تفسير سورة مريم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 5 ربيع الأول 1443هـ | عدد الزيارات: 1062 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة مريم مكية ، وآياتها (98)

وقد روى أحمد بن حنبل عن ابن مسعود في قصة الهجرة إلى أرض الحبشة من مكة أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قرأ صدر هذه السورة على النجاشي وأصحابه، حسنه أحمد شاكر.

بسم الله الرحمن الرحيم

" كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا *إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا".

قوله تعالى "كهيعص "، هذه الحروف وغيرها من الحروف المقطعة في أوائل السور فيها إشارة إلى إعجاز القرآن، فقد وقع به تحدي المشركين فعجزوا عن معارضته، وهو مركب من هذه الحروف التي تتكون منها لغة العرب، فدل عجز العرب عن الإتيان بمثله - مع أنهم أفصح الناس - على أن القرآن وحيٌ من الله.

قوله: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2)

هذا ذِكْر رحمة الله بعبده زكريا ، وهو نبيً من أنبياء بني إسرائل، كان يعمل نجارا يأكل من عمل يديه .

إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)

إذ دعا ربه سرًا؛ ليكون أكمل وأتم إخلاصًا لله، وأرجى للإجابة، ولأنه أحب إلى الله.

قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)

قال: رب إني كَبِرْتُ، وضعف عظمي، وانتشر الشيب في رأسي، ولم أكن من قبل محرومًا من إجابة الدعاء.

وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5)

أراد بالموالي العصبة ،والمعنى أني خشيت مِن بعد موتي أن لا يقوموا بدينك حق القيام، ولا يدعوا عبادك إليك، وكانت زوجتي لا تلد، فارزقني مِن عندك ولدًا وارثًا ومعينًا.

يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

يرث نبوَّتي ونبوة آل يعقوب، واجعل هذا الولد مرضيًا عندك وعند خلقك تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه .

يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)

يا زكريا إنَّا نبشرك بإجابة دعائك، قد وهبنا لك غلامًا اسمه يحيى، لم نُسَمِّ أحدًا قبله بهذا الاسم.

قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8)

هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل ، وبُشِّرَ بالولد .

قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)

أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها(هيّن) أي يسير سهل على الله ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه وهو أنك لم تكن شيئا يذكر فقد كنت عدما.

قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10).

قال زكريا زيادة في اطمئنانه: ربِّ اجعل لي علامة على تحقُّق ما بَشَّرَتْني به الملائكة, قال: علامتك أن لا تقدرَ على كلام الناس مدة ثلاث ليال وأيامها, وأنت صحيح معافى.

فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)

فخرج زكريا على قومه مِن مصلاه, وهو المكان الذي بُشِّر فيه بالولد، فأشار إليهم إشارة خفية سريعة : أن سَبِّحوا الله صباحًا ومساءً شكرًا له تعالى على ما أولاه.

يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12)

فلما ولد يحيى، وبلغ مبلغًا يفهم فيه الخطاب، أمره اللَّه أن يأخذ التوراة بجدٍّ واجتهاد بحفظ ألفاظها، وفهم معانيها، والعمل بها، وأعطيناه الحكمة وحسن الفهم، وهو في سن الصِبَا

وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13)

الحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب: حنت الناقة على ولدها،ورحمناه رحمة من عندنا، وطهرناه من الذنوب، وكان يأتمر بأوامر الله ويجتنب نواهيه.

وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14)

وكان بارًّا بوالديه مطيعًا لهما، لطيفا بهما محسنا إليهما، ولم يكن متكبرًا عن طاعة ربه، ولا عن طاعة والديه، ولا عاصيًا لربه، ولا لوالديه.

وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16)

لمَّا ذكر الله تعالى قصةَ زكريا عليه السلام عطفَ بذكر قصة مريم ابنة عمران، وكانت من بيت طاهرٍ طيبٍ في بني إسرائيل، فقال: واذكر أيها الرسول - في القرآن المنزل عليك - خبر مريم،إذ تنحت عن أهلها وانفردت بمكان على جهة الشرق منهم.

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17)

فجعلت لنفسها مِن دون قومها ساترا يسترها حتى لا يروها حال عبادتها لربها، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق.

قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18)

خافت أنه يريدها بسوء فقالت له: إني أستجير بالرحمن منك إن كنت ممن يتقي الله.

قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا (19)

قال لها المَلَك مجيبا لها ومزيلا ما حصل لها من الخوف على نفسها: لستُ مِمَّن تظنين ولكن الله بعثني إليك ؛ لأهب لك ولدا طيبا طاهرا.

قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)

تعجبت مريم من هذا وقالت: على أي صفة يوجد هذا الغلام مني، ولست بذات زوج، ولا يتصور مني الفجور.

قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)

فقال لها الملك مجيبا لها عما سألت: إن الله قد قال: إنه سيوجد منك غلام وإن لم يكن لك بعل ولا توجد منك فاحشة فإنه على ما يشاء قادر؛ ولهذا قال:"وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ" أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم، وقوله :"وَرَحْمَةً مِنَّا " أي ونجعل هذا الغلام رحمةً من الله نبيًا من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله وتوحيده، وقوله:"وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا" وكان خلقه قضاء من الله مقدرا مكتوبا في اللوح المحفوظ.

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22)

حين وقع الحمل تباعدت به إلى مكان بعيد عن الناس.

فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)

فألجأها طَلْقُ الحمل إلى جذع النخلة وهي نخلة في المكان الذي تنحت إليه وهو بيت لحم بفلسطين فقالت: يا ليتني متُّ قبل هذا اليوم، وكنت شيئًا لا يُعْرَف ولا يُذْكَر، حتى لا يظن بي السوء

فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24)

ناداها جبريل عليه السلام، من أسفل الوادي: أن لا تَحزني قد جعل ربك تحتك جَدْول ماء تشربين منه.

وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)

وحَرِّكي جذع النخلة تُسَاقِطْ عليك رطبًا غَضًّا جُنِيَ مِن ساعته.

فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

فكلي من الرطب، واشربي من الماء وطيـبي نفسًا بمولودك، فإن رأيت من الناس أحدًا فسألك عن أمرك فقولي له: إني أَوْجَبْتُ على نفسي لله صمتاً، فلن أكلم اليوم أحدًا من الناس، والصمت كان تعبدًا في شرعهم، دون شريعة محمد صلى الله عليه وسلم.

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27)

فأتت مريم قومها تحمل مولودها من المكان البعيد، فلما رأوها كذلك قالوا لها: يا مريم لقد جئت أمرًا عظيمًا مفترى، فقد جئت بولد من غير أب

يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28)

يا شبيهة هارون في العبادة ما كان أبوك رجلَ سوء يأتي الفواحش، وما كانت أمك امرأة سوء تأتي البِغاء، فأنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة.

فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29)

فأشارت مريم إلى مولودها عيسى ليسألوه ويكلموه، فقالوا منكرين عليها: كيف نكلم مَن لا يزال في مهده طفلا رضيعًا؟

قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30)

أول شيء تكلَّم به أثبَتَ لنفسه العبوديةَ لربه، وذكر منة الله عليه أن قضى بأن يؤتيني الإنجيل فيما قضى وأن أكون نبيا من أنبيائه.

وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31)

وجعلني : نافعا حيث ما توجهت، وأمرني بالمحافظة على الصلاة وإيتاء الزكاة ما بقيت حيًا.

وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32)

أي أمرني ببر والدتي ، ولم يجعلني مستكبرا عن عبادته وطاعته فأشقى بذلك .

وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)

والأمان من الشيطان عليَّ يوم ميلادي، ويوم موتي، ويوم بعثي حيًا يوم القيامة، فلم يتخبطني الشيطان في هذه المواقف الثلاثة الموحشة

ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

ذلك الذي قصصنا عليك - أيها الرسول - صفتَه وخبرَه هو عيسى ابن مريم، مِن غير شك ولا مرية، لا ما يقوله الضالون الذين يشكون في أمره ويختلفون.

مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35)

ما كان لله تعالى ولا يليق به أن يتخذ مِن عباده وخَلْقه ولدًا، تنزَّه وتقدَّس عن ذلك، إذا قضى أمرًا من الأمور وأراده صغيرًا أو كبيرًا لم يمتنع عليه، وإنما يقول له: "كن ، فيكون"، كما شاءه وأراده، فمن كان كذلك فهو منزه عن الولد.

وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36)

ومما أمر عيسى به قومه وهو في مهده، أن الله ربنا فأخلصوا له العبادة ، هذا هو الطريق الذي لا اعوجاج فيه.

فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)

فاختلفت فرق الضلال من أهل الكتاب في أمر عيسى عليه السلام فمنهم من غلا فيه وقال هو الله، ومنهم من قال: ابن الله، وكفر به آخرون وهم اليهود وكلهم على ضلال، فويل للمختلفين في شأنه من مشهد يوم عظيم وهو يوم القيامة .

أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38)

ما أسمعَهم وأبصرهم يوم القيامة، يوم يَقْدُمون على الله حين لا ينفعهم ذلك! لكنِ الظالمون في الدنيا في ذهابٍ بيِّنٍ عن الحق.

وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)

وأنذر الناس يوم الندامة حين يندم المسيءُ على إساءته والمحسنُ على عدم استكثاره من الطاعة فحينئذٍ يُقضى الأمر، ويُفصل بينهم، فيصير أهل الإيمان إلى الجنة، وأهل الكفر إلى النار، وهم في هذه الدنيا في غفلة عمَّا أُنذروا به، فلا يصدقون، ولا يعملون العمل الصالح.

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)

إنا نحن الباقون بعد فناء الخلائق نرث الأرض ومَن عليها لفنائهم وبقائنا بعدهم ، وإلينا مصيرهم وحسابهم فنجازيهم على أعمالهم.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41)

واذكر - أيها الرسول - لقومك في هذا القرآن قصة إبراهيم - عليه السلام - فقد كان صِدِّيقًا ومِن أرفع أنبياء الله تعالى منزلة، والفرق بين الصَّادق والصِّدِّيق: أن الصادق في قوله بلسانه، والصديق من تجاوز صدقه لسانه إلى صدق أفعاله في موافقة حاله لا يختلف سره وجهره، فصار كلُّ صِدِّيق صادقًا، وليس كل صادق صِدِّيقًا.

إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)

إذ قال لأبيه آزر: ما تصنع بعبادة الوَثَن الذي لا يسمع وَلا يُبْصِرُ شيئا ولا يدفع عنك ضرَّ شيءٍ، إنما هو صورة مصوّرة لا تضرّ ولا تنفع.

يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43)

يا أبت إن الله أعطاني من العلم عن طريق الوحي ما لم يعطك، فاتبعني إلى ما أدعوك إليه أرشدْكَ إلى الطريق السوي الذي لا تضلُّ فيه.

يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44)

يا أبت لا تطع الشيطان في عبادة هذه الأصنام؛ فمن عبد غير الله، فقد عبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن مخالفًا مستكبرًا عن طاعة الله. كثير العصيان، لا يهدى الناس إلى طاعة الله ، وإنما يهديهم إلى مخالفته ومعصيته وموجبات غضبه .

يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)

يا أبت إني أخشى أن تموت على كفرك، فيصيبك عذاب من الرحمن، فتكون للشيطان قرينًا في النار لموالاتك له.

قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46)

قال أبو إبراهيم لابنه: أمعرض أنت عن عبادة آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته عن سَبِّها لأقتلنَّك رميًا بالحجارة، ولا تكلمني دهرا.

قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47)

قال إبراهيم لأبيه: سلام عليك مني فلا ينالك مني ما تكره، وسوف أدعو الله لك بالهداية والمغفرة؛ إن ربي كان بي لطيفًا في أن هداني لعبادته والإخلاصِ له.

وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)

أجتنبكم وأبتعد عنكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله، وأعبد ربي وحده لا شريك له؛ (عسى) هذه موجبة لا محالة فإن إبراهيم عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم .

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)

فلمَّا تنحى عنهم وفارقهم وآلهتهم التي يعبدونها من دون الله رزقناه من الولد إسحاقَ، ومن وراء إسحاقَ يعقوب، نبيَّين كريمين، قال صلى الله عليه وسلم حين سئل مَنْ أكرمُ الناس؟ قال: فأكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ، ابنُ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ، ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. صحيح البخاري.

وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

وأعطيناهم أي إبراهيم وإسحاق ويعقوب من رحمتنا ذكرًا حسنًا، وثناءً جميلا باقيًا في الناس.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (51)

واذكر - أيها الرسول - في القرآن قصة موسى - عليه السلام - إنه كان مصطفى مختارًا، وقد جمع له بين الوصفين رسولا نبيا ، مِن أولي العزم من الرسل، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين.

وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52)

ونادينا موسى من ناحية جبل طور سيناء الأيمن ، حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة فرآها تلوح فقصدها فناداه الله وناجاه.

وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)

وأعطيناه من إنعامنا عليه أخاه هارون عليه السلام نبيًا استجابةً لدعائه حين سأل ربَّه ذلك.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا (54)

هذا ثناء من الله على إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام ، أنه كان صادقًا في وعده فلم يَعِد شيئًا إلا وفَّى به، وكان رسولا نبيًا.كان رسولًا إلى قبيلة جرهم، على شريعة أَبيه إِبراهيم عليهما السلام، فإن أولاد إِبراهيم جميعًا كانوا على شريعته، وكان نَبِيًّا يخبرهم بتلك الشريعة ، مع تبشير الطائعين وإنذار المفرطين ، والجمع لإسماعيل بين وصفي الرسالة والنبوة إشارة إِلى عظيم مكانته عند الله.

وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

هذا من الثناء على إسماعيل؛ حيث كان مثابرا على طاعة ربه ، وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ يأمر أهله وأقرب الناس إليه بالحرص على أدائهما حتى يكون هو وأهله قدوة لغيرهم فى العمل الصالح وكان عند ربه عز وجل مرضيًا عنه.

وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56)

واذكر - أيها الرسول - في هذا القرآن خبر إدريس عليه السلام، فقد جمع الله له بين التصديق التام، وبين اصطفائه لوحيه .

وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)

ورفَعْنا ذِكْره في العالمين، ومنزلته بين المقربين، فكان عالي الذكر، والمنزلة.

أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)

هؤلاء الذين قصصتُ عليك خبرهم أيها الرسول، هم الذين أنعم الله عليهم بفضله وتوفيقه، فجعلهم أنبياء من ذرية آدم، ومِن ذرية مَن حملنا مع نوح في السفينة، ومن ذرية إبراهيم، ومن ذرية يعقوب، وممَّن هدينا للإيمان واصطفينا للرسالة والنبُوَّة، إذا تتلى عليهم آيات الرحمن المتضمنة لتوحيده وحججه سجدوا لله خضوعًا، واستكانة، وبكَوْا من خشيته سبحانه وتعالى.

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59)

فأتى مِن بعد هؤلاء المنعَم عليهم أتباع سَوْء وضلال ، ضيعوا الصلاة فلم يأتوا بها على الوجه المطلوب، وارتكبوا ما تشتهيه أنفسهم من المعاصي كالزنا، فسوف يجدون خسرانا يوم القيامة.

إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)

لكن مَن تاب منهم مِن ذنبه وآمن بربه وعمل صالحًا تصديقًا لتوبته، فأولئك يقبل الله توبتهم، ويحسن عاقبتهم، ويدخلون الجنة ولا يُنقَصون شيئًا من أجورأعمالهم الصالحة.

جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61)

جنات إقامة دائمة، وهي التي وعد الرحمن بها عباده بالغيب فآمَنوا بها ولم يروها، إن وعد الله لعباده بهذه الجنة آتٍ لا محالة.

لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62)

اللغو : هو فضول الكلام ، وما لا قيمة له منه ، ويدخل فيه الكلام الباطل ، وقوله (إِلاَّ سَلاَماً) أى : لا يسمعون فيها كلاماً لغوا ، لكنهم يسمعون فيها سلاماً، أى : تسليماً من الملائكة عليهم. وقوله(وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أي: يأتيهم ما يشتهون من الطعام في مثل وقت البكرات ووقت العشيات إذ ليس فى الجنة نهار ولا ليل ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيَّها بأضواء وأنوار.

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)

تلك الجنة الموصوفة بتلك الصفات، هي التي نعطيها عبادنا الممتثلين للأوامر والمجتنبين للنواهي.

وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)

وقل - يا جبريل - لمحمد: وما نتنزل - نحن الملائكة - من السماء إلى الأرض إلا بأمر ربك لنا، له ما بين أيدينا مما يستقبل من أمر الآخرة، وما خلفنا مما مضى من الدنيا، وما بين الدنيا والآخرة، فله الأمر كله في الزمان والمكان، وما كان ربك ناسيًا شيئا.

رَّبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَٱعْبُدْهُ وَٱصْطَبِرْ لِعِبَٰدَتِهِۦ ۚ هَلْ تَعْلَمُ لَهُۥ سَمِيًّا(65)

فهو الله رب السماوات والأرض وما بينهما، ومالك ذلك كله وخالقه ومدبره، فاعبده وحده - أيها النبي -واثبت على عبادته ، فهو المستحق للعبادة فليس له مثيل ولا نظير.

وَيَقُولُ الإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66)

ويقول الإنسان الكافر منكرًا ومستبعدا للبعث بعد الموت : أإذا مافَنِيتُ لسوف أُخرَج من قبري حيًا؟!

أَوَلا يَذْكُرُ الإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67)

أولا يَتذكُر هذا المنكر للبعث أنا خلقناه من قبل ولم يكُ شيئًا موجودًا، مع أن الخلق الثاني أسهل وأيسر.

فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68)

أقسم الله تبارك وتعالى بذاته الكريمة أن يحشرهم مع شياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ثم ليأتينَّ بهم حول جهنم باركين على رُكَبهم؛ لشدة ما هم فيه من الذل والهوان .

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)

ثم لنجذبنَّ بشدة وعنف من كل طائفة من طوائف الضلال أشدَّهم عصيانا.

ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)

ثم لنحن أعلم بالذين هم أَوْلى بدخول النار ومقاساة حرها.

وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71)

وما منكم - أيها الناس - أحد إلا وارد النار بالمرور على الصراط المنصوب على متن جهنم، كل بحسب عمله، كان ذلك قضاءً قضى الله - سبحانه - وحكم أنه لا بد من وقوعه لا محالة.

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)

ثم نسلم الذين اتقوا ربهم بطاعته والبعد عن معصيته، ونترك الظالمين لأنفسهم بالكفر بالله في النار باركين على رُكَبهم لا يستطيعون الفرار منها.

وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73)

وإذا تقرأ على هؤلاء المشركين المنكرين للبعث آياتنا الواضحات الدلالة على صحة وقوع البعث والحساب يوم القيامة قال الكافرون على سبيل العناد والتعالي: أيُّ الفريقين منَّا ومنكم أفضل منزلا وأحسن مجلسًا؟

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)

وكثيرًا أهلكنا قبل كفار قومك - أيها الرسول - من الأمم كانوا أحسن متاعًا منهم وأجمل منظرًا.

قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)

من كان في الضلالة مده الرحمن مدا حتى يطول اغتراره ،" حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ ، وهو العذاب، فيكون إما بنصر المؤمنين عليهم فيعذبونهم بالسيف والأسر ؛ وإما أن تقوم الساعة فيصيرون إلى النار ، فسيعلمون حين تنكشف الحقائق من هو شر مكانا وأضعف جندًا.

وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا ( 76 )

لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلال فيما هو فيه ، وزيادته على ما هو عليه أخبر بهداية المهتدين فقال: "وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى"أي ويزيد الله عباده الذين اهتدوا لدينه هدى على هداهم بما يتجدد لهم من الإيمان . والأعمالُ الباقيات الصالحات خير ثوابًا عند الله في الآخرة، وخير مرجعًا وعاقبة لصاحبها .

أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا (77)

أعَلِمْت - أيها الرسول - وعجبت من هذا الكافر « العاص بن وائل » وأمثاله؟ إذ كفر بآيات الله وكذَّب بها وقال: لأعطينَّ في الآخرة أموالا وأولادًا، يقول خباب بن الأرت رضي الله عنه : كُنْتُ قَيْنًا بمَكَّةَ، فَعَمِلْتُ لِلْعَاصِ بنِ وائِلٍ السَّهْمِيِّ سَيْفًا فَجِئْتُ أتَقَاضَاهُ، فَقالَ: لا أُعْطِيكَ حتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ، قُلتُ: لا أكْفُرُ بمُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى يُمِيتَكَ اللَّهُ، ثُمَّ يُحْيِيَكَ، قالَ: إذَا أمَاتَنِي اللَّهُ ثُمَّ بَعَثَنِي ولِي مَالٌ ووَلَدٌ، فأنْزَلَ اللَّهُ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} ، . (صحيح البخاري)

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)

إنكار على العاص بن وائل الذي كفر بآيات الله،أطَّلَع الغيب فرأى أن له مالا وولدًا سيمنعه من العذاب ، أم له عند الله مَوْثِقًا بذلك؟

كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79)

(كلا) حرف ردع لما قبله وتأكيد لما بعده، فلا علم له ولا عهد عنده, (سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ) مِن كذب ، ونزيده في الآخرة من أنواع العقوبات، كما ازداد من الغيِّ والضلال.

وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)

ونسلبه ماله وولده، ويأتينا يوم القيامة فردًا ، وحده لا مال معه ولا ولد.

وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)

واتخذ المشركون لهم معبودين من دون الله؛ لتنصرهم، ويعتزوا بها.

كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

حقا ستكون هذه المعبودات وبالًا عليهم وتكون ضدهم يوم القيامة ينكرون عليهم عبادتهم لها.

أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)

ألم تعلم - أيها الرسول - أنَّا خلينا بين الشياطين وبين الكافرين بالله ورسله ؛ لتغريهم وتدفعهم إلى المعصية؟

فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

فلا تعجل بطلب العذاب على هؤلاء الكافرين إنما نحصي أعمالهم إحصاءً لا تفريط فيه ولا تأخير حتى إذا انتهى وقت إمهالهم عاقبناهم بما يستحقون.

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85)

يوم نجمع المتقين بامتثال أوامره تعالى واجتناب نواهيه، إلى ربهم الرحيم رُكْبانًا مكرمين.

وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86)

ونسوق الكافرين بالله سوقًا شديدًا إلى النار مشاة عِطاشًا، على وجه الذل والصغار

لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)

لا يملك هؤلاء الكفار الشفاعة لبعضهم إلا مَنِ اتخذ عند الله في الدنيا عهدًا بالإيمان به وبرسله .

وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88)

وقال اليهود والنصارى وبعض المشركين: اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا.

لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89)

لقد أتيتم بهذه المقالة شيئا عظيمًا منكرًا.

تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا ( 91 )

تكاد السموات يتشققن، وتتصدع الأرض، وتنخسف، وتسقط الجبال مهدودة من هول ما سمعته من نسبة الولد له سبحانه من بعض فجرة بني آدم .

وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92)

وما يصلح للرحمن، ولا يليق بعظمته، أن يتخذ ولدًا؛ لأن اتخاذ الولد يدل على النقص والحاجة, والله هو الغني الحميد المبرأ عن كل النقائص،ولأن جميعَ الخلائق عبيد له ولا كفء له من خلقه.

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93)

ما كل مَن في السموات من الملائكة, ومَن في الأرض من الإنس والجن, إلا سيأتي ربه يوم القيامة عبدًا ذليلا خاضعًا مقرًا له بالعبودية.

لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94)

لقد أحصى الله سبحانه وتعالى خَلْقَه كلَّهم، وعلم عددهم، وأحاط بهم علمًا.

وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)

وسوف يأتي كل فرد من الخلق ربَّه يوم القيامة وحدَه، لا مالَ له ولا ولد معه، ولا ناصر له إلا الله وحده لا شريك له.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96)

إن الذين آمنوا بالله واتَّبَعوا رسله وعملوا الصالحات وَفْق شرعه, سيجعل لهم الرحمن محبة ومودة في قلوب عباده، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إِذَا أحَبَّ اللَّهُ العَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحْبِبْهُ، فيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فيُنَادِي جِبْرِيلُ في أهْلِ السَّمَاءِ: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فأحِبُّوهُ، فيُحِبُّهُ أهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ له القَبُولُ في الأرْضِ. " رواه البخاري في صحيحه.

فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97)

فإنما يسَّرنا هذا القرآن بلسانك العربي أيها الرسول؛ لتبشر به المتقين الذين استجابو لله تعالى وصدقوا رسوله ، وتخوِّف به المكذبين شديدي الخصومة بالباطل والمكابرين .

وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)

وكثيرًا أهلكنا - أيها الرسول - من الأمم السابقة قبل قومك، ما ترى منهم أحدًا وما تسمع لهم صوتًا خفيًا، فكذلك الكفار من قومك، نهلكهم كما أهلكنا السابقين من قبلهم. وفي هذا تهديد ووعيد بإهلاك المكذبين المعاندين.

1443/3/22هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر