قوله: (إنما السبيل) بالعقوبة، (على الذين يستأذنونك) في التخلف (وهم أغنياء رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) مع النساء والصبيان ، (وطبع الله على قلوبهم) ختم عليها، فلا يدخلها خير، (فهم لا يعلمون) لا يحسون بمصالحهم الدينية والدنيوية، عقوبة لهم، على ما اقترفوا.
{يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ ۚ قُل لَّا تَعْتَذِرُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ ۚ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94)}
قوله:(يعتذرون إليكم) يعني المنافقين (إذا رجعتم إليهم ) يروى أن الذين تخلفوا عن غزوة تبوك من المنافقين كانوا بضعة وثمانين نفرا ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءوا يعتذرون بالباطل . قال الله تعالى: (قل لا تعتذروا لن نؤمن لكم ) لن نصدقكم، (قد نبأنا الله من أخباركم ) أي أخبرنا بسرائركم فيما سبق ، (وسيرى الله عملكم ورسوله ) في المستأنف أتتوبون من نفاقكم أم تقيمون عليه؟ ( ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة )الذي لا تخفى عليه خافية، (فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من خير وشر، ويجازيكم بعدله ، من غير أن يظلمكم مثقال ذرة.
{سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ ۖ إِنَّهُمْ رِجْسٌ ۖ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)}
قوله:(سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم)إذا انصرفتم إليهم من غزوكم، (لتعرضوا عنهم ) لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم، (فأعرضوا عنهم) فدعوهم وما اختاروا لأنفسهم من النفاق، ( إنهم رجس) نجس أي: إن عملهم قبيح، (ومأواهم جهنم) في الآخرة ، ومأواهم: أي منزلهم ومكانهم . (جزاء بما كانوا يكسبون ) من الآثام والخطايا.
{يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ ۖ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَىٰ عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)}
نزلت في عبد الله بن أُبَيّ، حَلَفَ للنبي صلى الله عليه وسلم بالله الذي لا إله إلا هو لا يتخلف عنه بعدها ، وطلب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يرضى عنه.
وقوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} أي: ولهم أيضًا هذا المقصد الآخر منكم، غير مجرد الإعراض، بل يحبون أن ترضوا عنهم، كأنهم ما فعلوا شيئًا.{فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ } لأنكم لا تعلمون كذبهم {فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} أي: فلا ينبغي لكم ـ أيها المؤمنون ـ أن ترضوا عن من لم يرض اللّه عنه، بل عليكم أن توافقوا ربكم في رضاه وغضبه.، فإن الله لا يرضى عن هؤلاء ولا غيرهم من استمروا على الخروج عن طاعة الله ورسوله.
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)}
قوله: (الأعراب) سكان البادية ، (أشد كفرا ونفاقا ) من سكان الحاضرة ، (وأجدر) أخلق وأحرى ، (ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله ) وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السنن ، ( والله عليم ) بحال هؤلاء جميعا (حكيم) في تدبيرأمور عباده .
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ ۚ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)}
قوله:( ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرم) لا يرجو على إعطائه ثوابا، ولا يخاف على إمساكه عقابا . (ويتربص) وينتظر (بكم الدوائر) يعني:الحوادث والآفات، (عليهم دائرة السوء) عليهم يدور البلاء والحزن لا بالمسلمين، (والله سميع ) لما يقولون (عليم ) بنياتهم الفاسدة.
{وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ۚ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ۚ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99)}
قوله: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) مَنْ يقر بوحدانيته، وبالبعث بعد الموت.(ويتخذ ما ينفق قربات عند الله) يحتسب ما ينفق من نفقة لجهاد المشركين قاصدا بها رضا الله، (وصلوات الرسول) أي يجعلها وسيلة إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له ، (ألا إنها قربة لهم ) تقربهم إلى الله تعالى، (سيدخلهم الله في رحمته) في جنته ، (إن الله غفور) لما فعلوا من السيئات ،( رحيم) بهم.
{ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)}
قوله تعالى:(والسابقون الأولون)السابقون هم الذين سبقوا هذه الأمة إلى الإيمان والهجرة، والجهاد، وإقامة دين اللّه. فأول من أسلم من الرجال أبو بكر رضي الله عنه ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ومن الأرقاء زيد بن حارثة .
