي الدعوي فحمد الله وأثنى عليه ثم قال (إن هذا يوم من أيام الله لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي أخلصوا جهادكم وأريدو لله بعملكم فإن هذا بوم له ما بعده) وبعث قائد الروم جاسوساً من نصارى العرب فاندس في الجيش وأقام يوماً وليلة يكتب التقارير ثم رجع فسأله قائده ما وراءك، فقال له يصف المسلمين (هم قوم يقومون الليل يصلون ويصومون النهار ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر رهبان بالليل أُسد بالنهار لو يسرق مَلكهم لقطعوا يده ولو زنى لرجموه لإيثارهم الحق وإتباعهم إياه على الهوى) فقال (لئن كان هؤلاء القوم كما تزعم لبطن الأرض خير لمن يريد قتالهم من ظهرها ولوددت أن حظي من الله أن يخلي بيني وبينهم فلا ينصرني عليهم ولا ينصرهم علي) وتقابل الجيشان، وتوزع القراء بين المسلمين قبل العركة يقرؤون سورة الأنفال ويتذاكرونها ويحثون الكتائب على الصبر ويثبتونها حتى إن أبا هريرة جعل يقول سارعوا إلى الحور العين وجوار ربكم عز وجل في جنات النعيم، وحتى أن أبا سفيان كان يطوف على فرق الجيش ويقول (الله الله إنكم ذادت العرب وأنصار الإسلام، إنهم ذادت الروم وأنصار الشرك اللهم إن هذا يوم من أيامك اللهم أنزل نصرك على عبادك) والتحم الجيشان وتبايع المسلمون الصادقون على الموت ودمدمت المعركة يوماً وبعض يوم ثم انقشع الغبار وقد استشهد من المسلمين ثلاثة آلاف فيهم جمع من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل من الروم مائة ألف والباقون شريد وأسير
فلما علم بذلك هرقل الروم وكان في حمص خرج يا ئساً من الشام وقال قولته الباكية: سلام عليك سورية سلام مودع لا يرى أنه يرجع إليك أبداً
رابعاً: توضيح الدين
في الأزمات يكثر السؤال، والقيل والقال، تتفرع الأسئلة وتتزايد، ويفجر الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال وتتلفت الأمة إلى قامات العلماء ليسمعوا الكلمة، والكلمة هنا غالية، لأنها قد تكلف الإنسان رأسه أو ظهره أو وظيفته، أو على الأقل ذما ونفورا، وغالية لأنها قد تخالف هوى من فوقه أو من تحته أو من معه، أو حتى هوى نفسه، وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدين؛ خاصة إذا مست الأمة في عقيدتها، وشوش التوحيد، وهشمت الثوابت، ونطق الرويبضة، فهنا (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا) النساء: 135، و اللي: هو الكذب أو التحريف، والإعراض: كتمان الحق
وهلكة العلماء في أحد هذين
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر القطيعي قال: لما أُحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحضر؛ فلما رأى الناس يجيبون وكان رجلا لينا فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين، فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت له: أبشر؛ كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون
ثمن المجد دمُ جِدنا به ... فاسألوا كيف دفعنا الثمنا
وافتح كتب التاريخ؛ لتجد صفحات أول أزمة بعد حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أزمة تشتبك فيها السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية بمسائل التوحيد والفقه؛ فيأتي عَلم الأمة أبو بكر فيقذف بكلمته ويوضح بها الدين، في الصحيحين من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبه بن مسعود أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب، فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عَصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله، فقال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. والله لو منعوني عَناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فوالله ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق
واعلم أن المعاني المجردة من التطبيق قد يتمدد العلماء وأنصاف العلماء وأرباعهم في تنظيرها؛ يَرفعون ويَخفضون، ويُوجبون ويُحرمون، ويُحكمون، ويرسمون المواقف، فإذا وقعت الأزمة وجب أن تترجم تلك المعاني إلى مواقف، إلى حركة، إلى ثمن، إلى نَعم أو لا؛ فهنا تَكُع النفوس، أو يتغير الموقف، خوفا أو ضعفا أو جهالة إلا من شاء الله، وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاء؛ فإذا وقعت الواقعة فكأنما غشيتها غمامة، قال ابن كثير في أحداث التتار: وقد تكلم الناس في كيفية قتال هؤلاء التتر من أي قبيل هو ، فإنهم يظهرون الإسلام، وليسوا بغاة على الإمام ، فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقت ثم خالفوه ، فقال الشيخ تقي الدين: هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على علي ومعاوية، ورأوا أنهم أحق بالأمر منهما ، وهؤلاء يزعمون أنهم أحق بإقامة الحق من المسلمين، ويعيبون على المسلمين ما هم متلبسون به من المعاصي والظلم، وهم متلبسون بما هو أعظم منه بأضعاف مضاعفة ، فتفطن العلماء والناس لذلك ، وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب وعلى رأسي مصحف، فاقتلوني، فتشجع الناس في قتال التتار، وقويت قلوبهم ونياتهم
خامساً: استشعار الأزمة
وقد تمر الأزمة بالأمة فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، العالم يضطرم، وهو في ثلاجة؛ كأن الأزمة مجرد شهر جديد من شهور السنة؛ تسير حياته فيه كما سارت في الشهر الذي قبله؛ لم يغير جدوله، ولم يعد نفسه، ولم يضع بصمته
في صفحة الأزمة، وربما دهمته الأزمة وخنقته وقد فرط
لقد كان الإمام مالك رحمه الله يترك التحديث في رمضان ليفرغ إلى التعبد بالصلاة والذكر، وأعظم من ذلك أن ترى ذا العلم وذا الدعوة يرى الأزمة تركض إليه وإلى قومه، في يدها الفتنة والضلال، تقسم بالله لأغوينكم أجمعين، ولأقتلنكم، ولأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم؛ وهو لم يحرك ساكنا، ولم يسكن متحركا، ليس لغفلة أو لجهالة أو لعجز فيعذر؛ بل تعاميا وتماوتا، وموت القلوب أشد من موت الأبدان
أَبني إن من الرجال حِجارةَ ... في صورة الرجل السميع المبصرِ
فطن بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعرِ
وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فقالت له امرأة: هذا واجب قد وضع عنا فقال: هَبِيْ أنه قد وضع عنكن سلاح اليد واللسان فلم يوضع عنكن سلاح القلب، فقالت: صدقت جزاك الله خيرا
سادساً: استنهاض الهمم
استنهاض الهمم بالآي، بالحديث، بالخطبة، بالقصة، بالشعر بالموقف الشجاع
