تفسير سورة التوبة

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 29 ذو القعدة 1446هـ | عدد الزيارات: 355 القسم: المفيد في تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

(سورة التوبة)

سورة مدنيّة، إلا آيتين، عددُ آياتها مئةٌ وتسع وعشرون آيةً، نزلتْ في أواخر السنة التاسعة للهجرة عندما عاد الرسول عليه السلام من غزوة تبوك، حيثُ تعتبر من أواخر ما أنزله الله تعالى على نبيّه، كما وتعدُّ السورة الوحيدة في القرآن الكريم التي لا تبدأ بالبسلمة؛ وذلك يرجع إلى أنه كان من شأن العرب في زمانها في الجاهلية ، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فإذا أرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه بسملة ؛ فلما نزلت سورة {براءة} بنقض العهد الذي كان بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقرأها عليهم في الموسم ، ولم يبسمل في ذلك على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة . إلى جانب أنّها من السور التي تهتم وتُعنى بجانب التشريع الإسلاميّ.

بسم الله الرحمن الرحيم

{بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1)}

قوله تعالى : { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } أي هذه براءة من الله . وهي مصدر كالنشاءة والدناءة .{براءة} أي : قد برئ الله تعالى ورسوله من إعطائهم العهود والوفاء لهم بها إذا نكثوا. قال المفسرون : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، كان المنافقون يرجفون الأراجيف وجعل المشركون ينقضون عهودا كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمر الله عز وجل بنقض عهودهم.

{إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} الخطاب مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي عاهدهم وعاقدهم ، لأنه عاهدهم وأصحابه راضون بذلك ، فكأنهم عاقدوا وعاهدوا .

{فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)}

قوله: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ} رجع من الخبر إلى الخطاب ، أي : قل لهم : سيحوا ، أي : سيروا في الأرض ، مقبلين ومدبرين ، آمنين غير خائفين أحدا من المسلمين . { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ } أي : غير فائتين ولا سابقين ، {وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ } أي : مذلهم بالقتل في الدنيا والعذاب في الآخرة .

وهذا تأجيل من الله تعالى للمشركين الذين كانت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم العهود ، فمن كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر : رفعه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدة عهده أكثر من أربعة أشهر : حطه إلى أربعة أشهر ، ومن كانت مدة عهده بغير أجل محدود : حده بأربعة أشهر ، ثم هو حرب بعد ذلك لله ورسوله ، فيقتل حيث أدرك ويؤسر إلا أن يتوب ، وابتداء هذا الأجل : يوم الحج الأكبر ، وانقضاؤه إلى عشر من شهر ربيع الآخر، فأما من لم يكن له عهد فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم ، وذلك خمسون يوما .
{وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)}.
قوله عز وجل: { وَأَذَانٌ } عطف على قوله : { براءة } أي: إعلام . ومنه الأذان بالصلاة ، يقال : آذنته فأذن ، أي : أعلمته . وأصله من الأذن ، أي : أوقعته في أذنه .
{ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } هو يوم النحر ، يقولُ عليُّ بنُ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه:"سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ، عن يومِ الحجِّ الأَكبرِ فقالَ : يومُ النَّحرِ" صحيح الترمذي للألباني.

قوله تعالى: {أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ۙ وَرَسُولُهُ ۚ} أي: ورسوله أيضا بريء من المشركين .{فَإِن تُبْتُمْ} رجعتم من كفركم وأخلصتم التوحيد، {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ } فالرجوع إلى ذلك خير لكم {وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم ،{فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ ۗ } فأيقنوا أنكم غير فائتيه من أن يحلّ بكم عذابه {وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وأعلمْ يا محمد؛ مَنْ كذَّب نبوتك وجحدَ بها بعذاب موجع يحلُّ بهم.
{إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)}
قوله: {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ } هذا استثناء من قوله : { بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} إلا من عهد الذين عاهدتم من المشركين ، وهم بنو ضمرة ، حي من كنانة ، أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشهر، وكان السبب فيه: أنهم لم ينقضوا العهد، وهذا معنى قوله : {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه، {وَلَمْ يُظَاهِرُوا} لم يعاونوا، {عَلَيْكُمْ أَحَدًا} من عدوكم { فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ } فأوفوا لهم بعهدهم { إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ ۚ } إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه، { إن الله يحب المتقين} إن الله يحب من اتقاه بطاعته، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
{فَإِذَا انسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ۚ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5)}
قوله تعالى {فإذا انسلخ} انقضى ومضى {الأشهر الحرم} وهي شهور العهد، فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر.
قوله تعالى:{فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} في الحل والحرم، {وخذوهم} وأسروهم ، {واحصروهم} أي : احبسوهم .
{ واقعدوا لهم كل مرصد } أي : على كل طريق ، والمرصد : الموضع الذي يرقب فيه العدو ، من رصدت الشيء أرصده : إذا ترقبته ، يريد : كونوا لهم رصدا لتأخذوهم من أي وجه توجهوا .
{فإن تابوا} فإن رجعوا عن كفرهم ودخلوا في الاسلام، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ } التزموا شرع الله {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ۚ} فاتركوهم ؛ فقد أصبحوا إخوانكم في الإسلام . {إن الله غفورٌ} لمن تاب ، {رحيمٌ} به .
{وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ (6)}
قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك) وإذا طلب أحد من المشركين الذين استبيحت دماؤهم وأموالهم الدخولَ في جوارك . (فأجره) فأجبْهُ إلى طلبه ،(حتى يسمع كلام الله) فيما له وعليه من الثواب والعقاب ، (ثم أبلغه مأمنه ) أي : إن لم يسلم أبلغه مأمنه ، أي: الموضع الذي يأمن فيه وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك فقدرت عليه فاقتله، (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) أي : لا يعلمون دين الله تعالى وتوحيده فهم محتاجون إلى سماع كلام الله .
{كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)}
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا، فقال تعالى: (كيف يكون للمشركين عهد) وأمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله، (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام ) يعني يوم الحديبية ، كما قال تعالى: (هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله) الآية [الفتح: 25 ]، (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) أي: فما أقاموا على الوفاء بعهدكم فأقيموا لهم على مثل ذلك.
(إن الله يحب المتقين) الموفين بعهودهم.
{كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)}
يقول تعالى محرضا للمؤمنين على معاداة المشركين والتبرؤ منهم ، ومبينا أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله وكفرهم برسول الله ولو أنهم إذ ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم ، لم يبقوا ولم يذروا ، ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة. و" الإل " القرابة "والذمة": العهد، يقول تميم بن مقبل :
أفْسَدَ النَّاسَ خلوفٌ خلفوا قَطَعُوا الإلَّ وأعراقَ الرحمِ

{يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أي يقولون بألسنتهم ما يرضي ظاهره . {وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ}أي ناقضون العهد . وكل كافر فاسق ، ولكنه أراد هاهنا المجاهرين بالقبائح ونقض العهد.
{اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَن سَبِيلِهِ ۚ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)}
يقول تعالى ذمَّاً للمشركين وحثا للمؤمنين على قتالهم : ( اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا ) يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة ، ( فصدوا عن سبيله ) أي : منعوا المؤمنين من اتباع الحق ، ( إنهم ساء ما كانوا يعملون) لقد قبح فعلهم، وساء صنيعهم.
{لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)}
يعني: اليهود ، باعوا حجج الله عز وجل وبيانه بطلب الرياسة وطمع في شيء . {وأولئك هم المعتدون} أي المجاوزون الحلال إلى الحرام بنقض العهد .
{فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)}
قوله: {فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ۗ } فإن أقلعوا عن عبادة غير الله، ونطقوا بكلمة التوحيد، والتزموا شرائع الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، فإنهم إخوانكم في الإسلام. {وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ }ونبين الآيات، ونوضحها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لقوم ينتفعون بها.
{وَإِن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12)}
قوله تعالى : ( وإن نكثوا أيمانهم ) نقضوا عهودهم ، ( من بعد عهدهم ) عقدهم ، يعني : مشركي قريش ، (وطعنوا) قدحوا ( في دينكم ) عابوه . فهذا دليل على أن الذمي إذا طعن في دين الإسلام ظاهرا لا يبقى له عهد، ( فقاتلوا أئمة الكفر): رؤوس المشركين وقادتهم من أهل مكة .( إنهم لا أيمان لهم ) أي: لا عهود لهم، ولا وفاء لهم بالعهد . (لعلهم ينتهون) أي: لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم.
{أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ أَتَخْشَوْنَهُمْ ۚ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (13)}
قوله:{ ألا تقاتلون } حضٌّ للمسلمين على قتال هؤلاء القوم الذين {نكثوا أيمانهم} نقضوا عهودهم ، وهم الذين نقضوا عهد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على قتال خزاعة. (وهموا بإخراج الرسول) من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة، (وهم بدءوكم) بالقتال، (أول مرة) يعني : يوم بدر، وذلك أنهم قالوا حين سلم العير : لا ننصرف حتى نستأصل محمدا وأصحابه (أتخشونهم) أتخافونهم فتتركون قتالهم؟ (فالله أحق أن تخشوه) في ترك قتالهم، (إن كنتم مؤمنين ) حقًا
{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14)}
يا معشر المؤمنين {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} قاتلوا أعداء الله يعذبهم عز وجل بأيديكم عن طريق الأسر والقتل، {وَيُخْزِهِمْ}: ويذلهم بالهزيمة والخزي، {وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ}: ويُعْلِ كلمته،{وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} ويشف بهزيمتهم صدوركم التي طالما لحق بها الحزن والغم من كيد هؤلاء المشركين.
{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)}
قوله:{وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ۗ} أي: ويذهب وَجْدَ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة الذين اعتدت عليهم قريش بمعونة بكر عليهم (ويتوب الله على من يشاء) أي: من عباده، (والله عليم) أي: بصدق توبة التائب، (حكيم) في تدبيره وصنعه .
{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً ۚ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)}
قوله تعالى: (أم حسبتم) أظننتم (أن تتركوا) فلا تؤمروا بالجهاد ، ولا تمتحنوا ، ليظهر الصادق من الكاذب، (ولمَّا يعلمِ اللهُ) ولم ير الله (الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة) بطانة وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم (والله خبير بما تعملون ) أي‏:‏ يعلم ما يصير منكم ويصدر، فيبتليكم بما يظهر به حقيقة ما أنتم عليه، ويجازيكم على أعمالكم خيرها وشرها‏.
{مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)}
قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ} أي: ليس من شأن المشركين { أَن يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ } إعمار بيوت الله، {شَاهِدِينَ عَلَىٰ أَنفُسِهِم بِالْكُفْرِ ۚ } وهم يعلنون كفرهم بالله ويجعلون له شركاء.{أُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} هؤلاء المشركون بطلت أعمالهم يوم القيامة، ومصيرهم الخلود في النار.
{إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)}.
قوله: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}أي: لا يعتني ببيوت الله ويعمرها إلا الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر، {وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ} ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، {وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ } ولا يخافون في الله لومة لائم، {فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ } أي: جدير وخليق بهؤلاء العُمَّار أن يكونوا هم المهتدون حقا.
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُونَ عِندَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)}
قوله عز وجل : (أجعلتم سقاية الحاج) الآية.
توبيخ من الله تعالى ذكره لقومٍ افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية.{وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} والله لا يوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا ولتوحيده جاحدا.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)}
قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا...} أي: الذين آمنوا بالله وتركوا دار الكفر قاصدين دار الإسلام، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد لإعلاء كلمة الله، هؤلاء أعظم درجه عند الله، من الذين افتخروا بالسقي والعمارة {وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} برضوانه.
{يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21)}
يبشر الله تعالى جودا منه وكرما- هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله يبشرهم ربهم بالرحمة والرضوان الذي لا سخط بعده، {وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ} ومصيرهم إلى جنات الخلد والنعيم الدائم.
{خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)}
قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ} أي: مقيمين فيها دائما لا يبغون عنها حولا. {إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} ثواب جزيل على طاعتهم لربهم، وأدائهم ما كلفهم من الأعمال.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)}
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ}أي: لا تتخذونهم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام {إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ ۚ}، إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار بتوحيده {ومن يتولهم منكم}، ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين, ويؤثر المقَام معهم على الهجرة إلى رسول الله ودار الإسلام {فأولئك هم الظالمون}، فالذين يفعلون ذلك منكم، هم الذين خالفوا أمرَ الله, فوضعوا الولاية في غير موضعها، وعصوا الله في أمره.
{قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)}
ثم قال تعالى: {قل} يا محمد للمتخلفين عن الهجرة: {إن كان آباؤكم} وذلك أنه لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا: إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجاراتنا وخربت دورنا وقطعنا أرحامنا ، فنزل :{ قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها} اكتسبتموها {وتجارة تخشون كسادها} تخافون عدم رواجها {ومساكن ترضونها } تستطيبونها،{أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} إن فضلتم ذلك على حب الله ورسوله وجهاد في سبيله{فتربصوا} فانتظروا، {حتى يأتي الله بأمره} بعذابه، وهذا أمر تهديد، {والله لا يهدي}لايوفق{القوم الفاسقين} الخارجين عن الطاعة.
{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25)}
قوله تعالى : ( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) أي مشاهد ، ( ويوم حنين ) أي: واذكروا يوم حنين، وحنين واد بين مكة والطائف . وكانت قصة حنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة وقد بقيت عليه أيام من شهر رمضان، ثم خرج إلى حنين لقتال هوازن وثقيف في اثني عشر ألفا ، والمشركون أربعة آلاف من هوازن وثقيف ، وعلى هوازن مالك بن عوف النصري ، وعلى ثقيف كنانة بن عبد ياليل الثقفي ، فلما التقى الجمعان قال رجل من الأنصار يقال له سلمة بن سلامة بن وقش : لن نغلب اليوم عن قلة ، فلم يرض الله قوله ، ووكلهم إلى أنفسهم فاقتتلوا قتالا شديدا ، فانهزم المشركون وخلوا عن الذراري ، ثم نادوا: يا حماة السواد اذكروا الفضائح ، فتراجعوا وانكشف المسلمون .ولم يفر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حوله ثلاثمائة من المسلمين وانهزم سائر الناس .
يقول تعالى (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ) حتى قلتم : لن نغلب اليوم من قلة ، ( فلم تغن عنكم ) كثرتكم ، (شيئا) يعني أن الظفر لا يكون بالكثرة ، ( وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ) أي برحبها وسعتها ، (ثم وليتم مدبرين ) منهزمين .
{ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)}
قوله: (ثم أنزل الله) بعد الهزيمة ، (سكينته) يعني: الأمنة والطمأنينة ، وهي فعيلة من السكون ( على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ) يعني: الملائكة ، (وعذب الذين كفروا ) بالقتل والأسر وسبي العيال وسلب الأموال، (وذلك جزاء الكافرين) وتلك عقوبة الله للصادين عن دينه، المكذبين لرسوله.
{ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27)}
وقوله: {ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء} قد تاب الله على بقية هوازن ، وأسلموا وقدموا عليه مسلمين ، ولحقوه وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوما ، فعند ذلك خيرهم بين سبيهم وبين أموالهم ، فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة ، فرده عليهم ، وقسم أموالهم بين الغانمين ، ونفل أناسا من الطلقاء ليتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطي مائة مالك بن عوف النضري ، واستعمله على قومه . {والله غفور}، لذنوب من أناب وتاب إليه {رحيم}، بهم، فلا يعذبهم بعد توبتهم ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَٰذَا ۚ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاءَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)}
قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ }
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ‏}‏ باللّه الذين عبدوا معه غيره ‏{‏نَجَسٌ‏}‏ أي‏:‏ خبثاء في عقائدهم وأعمالهم، وأي نجاسة أبلغ ممن كان يعبد مع اللّه آلهة لا تنفع ولا تضر، ولا تغني عنه شيئا‏؟‏‏‏‏.، وأعمالهم ما بين محاربة للّه، وصد عن سبيل اللّه ونصر للباطل، ورد للحق، وعمل بالفساد في الأرض لا في الصلاح، فعليكم أن تطهروا أشرف البيوت وأطهرها عنهم‏.‏{‏فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ وهو سنة تسع من الهجرة، حين حج بالناس أبو بكر الصديق، وبعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ابن عمه عليا، أن يؤذن يوم الحج الأكبر ب ـ ‏{‏براءة‏}‏ فنادى أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان‏.‏
{وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ} وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ خِفْتُمْ‏}‏ أيها المسلمون ‏{‏عَيْلَةً‏}‏ أي‏:‏ فقرا وحاجة، من منع المشركين من قربان المسجد الحرام، بأن تنقطع الأسباب التي بينكم وبينهم من الأمور الدنيوية، ‏{‏فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ‏}‏ فليس الرزق مقصورا على باب واحد، ومحل واحد، بل لا ينغلق باب إلا وفتح غيره أبواب كثيرة، فإن فضل اللّه واسع، وجوده عظيم، خصوصا لمن ترك شيئا لوجهه الكريم، فإن اللّه أكرم الأكرمين‏.‏
وقد أنجز اللّه وعده، فإن اللّه قد أغنى المسلمين من فضله، وبسط لهم من الأرزاق ما كانوا به من أكبر الأغنياء والملوك‏.‏
وقوله‏:‏ ‏{‏إِنْ شَاءَ‏}‏ تعليق للإغناء بالمشيئة، لأن الغنى في الدنيا، ليس من لوازم الإيمان، ولا يدل على محبة اللّه، فلهذا علقه اللّه بالمشيئة‏.‏
فإن اللّه يعطي الدنيا، من يحب، ومن لا يحب، ولا يعطي الإيمان والدين، إلا من يحب‏.‏
{‏إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ علمه واسع، يعلم من يليق به الغنى، ومن لا يليق، ويضع الأشياء مواضعها وينزلها منازلها‏.‏ وتدل الآية الكريمة، وهي قوله ‏{‏فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا‏}‏ أن المشركين بعد ما كانوا، هم الملوك والرؤساء بالبيت، ثم صار بعد الفتح الحكم لرسول اللّه والمؤمنين، مع إقامتهم في البيت، ومكة المكرمة، ثم نزلت هذه الآية‏.‏
{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّىٰ يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
قوله تعالى : ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ) نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال الروم ، فغزا بعد نزولها غزوة تبوك . فإن قيل : أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر؟ قيل: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين ، فإنهم إذا قالوا عزير بن الله والمسيح بن الله ، لا يكون ذلك إيمانا بالله .{ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله} لا يلتزمون أحكام شريعة الإسلام{ ولا يدينون دين الحق} أي: لا يدينون دين الله ، ودينه الإسلام .(من الذين أوتوا الكتاب) يعني: اليهود والنصارى.{حتى يعطوا الجزية} وهي الخراج المضروب على رقابهم ، (عن يد) عن قهر وذل .(وهم صاغرون ) أذلاء مقهورون .