وممن أسلم على يدي أبي بكر رضي الله عنه: عثمان ابن عفان ، والزبير بن العوام ، وعبد الرحمن بن عوف ، وسعد بن أبي وقاص ، وطلحة بن عبيد الله ، فجاء بهم إلى رسول صلى الله عليه وسلم حين استجابوا له فأسلموا وصلوا، فكان هؤلاء الثمانية النفر الذين سبقوا إلى الإسلام . ثم تتابع الناس في الدخول في الإسلام ، أما السابقون من الأنصار: فهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة ، وكانوا ستة في العقبة الأولى ، وسبعين في الثانية ، والذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير يعلمهم القرآن ، فأسلم معه خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان.
(من المهاجرين) الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم وفارقوا أوطانهم . (والأنصار) أي : ومن الأنصار، وهم الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل المدينة وآووا أصحابه ، (والذين اتبعوهم بإحسان ) هم الذين سلكوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة .(رضي الله عنهم) لطاعتهم لله ورسوله (ورضوا عنه) لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم ( وأعد لهم جنات تجري تحتها الأنهار ) تجري تحت قصورها وأشجارها الأنهار (خالدين فيها أبدا) ما كثين فيها إلى أبد الآبدين( ذلك الفوز العظيم ) الفلاح الجزيل.
{وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)}
قوله تعالى : {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ} أيضًا منافقون {مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} أي: تمرنوا عليه، واستمروا وازدادوا فيه طغيانا.{لَا تَعْلَمُهُمْ} بأعيانهم فتعاقبهم، أو تعاملهم بمقتضى نفاقهم، لما للّه في ذلك من الحكمة الباهرة.{نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ}عذاب في الدنيا، وعذاب في الآخرة.، ففي الدنيا ما ينالهم من الهم والحزن ، والكراهة لما يصيب المؤمنين من الفتح والنصر، وفي الآخرة عذاب النار وبئس القرار.
{وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102)}
يقول تعالى: {وَآخَرُونَ} ممن بالمدينة ومن حولها، ، {اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} أي: أقروا بها، وندموا عليها، وسعوا في التوبة منها، والتطهر من أدرانها.{خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا} ولا يكون العمل صالحا إلا إذا كان مع العبد أصل التوحيد والإيمان، المخرج عن الكفر والشرك، الذي هو شرط لكل عمل صالح، فهؤلاء خلطوا الأعمال الصالحة، بالأعمال السيئة، حيث تخلفوا عن غزوة تبوك، وندموا على ذلك {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} وتوبته على عبده نوعان:الأول: التوفيق للتوبة. والثاني: قبولها بعد وقوعها منهم.{إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} غفور لعباده المؤمنين، رحيم بهم.
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ۖ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)}.
قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} وهي الزكاة المفروضة، {تُطَهِّرُهُمْ } أي: تطهرهم من الذنوب والأخلاق الرذيلة.{وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} أي: تنميهم، وتزيد في أخلاقهم الحسنة، وأعمالهم الصالحة، وتزيد في ثوابهم الدنيوي والأخروي، وتنمي أموالهم.{وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} أي: ادع لهم، واستغفرلهم ، كما رواه مسلم في صحيحه ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتي بصدقة قوم صلى عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : " اللهم صل على آل أبي أوفى " ، {إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} أي: طمأنينة لقلوبهم، واستبشار لهم، {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} لدعائك.{عَلِيمٌ} بمن يستحق ذلك منك، ومن هو أهل له.
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)}
قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُوا} أي: أما علموا سعة رحمة اللّه وعموم كرمه وأنه{ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } التائبين من أي ذنب كان، بل يفرح تعالى بتوبة عبده، إذا تاب أعظم فرح يقدر{ويأخذ الصدقات} أي: يقبلها، روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن تَصَدَّقَ بعَدْلِ تَمْرَةٍ مِن كَسْبٍ طَيِّبٍ، ولا يَصْعَدُ إلى اللَّهِ إلَّا الطَّيِّبُ، فإنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُها بيَمِينِهِ، ثُمَّ يُرَبِّيها لِصاحِبِهِ، كما يُرَبِّي أحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ "{وأن الله هو التواب} أي: كثير التوبة على التائبين،{الرحيم}أي: الذي وسعت رحمته كل شيء.