في القرن السابع؛ جاء التتار يزحفون من مشرق الأرض، يأكلون الأخضر واليابس والبلدان والقرى والناس، يسيلون في كل واد، يبتلعون كل شيء سقطت الهند والسند وما وراء النهرين وفارس، وابتلعوا بغداد عاصمة الخلافة، وقضموا من الشام وفلسطين، وذُعر الناس، وهُزموا هزيمتهم النفسية، وهربوا وهربت قبلهم هممهم وظن بعضهم أنها القيامة، وأنهم يأجوج ومأجوج، وقال بعضهم لا طاقة لنا اليوم بهولاكو وجنوده، وطفق عباد التراب والكراسي من النصارى والمتمسلمين إلى الإخذاء للتتر، وفتحوا الأبواب ودفعوا الأموال، حتى أمدهم البعض بجند مسلمين ليشاركوهم في احتلال المواقع الإسلامية الأخرى، يضاف إلى ذلك أن النصارى في بلاد الشام وأرمينية خصوصا ملك أرمينيا (هيثوم) قدَموا كل دعم للمغول، وشاركوهم في غزو بعض مدن الشام، ومنها حلب ودمشق، حتى تمكنوا من الوصول إلى فلسطين
فخرج إليهم جيش الإسلام من مصر يتقدمهم المظفر قُطز رحمه الله، وكان حديث عهد بالولاية ليس له غير أشهر، ولكنه كان ذا صلاح وتقى، بعيدا عن الخمر واللهو، كثير الصلاة في الجماعة، وقد أرسل هولاكو خطابا عنيفا يتهدد فيه المسلمين ويتوعدهم، ومما قال فيه: نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا سكانها فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا ويعود عليكم الخطا، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرق لمن شكا وقد سمعتم أننا فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد فالحصون لدينا لا تُمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع فإنكم أكلتم الحرام، ولا تُعفون عند كلام، وخنتم العهود والأيمان وفشا فيكم العقوق والعصيان إلى آخر الرسالة
ولما جاءت رسالته جمع قُطُز القضاة والعلماء، والقادة والأمراء، وأطلعهم عليها واستشارهم، فمنهم من قال بالاستسلام والصغار، ومنهم من أشار بالفرار، وقال بعضهم: إلى المغرب أو اليمن حيث لم يصل المغول بعد فغضب قطز وقال: يا أمراء، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد ليصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته؛ فإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين، فخرج بنفسه رحمه الله، والتقى الجيشان في عين جالوت في غور الأردن، وتردد بعض الأمراء في القتال، فقال قطز: أنا ألقى التتار بنفسي، فتشجع الأمراء والقواد، وكان المظفر رحمه الله شجاعاً مهيباً، ذُكر عنه أنه لما كان بالمعركة يوم عين جالوت وقُتل جواده ولم يجد أحداً في الساعة الراهنة من الوشاقية الذين معهم الجنائب فترجل وبقي واقفاً كذلك على الأرض ثابتاً في محل المعركة وموضع السلطنة من القلب فلما رآه بعض الأمراء ترجل عن فرسه وحلف على السلطان أن يركب فامتنع السلطان وقال: ما كنت لأَحرم المسلمين نفعك لم يزل كذلك حتى جاءت الوشاقية فركب، وفي هذه العركة حمل التتار بقيادة كتبغانوين على ميسرة المسلمين فكسروها؛ ففزع المسلمون وانكشفوا، فلما رأى ذلك المظفر رحمه الله رمى الخوذة من على رأسه وصرخ في المسلمين: وا إسلاماه وا إسلاماه وا إسلاماه فتشجعت الهمم وطارت إليه
من لي بحُبيل نداء الموت يطربه ... وللرصاص بساحات الفدا زجل
لبيك لبيك يا صوت الجهاد فقد ... أجابك القلب والأشواق والمقلُ
لو لم تَسر قُدم سارت بنا مُهج ... تكاد عنا إلى لقياك ترتحلُ
ثم أيد الله المسلمين وثبتهم، فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم هزيمة لا تجبر أبدا، وقُتل كتبغانوين في المعركة، وأُسر ابنه، وكان شابا حسنا، فأُحضر بين يدي المظفر قطز، فقال له: أهرب أبوك، قال: إنه لا يهرب، فطلبوه فوجدوه بين القتلى فلما رآه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر قال: كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سَعدهم. وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا بعده أبدا، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان
سابعاً: تجميع الصفوف
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسرا ... وإذا افترقن تكسرت آحادا
والريح أشد من الرياح، وإذا كانت اليد الواحدة لا تصفق؛ فإن الأيدي المتعددة ما لم تُضبط تعترك وتتخاصم، لا شك؛ لن تجعلها صفا واحدا، لكن استووا وتراصوا، وأتموا الصف الأول فالأول، نحتاج إلى رص الصفوف والقلوب والجهود، ونحتاج إلى نشر أدب الخلاف وفقه الأخوة مع قاموس نظيف للألفاظ، ونحتاج ثالثا إلى النصح والتصحيح، وبيان
الحق والصبر على ذلك، ولا شك أن المقصود ليس هو الاجتماع فقط، ولكن المقصود الاجتماع على الحق، والله يقول (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا) آل عمران: 103، وأول من نحتاج إلى الالتفاف حوله ورص الصف معه العلماء العاملون
دربنا واحد فكيف افترقنا ... لا يكن حظ نفسنا مبتغانا
نحن في الدين إخوة فلماذا ... يعتلي صوتنا ويخبو إخانا
ومراد النفوس أصغر من أن ... نتعادى فيه وأن نتفانى
تاسعاً: الاحتساب
وكما أن الخفافيش العلمانية تخرج في الليل وتتنفذ وتضغط وتستفز وربما تبتر وقد يسكت عنها فلا بد للمرابطين الساهرين على حصون الأمة أن يصطادوا الخفافيش أن يطاردوا اللصوص وأن يفعلوا شيئاً ما
فمن الاحتساب الاحتساب على المرأة وحياطتها وصيانتها وحراسة فضيلتها، وقد عودنا أبناء الظلام أن يتسللوا في الأزمات فيعضون وينهشون ويتقيؤون سمومهم ولقد كشفهم لك الشيخ بكر أبو زيد يوماً فقال: وفي أيامنا هذه كفأ الجناة المكتل مملؤاً بهذه الرذائل بكل قوة وجرأة واندفاع ومن خبيث مكرهم تحين الإلقاء بها في أحوال العسر والمكره وزحمة الأحداث
وهذه الدعوات الوافدة المستوفدة قد جمعت أنواع التناقضات ذاتاً وموضوعاً وشكلاً فإذا نظرت إلى كاتبيها وجدتهم يحملون أسماء إسلامية وإذا نظرت إلى المضمون والإعداد وجدته معول هدم في الإسلام لا يحمله إلا مستغرب مُسير أشرب قلبه بالهوى والتفرنج
هذا وليُعلم أن الدعوة إلى السفور والتبرج وترجيل المرأة ليست قاصرة على الصحافة فحسب , بل هناك أدوات أخرى تعمل بجهد جهيد إلى ذلك من إذاعات وتلفزة , وقنوات , وشبكات , وكتب وقصص , وغيرها كلها تشترك في مسارعة الخطى إلى نشر التغريب بين المسلمين، وتَحْمِلُهم على الخروج على أحكام دينهم , وعفَّتهم وفضيلتهم، فنُحذّر الجميع من عقاب الله وسخطه ونذكرهم بأيّام الله والله موعدهم
غاظه أني حنيف مسلمُ ... وهو في اللذات واللهو تبعْ
فهو كالخفاش يعثو في الدجى ... فإذا ما أشرق الصبح انقشعْ
أحبتي في الله
تعوذو بالله جل وعلا من الفتن تعوذو بالله جل وعلا من الفتن التي تحرق الدين وتحرق العقل وتحرق البدن وتحرق كل خير تعوذوا بالله منها فإنه لا خير في فتنة أبداً فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله كثيراً من الفتن وكان عليه الصلاة والسلام يحذر من الفتن