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ۖ ذَٰلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ ۖ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۚ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ (30)}
قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } سبب ادعائهم في ‏{‏عزير‏}‏ أنه ابن اللّه، أنه لما سلط الله الملوك على بني إسرائيل، ومزقوهم كل ممزق، وقتلوا حَمَلَةَ التوراة، وجدواعزيرا بعد ذلك حافظا لها أو لأكثرها، فأملاها عليهم من حفظه، واستنسخوها، فادعوا فيه هذه الدعوى الشنيعة‏ .‏
{‏وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ‏}‏ عيسى ابن مريم ‏{‏ابْنُ اللَّهِ‏}‏ قال اللّه تعالى ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ القول الذي قالوه ‏{‏قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ‏}‏ لم يقيموا عليه حجة ولا برهانا‏.،ومن كان لا يبالي بما يقول، لا يستغرب عليه أي قول يقوله، فإنه لا دين ولا عقل، يحجزه، عما يريد من الكلام‏.؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يُضَاهِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ يشابهون في قولهم هذا ‏{‏قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ قول المشركين الذين يقولون‏:‏ ‏{‏الملائكة بنات اللّه‏}‏ تشابهت قلوبهم، فتشابهت أقوالهم في البطلان‏.‏{‏قَاتَلَهُمُ اللَّهُ‏}‏أي‏:‏ لعنهم الله، {أَنَّى يُؤْفَكُونَ‏} كيف يصرفون على الحق، الصرف الواضح المبين، إلى القول الباطل المبين‏!
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَٰهًا وَاحِدًا ۖ لَّا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)}
قوله:{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ}الأحبار: العلماء، واحدها حبر، والرهبان: العباد، واحدها راهب.
{‏أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ يُحِلُّون لهم ما حرم اللّه فيحلونه، ويحرمون لهم ما أحل اللّه فيحرمونه، ويشرعون لهم من الشرائع والأقوال المنافية لدين الرسل فيتبعونهم عليها‏.‏
{‏وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ‏}‏ اتخذوه إلها من دون اللّه، والحال أنهم خالفوا في ذلك أمر اللّه لهم على ألسنة رسله فما ‏{‏أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ‏}‏ فيخلصون له العبادة والطاعة، ويخصونه بالمحبة والدعاء، فنبذوا أمر اللّه وأشركوا به ما لم ينزل به سلطانًا‏.‏
{‏سُبْحَانَهُ‏}‏ وتعالى ‏{‏عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ أي‏:‏ تنزه وتقدس، وتعالت عظمته عن شركهم وافترائهم، فإنهم ينتقصونه في ذلك، ويصفونه بما لا يليق بجلاله، واللّه تعالى العالي في أوصافه وأفعاله عن كل ما نسب إليه، مما ينافي كماله المقدس‏.
{يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)}
قوله: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) أي: يبطلوا دين الله بألسنتهم وتكذيبهم إياه . ( ويأبى الله إلا أن يتم نوره ) أي : يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به محمدا صلى الله عليه وسلم (ولو كره الكافرون ) ولو كره الجاحدون دينَ الحق وهو الإسلام.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
قوله: (هو الذي أرسل رسوله ) يعني :أرسل محمدا صلى الله عليه وسلم ، ( بالهدى ) بالقرآن ، وببيان الفرائض، (ودين الحق) وهو الإسلام ، ( ليظهره ) ليعليه وينصره ، (على الدين كله ) على سائر الشرائع ، ( ولو كره المشركون ) دين الحق، وهو الإسلام.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۗ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرا من الأحبار والرهبان) الأحبار: علماء اليهود ، والرهبان: عباد النصارى، والقسيسون: علماؤهم ،( ليأكلون أموال الناس بالباطل) يريد : ليأخذون الرشا في أحكامهم ، ويحرفون كتاب الله، (ويصدون) ويصرفون الناس، (عن سبيل الله) دين الله عز وجل .( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته، سواء كان مدفونًا في الأرض أو ظاهراً عليها. وهذا يعني أن المال الذي يؤدي صاحبه زكاته يعتبر مالاً مشروعاً وليس كنزاً. عن عبدِ اللهِ بنِ دينارٍ، قال: (سمعتُ ابن عمررَضِيَ اللهُ عنهما، وهو يُسألُ عن الكَنزِ ما هو؟ فقال: هو المالُ الذي لا تُؤدَّى منه الزَّكاةُ). [صححه الألباني في السلسلة الصحيحة]
قوله عز وجل: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ولم يقل: ولا ينفقونهما، وقد ذكر الذهب والفضة جميعا ردَّ الكناية إلى الفضة لأنها أعم، كما قال تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة} [ البقرة - 45 ]، رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم ، وكقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها } [الجمعة - 11 ] رد الكناية إلى التجارة لأنها أعم، (فبشرهم بعذاب أليم) أي: أنذرهم بعقاب موجع.
{يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
قوله:( يوم يحمى عليها في نار جهنم ) أي : تدخل النار فيوقد عليها أي على الكنوز ، ( فتكوى بها ) فتحرق بها ، ( جباههم وجنوبهم وظهورهم ) أي : جباه كانزيها وجنوبهم وظهورهم، وخص الجباه والجنوب والظهور بالكي؟ ؛ لأن الغني صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض وجهه ، وزوى ما بين عينيه ، وولاه ظهره ، وأعرض عنه بكشحه ، (هذا ما كنزتم لأنفسكم) أي : يقال لهم : هذا ما كنزتم توبيخا لهم، (فذوقوا) صورة بلاغية حيث صوَّرَ العذابَ بطعام مر يُذاق ( ما كنتم تكنزون ) أي: تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم .
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)}
قوله تعالى: ( إن عدة الشهورعند الله ) أي: عدد الشهور، (اثنا عشر شهرا ) وهي المحرم وصفر وربيع الأول وشهر ربيع الثاني وجمادى الأولى وجمادى الآخرة ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوال وذو القعدة وذو الحجة . وقوله: (في كتاب الله) أي: في اللوح المحفوظ . ( يوم خلق السماوات والأرض ) والمراد منه: الشهور الهلالية، وهي الشهور التي يعتد بها المسلمون في صيامهم وحجهم وأعيادهم وسائر أمورهم ، وبالشهور الشمسية تكون السنة ثلاثمائة وخمسة وستين يوما وربع يوم ، والهلالية تنقص عن ثلاثمائة وستين يوما بنقصان الأهلة . والغالب أنها تكون ثلاثمائة وأربعة وخمسين يوما ، (منها أربعة حرم) من الشهور أربعة حرم وهي: رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، واحد فرد وثلاثة سرد ، (ذلك الدين القيم) أي: الحساب المستقيم .
( فلا تظلموا فيهن أنفسكم) أي: فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل المعاصي وترك الطاعة . ( وقاتلوا المشركين كافة ) جميعا ، (كما يقاتلونكم كافة ) جميعا (واعلموا أن الله مع المتقين) مع أهل التقوى بتأيده ونصره.
{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ۖ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ ۚ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)}
قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) معنى النسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أن العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم ، وكان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم عليه السلام ، وكانت عامة معايشهم من الصيد والغارة ، فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر على التوالي ، وربما وقعت لهم حرب في بعض الأشهر الحرم فيكرهون تأخير حربهم ، فنسئوا أي : أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر ، وكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر ، فيحرمون صفر ويستحلون المحرم ، فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع ، هكذا شهرا بعد شهر ، حتى استدار التحريم على السنة كلها . فقام الإسلام وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه الله عز وجل فيه ، وذلك بعد دهر طويل ، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم في حجته : " إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهرا ، منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان " . وقال : " أي شهر هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس ذو الحجة؟ قلنا : بلى ، قال : أي بلد هذا؟ قلنا الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، فقال : أليس البلد الحرام؟ قلنا : بلى ، قال : فأي يوم هذا؟ قلنا : الله ورسوله أعلم ، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه ، قال : أليس يوم النحر؟ قلنا : بلى ، قال : فإن دماءكم وأموالكم ، قال محمد : أحسبه قال : وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في بلدكم هذا ، في شهركم هذا ، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالا يضرب بعضكم رقاب بعض ، ألا ليبلغ الشاهد الغائب ، فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ، ألا هل بلغت ألا هل بلغت " ؟ [صحيح البخاري]. قوله: ( إنما النسيء زيادة في الكفر ) يريد زيادة كفر على كفرهم ، ( يضل به الذين كفروا يحلونه ) يعني النسيء ( عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا ) أي : ليوافقوا ، والمواطأة : الموافقة ، (عدة ما حرم الله ) يريد أنهم لم يحلوا شهرا من الحرام إلا حرموا مكانه شهرا من الحلال ، ولم يحرموا شهرا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرا من الحرام ، لئلا يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر ، كما حرم الله فيكون موافقة العدد ، ( فيحلوا ما حرم الله زين لهم سوء أعمالهم ) زين لهم الشيطان الأعمال السيئة، ( والله لا يهدي القوم الكافرين ) والله لا يوفق الكافرين للحق والصواب.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)}
قوله: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) الآية نزلت في الحث على غزوة تبوك، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم ، وكان ذلك في زمان عسرة من الناس، وشدة من الحر، حين طابت الثمار والظلال، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة، غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد، واستقبل سفرا بعيدا، ومفاوز هائلة، وعدوا كثيرا، فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم، فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فأنزل الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم) أي: قال لكم رسول الله: (انفروا) اخرجوا في سبيل الله (اثاقلتم إلى الأرض) أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم، (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ) أي: بخفض الدنيا ودعتها من نعيم الآخرة . (فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) فما تستمتعون به في الدنيا قليل زائل، أما نعيم الآخره فكثير دائم .
{إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)}
ثم هددهم على ترك الجهاد، فقال تعالى: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) يعذبكم في الآخرة ، وفي الدنيا بالذل والهوان (ويستبدل قوما غيركم) خيرا منكم وأطوع . (ولا تضروه شيئا) بترككم النفير ، (والله على كل شيء قدير) قادر على استبدال من هم خير منكم، بنصر دينه ونبيه دونكم.
{إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)}.