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)}
قوله تعالى: {وَقُلْ} أيها الرسول لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك دون عذر ولا توبة : {اعْمَلُوا} ما ترون من الأعمال، واستمروا على باطلكم، فلا تحسبوا أن ذلك، سيخفى، {فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: لا بد أن يتبين عملكم ويتضح، {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من خير وشر، ففي هذا تهديد ووعيد لمن استمر على باطله وطغيانه وغيه وعصيانه.
{وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)}
ومن هؤلاء المتخلفين عنكم -أيها المؤمنون- في غزوة (تبوك) آخرون مؤخرون؛ ليقضي الله فيهم ما هو قاض. وهؤلاء هم الذين ندموا على ما فعلوا، وهم: مُرارة بن الربيع، وكعب بن مالك، وهلال بن أُميَّة، {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ۗ}هم تحت عفو الله ، إن شاء عذبهم وإن شاء تاب عليهم، ولكن رحمته تغلب غضبه {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بمن يستحق العقوبة أو العفو، {حَكِيمٌ} في كل أقواله وأفعاله.
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ۚ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَىٰ ۖ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)}
قوله تعالى: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا) من المنافقين ، بنوا مسجدا يضارون به مسجد قباء ، وكانوا اثني عشر رجلا من أهل النفاق : وديعة بن ثابت ، وجذام بن خالد ، ومن داره أخرج هذا المسجد ، وثعلبة بن حاطب، وجارية بن عامر ، وابناه مجمع وزيد ، ومعتب بن قشير ، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، وأبو حبيبة بن الأزعر، ونبتل بن الحارث، وبجاد ابن عثمان، ورجل يقال له: بحزج ، بنوا هذا المسجد ضرارا ، يعني : مضارة للمؤمنين ، (وكفرا) بالله ورسوله ، (وتفريقا بين المؤمنين) ؛ لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء ، فبنوا مسجد الضرار ، ليصلي فيه بعضهم ، فيؤدي ذلك إلى الاختلاف وافتراق الكلمة ، وكان يصلي بهم مجمع بن جارية (وإرصادا لمن حارب الله ورسوله من قبل) أي : انتظارا وإعدادا لمن حارب الله ورسوله.
قوله : (من قبل) يرجع إلى أبي عامر الراهب الفاسق، الذي حارب الله ورسوله من قبل بناء مسجد الضرار .
(وليحلفن إن أردنا) ما أردنا ببنائه ، (إلا الحسنى) إلا الفعلة الحسنى وهو الرفق بالمسلمين والتوسعة على أهل الضعف والعجز عن المسير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
( والله يشهد إنهم لكاذبون ) في قيلهم وحلفهم ، وقد هدم مسجد الضرار وأحرق.
{لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا ۚ لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)}
قوله تعالى : ( لا تقم فيه أبدا ) لا تصل فيه ، منع الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يصلي في مسجد الضرار . ( لمسجد أسس على التقوى ) أي: والله لمسجد بني على التقوى ، ( من أول يوم ) أي : من أول يوم بني ووضع أساسه ، ( أحق أن تقوم فيه ) مصليا .
قوله تعالى : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) من الأحداث والجنابات والنجاسات، وهو مسجد قباء فعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزلت هذه الآية في أهل قباء "(حسن لغيره تخريج سنن أبي داود لشعيب أرناؤوط) وعن فضل الصلاة في مسجد قباء قال صلى الله عليه وسلم "من تطَهَّرَ في بيتِهِ، ثمَّ أتى مسجدَ قباءٍ ، فصلَّى فيهِ صلاةً ، كانَ لَهُ كأجرِ عمرةٍ."[صحيح ابن ماجه للألباني]: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا ) قال : " كانوا يستنجون بالماء فنزلت فيهم هذه الآية " . ( والله يحب المطهرين ) أي المتطهرين .
{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)}.
يقول تعالى:{أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ} أي: على نية صالحة وإخلاص {وَرِضْوَانٌ} بأن كان موافقا لأمره، فجمع في عمله بين الإخلاص والمتابعة، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا} أي: على طرف {جُرُفٍ } ما يجرفه السيل من الأودية فينجرف بالماء فيبقى واهيا {هَارٍ} أي : هائر وهو الساقط {فَانْهَارَ بِهِ} أي : سقط بالباني{فِي نَارِ جَهَنَّمَ} يريد بناء هذا المسجد الضرار كالبناء على شفير جهنم فيهور بأهلها فيها {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} أي: والله لا يوفق المتجاوزين حدوده.
{لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)}
قوله تعالى: (لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا) وهوبناء مسجد الضرار(ريبة في قلوبهم) أي: شكا ونفاقا (إلا أن تقطع قلوبهم) أي : تتصدع قلوبهم فيموتوا {وَاللَّهُ عَلِيمٌ} بجميع الأشياء، ظاهرها، وباطنها، خفيها وجليها، وبما أسره العباد، وأعلنوه،{حَكِيمٌ} لا يفعل ولا يخلق ولا يأمر ولا ينهى إلا ما اقتضته الحكمة وأمر به فللّه الحمد .
{۞ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)}
قوله تعالى : (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم )يخبر تعالى خبرا صدقا، ويعد وعدا حقا بمبايعة عظيمة، ومعاوضة جسيمة، وهو أنه {اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} بنفسه الكريمة {أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فهي المثمن والسلعة المبيعة.{بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} التي فيها ما تشتهيه الأنفس، وتلذ الأعين من أنواع اللذات والأفراح، والمسرات، والحور الحسان، والمنازل الأنيقات.(يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون) سواء قَتلوا أو قُتلوا، أو اجتمع لهم الاثنان. (وعدا عليه حقا) أي : ثواب الجنة لهم وعد وحق {في التوراة والإنجيل والقرآن} يعني أن الله عز وجل وعدهم هذا الوعد ، وبينه في هذه الكتب، ثم هنأهم فقال:{ومن أوفى بعهده من الله} لا أحد أوفى بعهده من الله لمن وفَّى بما عاهد الله عليه {فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به} أي: لتفرحوا بذلك، وليبشر بعضكم بعضًا. {وذلك هو الفوز العظيم } الذي لا فوز أكبر منه، ولا أجل، لأنه يتضمن السعادة الأبدية، والنعيم المقيم، والرضا من اللّه الذي هو أكبر من نعيم الجنات.
{التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)}
قوله تعالى: (التائبون) أي: الذين تابوا من الشرك وبرئوا من النفاق، (العابدون) المطيعون الذين أخلصوا العبادة لله تعالى (الحامدون) الذين يحمدون الله على كل حال في السراء والضراء.(السائحون) الغزاة المجاهدون في سبيل الله. (الراكعون الساجدون ) يعني: المصلين ، ( الآمرون بالمعروف) الذين يأمرون الناس بكل ما أمر الله به ورسوله، (والناهون عن المنكر) وينهونهم عن كل ما نهى الله عنه ورسوله . (والحافظون لحدود الله) المؤدون فرائض الله ، المنتهون إلى أمره ونهيه . (وبشر المؤمنين) برضوان الله وجنته.
{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)}
قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} يعني: ما يليق ولا يحسن للنبي وللمؤمنين به {أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} أي: لمن كفر به، وعبد معه غيره {وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} ذوي قرابة لهم { مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} بموتهم على الشرك .
{وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِّلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ ۚ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)}
قوله: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ } ولئن وجد الاستغفار من خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام لأبيه فإنه {إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} في قوله {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} وذلك قبل أن يعلم عاقبة أبيه.، { فلما تبين له أنه عدو لله } لموته على الكفر ولم ينفع فيه الوعظ والتذكير {تَبَرَّأَ مِنْهُ} موافقة لربه وتأدبا معه.{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ} خاشع متضرع {حَلِيمٌ} كثير الصفح عما يصدر من قومه من الزلات، لا يستفزه جهل الجاهلين، ولا يقابل الجاني عليه بجرمه .
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)}
قوله تعالى : { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ }
وما كان الله ليضلَّ قومًا بعد أن مَنَّ عليهم بالهداية والتوفيق {حَتَّىٰ يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ۚ }حتى يبيِّن لهم ما يتقونه به، وما يحتاجون إليه في أصول الدين وفروعه. {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }، فقد علَّمكم ما لم تكونوا تعلمون، وبيَّن لكم ما به تنتفعون، وأقام الحجة عليكم بإبلاغكم رسالته.
{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۚ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)}
قوله:{إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السموات وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: هو المالك لذلك، المدبر لعباده بالإحياء والإماتة وأنواع التدابير الإلهية، فإذا كان لا يخل بتدبيره القدري فكيف يخل بتدبيره الديني المتعلق بإلهيته، ويترك عباده سدى مهملين، أو يدعهم ضالين جاهلين، وهو أعظم توليه لعباده؟".