ولهذا؛ لما ذكر البخاري رحمه الله في صحيحه كتابَ الفتن؛ ابتدأه بقوله باب: قول الله تعالى ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) ذلك أن الفتن إذا أتت؛ فإنها لا تصيب الظالم وحده, وإنما تصيب الجميع, ولا تبقى، يجب علينا أن نحذرها قبل وقوعها, وأن نباعد أنفسنا بعداً شديداً عن كل ما يقرب إلى الفتنة أو يدني منها؛ فإنَّ من علامات آخر الزمان كثرة الفتن؛ كما ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (يتقارب الزمان، ويقلُّ العمل، ويَلقى الشح، وتكثر أو قال تظهر الفتن) وذلك لأن الفتن إذا ظهرت؛ فإنه سيكون معها من الفساد ما يكون مدنياً لقيام الساعة، ومن رحمة نبي الله صلى الله عليه وسلم بنا: أن حذَّرنا من الفتن كلها، والله جلَّ وعلا قد حذَّرنا بقوله ( وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية؛ وإن كان المخاطب بها هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم, لكنها عامة لكل مسلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحذر من الفتن
وقال الآلوسي أيضا في تفسيره عند هذه الآية: فسرت الفتن في قوله (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) فسرت بأشياء: منها: المداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنها: التفرق والاختلاف ومنها ترك الإنكار على البدع إذا ظهرت ومنها أشياء غير ذلك
قال: ولكلّ معنى بحسب ما يقتضيه الحال
الضوابط والقواعد الشرعية الواجب اتباعها في الفتن
الأول من تلك الضوابط والقواعد: أنه إذا ظهرت الفتن، أو تغيرت الأحوال؛ فعليك بالرفق والتأنِّي والحلم, ولا تعجل
هذه قاعدة مهمة: عليك بالرفق، وعليك بالتأنِّي، وعليك بالحلم
ثلاثة أمور
أما الأمر الأول: وهو الرفق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه في الصحيح (ما كان الرفق في شيء؛ إلا زانه, ولا نزع من شيء إلا شانه) قال أهل العلم قوله (ما كان في شيء إلا زانه) هذه الكلمة (شيء) نكرة أتت في سياق النفي, والأصول تقضي بأنها تعم جميع الأشياء ؛ يعني: أن الرفق محمود في الأمر كله
وهذا قد جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله يحب الرفق في الأمر كله) قاله عليه الصلاة والسلام لعائشة الصديقة بنت الصديق، وبوّب عليه البخاري في الصحيح؛ قال: باب الرفق في الأمر كله
في كل أمر عليك بالرفق, وعليك بالتؤدة، ولا تكن غضوباً ولا تكن غير مترِّفق؛ فإن الرفق لن تندم بعده أبداً، ولم يكن الرفق في شئ إلا زانه؛ في الأفكار وفي المواقف فيما يجد وفيما تريد أن تحكم عليه وفيما تريد أن تتخذه
عليك بالرفق, ولا تعجل, ولا تكن مع المتعجَّلين إذا تعجَّلوا، ولا مع المتسرعين إذا تسرعوا، وإنما عليك بالرفق؛ امتثالا لقول نبيك المصطفى صلى الله عليه وسلم (إن الرفق ما كان في شئ إلا زانه) فخذ بالزين، وخذ بالأمر المزين، وخذ بالأمر الحسن، وإياك ثم إياك من الأمر المشين، وهو أن ينزع من قولك أو فعلك الترفق في الأمر كله
أما الأمر الثاني: فعليك بالتأني؛ يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لأشَجْ عبد القيس (إن فيك لخصلتين يحبهما الله ورسوله الحلم والأناة) والتأنّي خصلة محمودة, ولهذا قال جلّ وعلا (ويدعو الإنسان بالشر دعاءه بالخير وكان الإنسان عجولا) قال أهل العلم: هذا فيه ذمُّ للإنسان, حيث كان عجولاً؛ لأن هذه الخصلة؛ من كانت فيه؛ كان مذموماً بها، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم غير متعجل
وأما الأمر الثالث: فهو الحلم، والحلم في الفتن وعند تقلب الأحوال محمود أيما حمد، ومثنىً عليه أيما ثناء؛ لأنه بالحلم يمكن رؤية الأشياء على حقيقتها، ويمكن بالحلم أن نبصر الأمور على ما هي عليه
الثاني من تلك الضوابط والقواعد
أنه إذا برزت الفتن وتغيرت الأحوال، فلا تحكم على شئ من تلك الفتن أو من تغير الحال إلا بعد تصوُّره؛ رعاية للقاعدة (الحكم على الشيء فرعٌ عن تصوره) وهذه القاعدة رعاها العقلاء جميعاً قبل الإسلام وبعد الإسلام، ودليلها الشرعي عندنا في كتاب الله جل وعلا قال الله جل وعلا (ولا تقف ما ليس لك به علم) يعني: أن الأمر الذي لا تعلمه ولا تتصوره ولا تكون على بينة منه؛ فإياك أن تتكلم فيه، وأبلغ منه أن تكون فيه قائداً، أو أن تكون فيه مُتْبعاً، أو تكون فيه حَكَماً
الأمر الثاني: أن تعلم حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم في هذه المسألة بعينها, لا في المسألة التي تشبهها
فعند ظهور الفتن, واختلاف الأحوال؛ لا يجوز أن نعتمد على كلام كافر مثلاً؛ ذكر تصوره أو ذكر تحليله في إذاعة ما, أو ذكر تصوره وتحليله في مجلة ما, أو في تقريرٍ ما
هذا لا يجوز شرعاً أن نبني عليه حكماً شرعيّاً, وإنما الحكم الشرعي يبني على نقل المسلم العدل الثقة
فأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تقبل ممَّن يأتي بها؛ إلا إذا كان الإسناد بنقل عدول ضابطين عن مثلهم إلى منتهاه, إذا كان في الإسناد فاسق؛ فإنه قد انخرمت مروءَته, وإذا كان في الإسناد مَن ليس بضابط, من يأتي بشيء ويخلطه مع شئ أخر؛ فإنه لا يقبل, ولا ينبني على ذلك الحديث حكم شرعي
الثالث من تلك الضوابط والقواعد
أن يلزم المسلم الإنصاف والعدل في أمره كله
يقول الله جلَّ وعلا (وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى) ويقول جلَّ وعلا (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) لا بدَّ من عرض الحسن والقبيح؛ عرضهما على الذهن, حتى تصل إلى نتيجة شرعية وحتى يكون تصورك ويكون قولك أو فهمك أو رأيك في الفتنة منجياً، ومَن سلم من الهوى؛ فإن الله جل وعلا سينجيه في الآخرة والأولى
الرابع من تلك الضوابط والقواعد
ما دلَّ عليه قول الله جلَّ وعلا (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية, فقال (عليكم بالجماعة، وإياكم والفرقة) وثبت أيضا في الحديث الذي رواه عبد الله بن أحمد في زوائد مسند أبيه أن الجماعة رحمة, والفرقة عذاب
الفرقة بجميع أنواعها في الأفكار, أو في الأقوال, أو في الأعمال عذاب يعذِّب الله جلَّ وعلا به مَن خالف أمره وذهب إلى غير هداه
لهذا مَن لزم الجماعة جماعة أهل السنة والجماعة واقتدى بأئمتهم وعلمائهم؛ فإنه قد لزم الجماعة, ومَن تفرَّق عنهم؛ فإنه لا يأمن على نفسه أن يكون ممَّن ذهب إلى الفرقة وعُذب بعذاب من عذاب الله في الحياة الدنيا
نسأل الله جلَّ وعلا أن يسلمنا وإخواننا جميعاً من ذلك كله
الخامس من تلك الضوابط والقواعد
أن الرايات التي ترفع في الفتنة سواء رايات الدول أو رايات الدعاة لا بدَّ للمسلم أن يزنها بالميزان الشرعي الصحيح, ميزان أهل السنة والجماعة, الذي مَن وزن به؛ فإن وزنه سيكون قسطاً غير مجحف في ميزانه؛ كما قال جلَّ وعلا في ميزانه (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئا) فلذلك أهل السنة والجماعة لهم موازين قسط يزنون بها الأمور, ويزنون بها الأفكار, ويزنون بها الأحوال, ويزنون بها الرايات المختلفة عند اختلاف الأحوال
ولهذا فإن الحكم بالإسلام من عدمه الحكم بالإيمان أو الكفر مرجعه إلى علماء أهل السنة والجماعة لا إلى غيرهم من المتعلمين الذين ربما علموا بعضاً وجهلوا بعضاً آخر أو ربما عمموا أشياء لا يجوز تعميمها، فالحكم في ذلك لمن يستطيع أن يزن بالميزان الصحيح من أهل العلم وهم العلماء