قوله : ( إلا تنصروه فقد نصره الله ) هذا إعلام من الله عز وجل أنه المتكفل بنصر رسوله وإعزاز دينه ، وأنه قد نصره عند قلة الأولياء، وكثرة الأعداء، (إذ أخرجه الذين كفروا) من مكة حين مكروا به وهموا بقتله ، (ثاني اثنين) أي هو أحد الاثنين ، والاثنان : أحدهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والآخر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، (إذ هما في الغار) وهو نقب في جبل ثور بمكة، مكثا فيه ثلاثة أيام (إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا) بعونه ونصره وتأييده‏.
قوله عز وجل: (فأنزل الله سكينته عليه) على النبي صلى الله عليه وسلم، والسكينة‏:‏ الثبات والطمأنينة، والسكون المثبتة للفؤاد، (وأيده بجنود لم تروها) وهم الملائكة نزلوا يصرفون وجوه الكفار وأبصارهم عن رؤيته .(وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) وكلمتهم الشرك ، وهي السفلى إلى يوم القيامة ، (وكلمة الله هي العليا) إلى يوم القيامة ، وكلمة الله: وعد الله أنه ناصره. (والله عزيز حكيم ) .(‏وَاللَّهُ عَزِيزٌ‏)‏ لا يغالبه مغالب، ولا يفوته هارب، ‏(‏حَكِيمٌ‏)‏ يضع الأشياء مواضعها، وقد يؤخر نصر حزبه إلى وقت آخر، اقتضته الحكمة الإلهية‏.‏
{انفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41)}
قوله تعالى‏:‏ ‏{‏انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا‏}‏ أي‏:‏ في العسر واليسر، والمنشط والمكره، والحر والبرد، في حال الغنى وفي حال الفقر، وفي جميع الأحوال‏.‏
{‏وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ابذلوا جهدكم في ذلك، واستفرغوا وسعكم في المال والنفس، وفي هذا دليل على أنه ـ كما يجب الجهاد في النفس ـ يجب الجهاد في المال، حيث اقتضت الحاجة ودعت لذلك‏.‏
ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ الجهاد في النفس والمال، خير لكم من التقاعد عن ذلك، لأن فيه رضا اللّه تعالى، والفوز بالدرجات العاليات عنده، والنصر لدين اللّه، والدخول في جملة جنده وحزبه‏.‏ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏} إن كنتم من أهل العلم بفضل الجهاد وثوابه عند الله.
{لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَّاتَّبَعُوكَ وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}
قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي: لو كان ما تدعونهم إليه غنيمة قريبة المتناول ، {وَسَفَرًا قَاصِدًا} أي قريبا هينا ، {لاتبعوك} لخرجوا معك ، {وَلَٰكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ ۚ } أي: المسافة ، والشقة: السفر البعيد ، لأنه يشق على الإنسان ، {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ) يعني باليمين الكاذبة، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في أيمانهم وإيمانهم ، لأنهم كانوا مستطيعين، وهذا العتاب إنما هو للمنافقين، الذين تخلفوا عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في ‏‏غزوة تبوك‏‏، وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا، فعفا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنهم بمجرد اعتذارهم، من غير أن يمتحنهم، فيتبين له الصادق من الكاذب، ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم.
{عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
قوله:{عَفَا اللَّهُ عَنكَ} يخاطب الله نبيه صلى الله عليه وسلم ويوقره ويرفع محله بافتتاح الكلام بالدعاء له قبل العتاب، { لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } أي : في التخلف عنك {حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا} في أعذارهم ، {وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} فيها ، أي : تعلم من لا عذر له . قال ابن عباس رضي الله عنه : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين يومئذ .
{لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)}
قوله: {لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَن يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۗ} أي: لا يستأذنك المؤمنون في ترك الجهاد بأموالهم وأنفسهم؛ لأنَّ الإيمانَ يحملُهم على الجهاد، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} فيجازيهم على ما قاموا به من تقواه، في عدم ترك الجهاد.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)}
قوله:{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} أي‏:‏ ليس لهم إيمان تام، ولا يقين صادق،{وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} أي: شكت ونافقت {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} متحيرون، يقدمون رجلا ويؤخرون أخرى، وليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)}
قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ} إلى الغزو، {لَأَعَدُّوا لَهُ} أي: لهيئوا له {عُدَّةً} أهبة وقوة من السلاح والراحلة، {وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ} خروجهم ، {فَثَبَّطَهُمْ} منعهم وحبسهم عن الخروج ، {وَقِيلَ} أي: قال بعضهم لبعض، {اقْعُدُوا} في بيوتكم ، {مَعَ الْقَاعِدِينَ} يعني : مع المرضى والنساء والصبيان .
{لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)}
قوله: {لَوْ خَرَجُوا } يعني المنافقين {فِيكُم} أي معكم ، {مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} أي: فسادا وشرا ، {وَلَأَوْضَعُوا} أسرعوا، {خِلَالَكُمْ} وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض . {يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} أي : يطلبون لكم ما تفتنون به ، يقولون: إنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك . {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ} أي: وفيكم مطيعون لهم، يسمعون كلامهم ويطيعونهم . {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} يعلم المنافقين ؛ ولهذا أخبر عنهم وحذر منهم نبيه.
{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)}
قوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ} أي طلبوا صد أصحابك عن الدين وردهم إلى الكفر، وتخذيل الناس عنك قبل هذا اليوم ، كفعل عبد الله بن أُبَيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. {وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} أعملوا الحيل في إبطال دعوتكم وخذلان دينكم، ولم يقصروا في ذلك، {حَتَّىٰ جَاءَ الْحَقُّ } النصر والظفر ، {وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ} دين الله ، {وَهُمْ كَارِهُونَ} له .
{وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلَا تَفْتِنِّي ۚ أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا ۗ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
قوله: {وَمِنْهُم}أي‏:‏ ومن هؤلاء المنافقين من يستأذن في التخلف، ويعتذر بعذر آخر عجيب، فيقول‏:‏ ‏{‏ائْذَنْ لِي‏}‏ في التخلف ‏{‏وَلَا تَفْتِنِّي‏}‏ في الخروج، فإني إذا خرجت، فرأيت نساء الروم لا أصبر عنهن، كما قال ذلك ‏‏جدُّ بنُ قيس‏‏؛ حيث قال: يا رسول الله لقد عرف قومي أني رجل مغرم بالنساء ، وإني أخشى إن رأيت بنات بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ، ائذن لي في القعود ولا تفتني بهن وأعينك بمالي .