فلهذا قال: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ } يتولاكم بجلب المنافع لكم، {ولا نَصِيرٍ} ينصركم على عدوكم .
{لَّقَد تَّابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ۚ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (117)}
قوله عز وجل :{لقد تاب الله على النبي} أي: تجاوز وصفح ، ومعنى توبته على النبي صلى الله عليه وسلم بإذنه للمنافقين بالتخلف عنه، {والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة } أي: في وقت العسرة ، ولم يرد ساعة بعينها ، وكانت غزوة تبوك تسمى غزوة العسرة ، والجيش يسمى جيش العسرة ، والعسرة الشدة، وكانت عليهم غزوة عسرة في الظهر والزاد والماء .{من بعد ما كاد يزيغ} الزيغ: الميل، أي: من بعد ما أوشك أن تميل ، {قلوب فريق منهم } أي: قلوب بعضهم ، ولم يرد الميل عن الدين ، بل أراد الميل إلى التخلف والانصراف للشدة التي عليهم، همَّ ناسٌ بالتخلف ثم لحقوه، {ثم تاب عليهم إنه بهم رءوف رحيم} ومن تاب الله عليه لم يعذبه أبدا .
{وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَن لَّا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)}
قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) أي خلفوا عن غزوة تبوك ، وهؤلاء الثلاثة هم : كعب بن مالك الشاعر ، ومرارة بن الربيع ، وهلال بن أمية ، كلهم من الأنصار .{حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} بسعتها {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ}غما وهما ، {وظنوا} أي: تيقنوا، { أن لا ملجأ من الله} لا مفزع من الله، {إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا} أي: ليستقيموا على التوبة فإن توبتهم قد سبقت(إن الله هو التواب) أي: كثير التوبة والعفو، والغفران عن الزلات والعصيان، {الرَّحِيمِ} كثير الرحمة العظيمة التي لا تزال تنزل على العباد في كل وقت وحين.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)}
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} باللّه، وبما أمر اللّه بالإيمان به، قوموا بما يقتضيه الإيمان، وهو القيام بتقوى اللّه تعالى، باجتناب ما نهى اللّه عنه والبعد عنه.
{وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} في أقوالهم وأفعالهم وأحوالهم، الذين أقوالهم صدق، وأعمالهم، وأحوالهم لا تكون إلا صدقا خالية من الكسل والفتور، سالمة من المقاصد السيئة، مشتملة على الإخلاص والنية الصالحة، فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة.
{مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الْأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)}
قوله: {ما كان لأهل المدينة} ما كان ينبغي لأهل مدينة رسول الله ﷺ، {ومن حولهم من الأعراب } سكان البوادي : مزينة ، وجهينة ، وأشجع ، وأسلم ، وغفار، {أن يتخلفوا عن رسول الله} إذا غزا. {ولا يرغبوا} أي: ولا أن يرغبوا، {بأنفسهم عن نفسه} في مصاحبته ومعاونته والجهاد معه، {ذلك بأنهم لا يصيبهم} في سفرهم، {ظمأ} عطش، {ولا نصب} تعب ، {ولا مخمصة } مجاعة ، {في سبيل الله ولا يطئون موطئا} أرضا ، {يغيظ الكفار} وطؤهم إياه {ولا ينالون من عدو نيلا} أي: لا يصيبون من عدوهم قتلا أو أسرا أو غنيمة أو هزيمة ، {إلا كتب لهم به عمل صالح} إلا كُتِب لهم بذلك كله ثواب عمل صالح. {إن الله لا يضيع أجر المحسنين} الذين أحسنوا في مبادرتهم إلى أمر الله، وقيامهم بما عليهم من حقه، وحق خلقه.
{وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)}
قوله تعالى: (ولا ينفقون نفقة) أي: في سبيل الله، (صغيرة ولا كبيرة) قليلة ولا كثيرة ، (ولا يقطعون واديا) لا يجاوزون واديا في مسيرهم مقبلين أو مدبرين ، (إلا كتب لهم) يعني : آثارهم وخطاهم، (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ليثيبهم الله أفضل ما يثابون به على أعمالهم الصالحة.