مما يترتَّب على تلك الموازين كما قرر أهل السنة والجماعة: أن الجهاد ماض مع كل إمام أو سلطان؛ برِ أو فاجر؛ الجهاد ماض معه, لا يجوز لأحد أن يتخلف عن راية الجهاد لأجل أن السلطان عنده مخالفات شرعية؛ في أي وقت, وفي أي زمان
ومن تلك الحقوق الدعاء لمَنْ ولاَّه الله جلَّ وعلا الأمر، يقول البربهاري رحمه الله ناصر السنة إمام من أئمة السنة والجماعة يقول: إذا رأيت الرجل يدعو للسلطان؛ فعلم أنه صاحب سنة, وإذا رأيته يدعو على السلطان؛ فعلم أنه صاحب بدعة
والفضيل بن عياض كان يدعو كثيراً للسلطان في وقته, ونحن نعلم ما كان من سلاطين بني العباس في وقتهم من أمور, كان يدعو لهم كثيراً؛ قيل له: تدعو لهم أكثر من دعائك لنفسك، قال: نعم؛ لأنني إن صلحت فصلاحي لنفسي ولمَن حولي, وأما صلاح السلطان؛ فهو لعامة المسلمين
السادس من تلك الضوابط والقواعد
أن للقول والعمل في الفتن ضوابط؛ فليس كل مقال يبدو لك حسناً تظهره, وليس كل فعل يبدو لك حسناً تفعله؛ لأن الفتنة قولك فيها يترتَّب عليه أشياء، ولأن الفتنة عملك فيها يترتَّب عليه أشياء
فلا غرو أن سمعنا أبا هريرة رضي الله عنه يقول: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاءين، أما أحدهما فبثثته, وأما الآخر فلو بثثته لقطع هذا الحلقوم. رواه البخاري في صحيحه
قال أهل العلم: قول أبي هريرة: لقطع هذا الحلقوم يعني: أنه كتم الأحاديث التي في الفتن والأحاديث التي في بني أمية, ونحو ذلك من الأحاديث وهو قال هذا الكلام في زمن معاوية رضي الله عنه, ومعاوية اجتمع الناس عليه بعد فرقة وقتال, تعلمون ما حصل فيه, وتعلمون تاريخه, فأبو هريرة كتم بعض الأحاديث، وهي ليست في الأحكام الشرعية، وإنما في أمر آخر, لأجل أن لا يكون هناك فتنة في الناس, ولم يقل: إن قول الحديث حقِّ, وأنه لا يجوز أن نكتم العلم؛ لماذا، لأن كتم العلم في هذا الوقت الذي تكلَّم فيه أبو هريرة لا بدَّ منه؛ لكي لا يتفرَّق الناس بعد أن اجتمعوا في عام الجماعة على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه
وحذيفة قبل أبي هريرة كتم أحاديث من أحاديث الفتن, لأنه رأى أن الناس لا يحتاجونها والإمام أحمد كره أيضا التحديث بالأحاديث التي فيها الخروج على السلطان، وأمر أن تشطَب من مسنده؛ لأنه قال: لا خير في الفتنة، ولا خير في الخروج وأبو يوسف كره التحديث بأحاديث الغرائب
ومالك رحمه الله كره التحديث بأحاديث فيها ذكر لبعض الصفات
المقصود من هذا: أنه في الفتن ليس كل ما يعلم يُقال, ولا كل ما يقال يقال في كل الأحوال
لا بدَّ من ضبط الأقوال؛ لأنك لا تدري ما الذي سيحدثه قولك، وما الذي سيحدثه رأيك
السابع من تلك الضوابط والقواعد
أن الله أمر بموالاة المؤمنين وخاصة العلماء، فالمؤمنون والمؤمنات كما قال جلَّ وعلا (بعضهم أولياء بعض) كل مؤمن لا بدَّ له وفرض عليه أن يحب المؤمنين، وأن يجتنب السخرية بهم؛ فكيف إذا كان أولئك المؤمنون هم أنصار شرعة الله, وهم الذين يبينون للناس الحلال والحرام، وهم الذين يبيَّنون لناس الباطل، فيحرم أن يُذكر العلماء إلا بخير، والمجالس التي يذكر فيها العلماء بغير خير مجالس سوء، لأن العلماء ورثة الأنبياء؛ والأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمَن أخذه؛ أخذ بحظٌّ وافر
فمن احترم العلماء وأجلهم، وأخذ بمقال علماء أهل السنة والجماعة أهل التوحيد؛ فإنه أخذ بميراث النبوة، ولم يدع ميراث النبوة إلى غيره
أحبتي في الله
اتقوا الله تعالى واحذروا الفتن ما ظهر منها وما بطن، احذروا كل ما يفتنكم عن عبادة الله التي من أجلها خلقتم، احذروا كل ما يفتنكم عن شرفكم وأخلاقكم التي هي قوام مجتمعكم
إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا
احذروا الفتن فإنها تسري إلى القلوب فتصدها عن ذكر الله وعن الصلاة إنها تسري إلى القلوب التي تلين إلى ذكر الله وتخشع لعظمته فتكسبها قسوة واستكباراً، إن الفتن تدب في القلوب فتفتك بها كما يفتك السم في الجسم حتى يهلكه
أيها الإخوة
احذروا الفتن كلها، اجتنبوا أسبابها لا يقل أحدكم أنا مؤمن أنا مستقيم لن تؤثر علي هذه الفتن مؤملاً العصمة، فإن سهام إبليس نافذة والشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم كما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالبعد عن الدجال خوفاً من الفتنة فقال صلى الله عليه وسلم (من سمع بالدجال فلينأ عنه –أي فليبعد عنه – فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث به من الشبهات) أخرجه أبو داود
أيها الأحبة
إننا في عصر كثرت فيه أسباب الفتن وتنوعت أساليبها وانفتحت أبوابها من كل وجه فتحت الدنيا علينا فتنافسها أقوام فأهلكتهم وبدأت تدب شبهات البدع إلى قلوب السذج من الناس فأردتهم وكثرت الفتاوى والنشرات الخالية من التحقيق فذبذبت أفكار الناس وأقلقتهم وانفتحت طامة كبرى وبلية عظمى تلك القنوات الفضائية التي أنزه أسماعكم عن الحديث مما فيها ولا سيما ونحن في بيت من بيوت الله وقبلها كانت الصحف والمجلات الداعية إلى المجون والفسوق والخلاعة في عصر كثر فيه الفراغ الفكري وسيطرة الفطرة البهيمية على عقول كثيرين من الناس فعكفوا عليها فأضاعوا بذلك مصالح دينهم ودنياهم وصاروا فريسة لذلك الداء العضال، نسأل الله لنا ولهم السلامة
أحبتي في الله
إن وجود هذه المجلات والصحف في البيوت مانع من دخول الملائكة إليها لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة وما ظنك ببيت لا تدخله الملائكة
إن فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله وغيره من العلماء أفتوا بحرمة تلك المجلات وقال هذه المجلات حرام شراؤها وحرام بيعها وحرام مكسبها وحرام إهداؤها وحرام قبولها هدية وكل ما يعين على نشرها بين المسلمين حرام لأنه من التعاون على الإثم والعدوان قال تعالى (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) وواصل فتواه قائلاً:احذروا أن تبقى هذه الصحف والمجلات في أيديكم احرقوها فإنها قد قامت عليكم الحجة بما سمعتم، أما عن القنوات الفضائية فقد افتى رحمه الله بأن من أدخل تلك القنوات في بيته فإنه يعتبر غاشاً لأهل بيته، لأنه يكون سبباً في إفسادهم
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيء الأخلاق والأعمال لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا رب العالمين، اللهم اقطع دابر المفسدين ودابر الفاسقين ودابر المنحرفين، اللهم اخذلهم وأذلهم اللهم أكبتهم، اللهم أنزل بهم الخسائر المالية حتى يتوبوا إليك ويرجعوا إلى رشدهم وإلى إصلاح أمتهم يا رب العالمين، اللهم سلط عليهم من يمنعهم من شرهم الذي أفضى بكثير من الناس إلى الخلاعة والمجون والفسق إنك على كل شيء قدير، اللهم تقبل منا اللهم تقبل منا
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعل آله وصحبه أجمعين
1437/10/28هـ
ألقيت هذه المحاضرة في جامع سلمان الفارسي بالرياض في عام 1424 هـ