{۞ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)}
يقول تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} أي: جميعا لقتال عدوهم، فإنه يحصل عليهم المشقة بذلك، وتفوت به كثير من المصالح الأخرى، {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ} أي: من البلدان، والقبائل، والأفخاذ {طَائِفَةٌ} تحصل بها الكفاية والمقصود لكان أولى.
ثم نبه على أن في إقامة المقيمين منهم وعدم خروجهم مصالح لو خرجوا لفاتتهم، فقال: {لِيَتَفَقَّهُوا} أي: القاعدون {فِي الدِّينِ } أي. ليتعلموا العلم الشرعي، ويعلموا معانيه، ويفقهوا أسراره، وليعلموا غيرهم، {وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} ويحذروا قومهم بما تعلموه عند رجوعهم إليهم، {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} رجاء أن يكونوا على حذر من عذاب الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)}
قوله تعالى:( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار ) أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب ، مثل بني قريظة والنضير وخيبر ونحوها . ( وليجدوا فيكم غلظة ) شدة وحمية ، وصبر على جهادهم ، ( واعلموا أن الله مع المتقين ) بالعون والنصرة .
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَٰذِهِ إِيمَانًا ۚ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)}
قوله تعالى: (وإذا ما أنزلت سورة) فيها الأمر، والنهي، والخبر عن نفسه الكريمة، وعن الأمور الغائبة، والحث على الجهاد.(فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) يقينا ، كان المنافقون يقولون هذا إنكارًا واستهزاءً، فردَّ عليهم الله تعالى :( فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا) يقينا وتصديقا ، (وهم يستبشرون ) يفرحون بنزول القرآن .
{وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَىٰ رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)}
قوله: (وأما الذين في قلوبهم مرض) شك ونفاق ، (فزادتهم رجسا إلى رجسهم ) أي : كفرا إلى كفرهم ، فعند نزول كل سورة ينكرونها يزداد كفرهم بها . (وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ )، وهذا عقوبة لهم، لأنهم كفروا بآيات اللّه وعصوا رسوله، فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه.
{أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)}
قال تعالى ـ موبخًا لهم على إقامتهم على ما هم عليه من الكفر والنفاق ـ : {أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} بما يصيبهم من البلايا والأمراض، وبما يبتلون من الأوامر الإلهية التي يراد بها اختبارهم.، {ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ} عما هم عليه من الشر {وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} ما ينفعهم، فيفعلونه، وما يضرهم، فيتركونه، فالله تعالى يبتليهم ـ كما هي سنته في سائر الأمم ـ بالسراء والضراء وبالأوامر والنواهي ليرجعوا إليه، ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون.
{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُوا ۚ صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (127)}
قوله: (وإذا ما أنزلت سورة) فيها عيب المنافقين وتوبيخهم ، (نظر بعضهم إلى بعض ) يريدون الهرب يقول بعضهم لبعض إشارةً وغمزًا، (هل يراكم من أحد) أي: أحد من المؤمنين، إن قمتم، فإن لم يرهم أحد خرجوا من المسجد، وإن علموا أن أحدا يراهم أقاموا وثبتوا، (ثم انصرفوا ) عن الإيمان بها ، انصرفوا عن مواضعهم التي يسمعون فيها، (صرف الله قلوبهم) عن الإيمان، (بأنهم قوم لا يفقهون) بسبب أنهم لا يفهمون ولا يتدبرون .
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128)}
قوله تعالى: {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} تعرفون نسبه وحسبه . {عزيز عليه} يشق عليه ، (ما عنتم) ما ضللتم .{ حريص عليكم } أي: على إيمانكم وصلاحكم، وهدايتكم { بالمؤمنين رءوف رحيم } رءوف بالمطيعين رحيم بالمذنبين .
{فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)}
قوله: {فإن تولوا} فإن أعرض المشركون والمنافقون عن الإيمان بك وناصبوك الحرب فقل {حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: الله يكفيني جميع ما أهمني، {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي: لا معبود بحق سواه،{عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي: اعتمدت ووثقت به، في جلب ما ينفع، ودفع ما يضر، {وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو أعظم المخلوقات. وإذا كان رب العرش العظيم، الذي وسع المخلوقات، كان ربا لما دونه من باب أولى وأحرى.
تم تفسير سورة التوبة بعون اللّه ومنه فلله الحمد أولا وآخرا وظاهرا وباطنا.