ومقصوده ـ قبَّحَهُ اللّه ـ بأن في خروجي فتنة وتعرضًا للشر، وفي عدم خروجي عافية وكفًا عن الشر‏.‏
قال اللّه تعالى مبينا كذب هذا القول‏:‏ ‏{‏أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا‏}‏ أي : في الشرك والإثم وقعوا بنفاقهم وخلافهم أمر الله وأمر رسوله ؛ ولهذا توعدهم اللّه بقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ‏}‏ ليس لهم عنها مفر ولا مناص، ولا فكاك، ولا خلاص‏.‏
{إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ۖ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَّهُمْ فَرِحُونَ (50)}
قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} أي: نصرة وغنيمة ، {تَسُؤْهُمْ ۖ} أي‏:‏ تحزنهم وتغمهم‏.‏ ، {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} قتل وهزيمة ، {يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا } أي‏:‏ قد حذرنا وعملنا بما ينجينا من الوقوع في مثل هذه المصيبة‏،{مِن قَبْلُ}أي: من قبل هذه المصيبة، {وَيَتَوَلَّوا}ويدبروا،{وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون بما نالك من المصيبة .
{قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)}
قوله: {قُل} أي يا محمد {لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} أي: كتب علينا في اللوح المحفوظ، فنحن تحت مشيئة الله وقدره {هُوَ مَوْلَانَا} ناصرنا وحافظنا، {‏وَعَلَى اللَّه} وحده ‏{‏فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعتمدوا عليه في جلب مصالحهم ودفع المضار عنهم، ويثقوا به في تحصيل مطلوبهم، فلا خاب من توكل عليه، وأما من توكل على غيره، فإنه مخذول غير مدرك لما أمل‏.
{قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)}‏
قوله:{قُلْ} أي: للمنافقين{هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا}أي: هل تنتظرون بنا وتترقَّبون أيها المنافقون ، {إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ۖ } إما النصر والغنيمة أو الشهادة والمغفرة .{وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} ننتظربكم إما: {أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} فيهلككم كما أهلك الأمم الخالية، {أَوْ بِأَيْدِينَا ۖ} أي : بأيدي المؤمنين إن أظهرتم ما في قلوبكم ، {فتربصوا إنا معكم متربصون} تهديد ووعيد، أي انتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بكل فريق منا ومنكم.
{قُلْ أَنفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ ۖ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)}
{‏قُلْ‏}‏ لهؤلاء المنافقين ‏{‏أَنْفِقُوا طَوْعًا‏}‏ من أنفسكم ‏{‏أَوْ كَرْهًا‏}‏ على ذلك، بغير اختياركم‏.‏ ‏{‏لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ‏}‏ شيء من أعمالكم ‏{‏إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏ خارجين عن طاعة اللّه .
{وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)}
قوله: {وما منعهم } أي: السبب في حرمانهم {أن تقبل منهم نفقاتهم} صدقاتهم، {إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله} فالمانع من قبول نفقاتهم كفرهم ، والأعمال لا تقبل إلا بالإيمان {ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى} متثاقلون؛ لأنهم لا يرجون على أدائها ثوابا ، ولا يخافون على تركها عقابا {ولا ينفقون إلا وهم كارهون } لأنهم يعدونها مغرما ومنعها مغنما.
{فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ۚ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)}
قوله:{فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ) والإعجاب هو السرور بما يتعجب منه ، يقول : لا تستحسن ما أنعمنا عليهم من الأموال والأولاد لأن العبد إذا كان من الله في استدراج كثر الله ماله وولده، (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) فإن قيل : أي تعذيب في المال والولد وهم يتنعمون بها في الحياة الدنيا؟، قال مجاهد وقتادة: في الآية تقديم وتأخير ، تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا ، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة . (وتزهق أنفسهم) أي : تخرج ، ( وهم كافرون ) أي : يموتون على الكفر .
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}
قوله: (ويحلفون بالله إنهم لمنكم) أي : ويحلف هؤلاء المنافقون لكم أيها المؤمنون كذبا وباطلا إنهم لمنكم (وما هم منكم) وليسوا منكم، (ولكنهم قوم يفرقون) يخافون أن يظهروا ما هم عليه .
{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}
قوله:( لو يجدون ملجأ ) حرزا وحصنا ومعقلا . ( أو مغارات ) غيرانا في الجبال ، جمع مغارة وهو الموضع الذي يغور فيه ، أي يستتر . (أو مدخلا) نفقًا ، (لولوا إليه) لانصرفوا إليه، (وهم يجمحون ) يسرعون في إباء ونفور لا يرد وجوههم شيء . ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصا منكم ومهربا لفارقوكم.
{وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)}
قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) أي: يعيبك في أمرها وتفريقها ويطعن عليك فيها، نزلت في ذي الخويصرة التميمي ، واسمه حرقوص بن زهير، أصل الخوارج ، لما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حينما قسَّم غنائمَ حنين، ففي صحيح البخاري أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال : "بيْنَما نَحْنُ عِنْدَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وهو يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ -وهو رَجُلٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ- فَقالَ: يا رَسولَ اللَّهِ، اعْدِلْ، فَقالَ: ويْلَكَ! ومَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ أَعْدِلْ؟! قدْ خِبْتَ وخَسِرْتَ إنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ. فَقالَ عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لي فيه فأضْرِبَ عُنُقَهُ؟ فَقالَ: دَعْهُ، فإنَّ له أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مع صَلَاتِهِمْ، وصِيَامَهُ مع صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ القُرْآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ...". (فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ) أي: يغضبون لأنفسهم، فإذا لم يصبهم حظٌ منها سخطوا عليك وعابوك.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)}
قوله: (ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله ) أي : قنعوا بما قسم لهم الله ورسوله ( وقالوا حسبنا الله ) كافينا الله ، (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) ما نحتاج إليه (إنا إلى الله راغبون ) في أن يوسع علينا من فضله ، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من أموال الناس . وجواب " لو " محذوف أي : لكان خيرا لهم وأعود عليهم .
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ۖ فَرِيضَةً مِّنَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)}
قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) أحد أصناف الصدقة : الفقراء ، والثاني : المساكين ، والفقير من لا مال له ولا حرفة تقع منه موقعا ، زمنا كان أو غير زمن ، والمسكين من كان له مال أو حرفة ولا يغنيه ، سائلا أو غير سائل . فالمسكين أحسن حالا من الفقير لأن الله تعالى قال : " أما السفينة فكانت لمساكين [ الكهف - 79] أثبت لهم ملكا مع اسم المسكنة ، والفقر والمسكنة عبارتان عن الحاجة وضعف الحال ، فالفقير المحتاج الذي كسرت الحاجة فقار ظهره ، والمسكين الذي ضعفت نفسه وسكنت عن الحركة في طلب القوت .
قوله تعالى : (والعاملين عليها ) وهم السعاة الذين يتولون قبض الصدقات من أهلها ووضعها في حقها ، فيعطون من مال الصدقة ، فقراء كانوا أو أغنياء ، فيعطون أجر مثل عملهم .( والمؤلفة قلوبهم ) فالصنف الرابع من المستحقين للصدقة هم المؤلفة قلوبهم ، وهم قسمان : قسم مسلمون ، وقسم كفار . فأما المسلمون : فقسمان ، قسم دخلوا في الإسلام ونيتهم ضعيفة فيه ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم تألفا كما أعطى عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، والعباس بن مرداس ، أو أسلموا ونيتهم قوية في الإسلام ، وهم شرفاء في قومهم مثل: عدي بن حاتم ، والزبرقان بن بدر ، فكان يعطيهم تألفا لقومهم ، وترغيبا لأمثالهم في الإسلام ، فهؤلاء يجوز للإمام أن يعطيهم من خمس خمس الغنيمة ، والفيء سهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من ذلك ولا يعطيهم من الصدقات .
والقسم الثاني من مؤلفة المسلمين : أن يكون قوم من المسلمين بإزاء قوم كفار في موضع متناط لا تبلغهم جيوش المسلمين إلا بمؤنة كثيرة وهم لا يجاهدون، إما لضعف نيتهم أو لضعف حالهم ، فيجوز للإمام أن يعطيهم من سهم المؤلفة . ومنهم قوم بإزاء جماعة من مانعي الزكاة يأخذون منهم الزكاة يحملونها إلى الإمام ، فيعطيهم الإمام من سهم المؤلفة من الصدقات .
وأما الكفار من المؤلفة : فهو من يخشى شره منهم ، أو يرجى إسلامه ، فيريد الإمام أن يعطي هذا حذرا من شره ، أو يعطي ذلك ترغيبا له في الإسلام فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس ، كما أعطى صفوان بن أمية لما يرى من ميله إلى الإسلام ، أما اليوم فقد أعز الله الإسلام فله الحمد ، وأغناه أن يتألف عليه رجال ، فلا يعطى مشرك تألفا بحال ، وقد قال بهذا كثير من أهل العلم أن المؤلفة منقطعة وسهمهم ساقط .
قوله تعالى: (وفي الرقاب ) والصنف الخامس : هم الرقاب ، وهم المكاتبون ، لهم سهم من الصدقة ، هذا قول أكثر الفقهاء ، وبه قال سعيد بن جبير ، والنخعي ، والزهري ، والليث بن سعد ، والشافعي .
قوله تعالى : ( والغارمين ) الصنف السادس هم : الغارمون ، وهم قسمان : قسم دانوا لأنفسهم في غير معصيته ، فإنهم يعطون من الصدقة إذا لم يكن لهم من المال ما يفي بديونهم ، فإن كان عندهم وفاء فلا يعطون ، وقسم أدانوا في المعروف وإصلاح ذات البين فإنهم يعطون من مال الصدقة ما يقضون به ديونهم ، وإن كانوا أغنياء، فعن عطاء بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "لا تحلُّ الصَّدقةُ لغنيٍّ إلَّا لخمسةٍ لغازٍ في سبيلِ اللَّهِ أو لعاملٍ عليْها أو لغارمٍ أو لرجلٍ اشتراها بمالِهِ أو لرجلٍ كانَ لَهُ جارٌ مسْكينٌ فتصدِّقَ على المسْكينِ فأَهداها المسْكينُ للغنيِّ
" .صحيح أبي داود للألباني.
وقوله تعالى : (وفي سبيل الله) أراد بها : الغزاة ، فلهم سهم من الصدقة ، يعطون إذا أرادوا الخروج إلى الغزو ، وما يستعينون به على أمر الغزو من النفقة ، والكسوة ، والسلاح ، والحمولة ، وإن كانوا أغنياء ، ولا يعطى منه شيء في الحج عند أكثر أهل العلم .
قوله تعالى : ( وابن السبيل ) الصنف الثامن : هم أبناء السبيل ، فكل من يريد سفرا مباحا ولم يكن له ما يقطع به المسافة يعطى من الصدقة بقدر ما يقطع به تلك المسافة ، سواء كان له في البلد المنتقل إليه مال أو لم يكن .
قوله تعالى: (فريضة من الله) أي: واجبة. (والله عليم حكيم) عليم بمصالح عباده ، حكيم في تدبيره وشرعه.
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ۚ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ ۚ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
قوله: ( ومنهم الذين يؤذون النبي ) نزلت في جماعة من المنافقين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ، ويقولون ما لا ينبغي ،( ويقولون هو أذن) أي: يسمع كل ما قيل له ويقبله . وأصله من أذن يأذن أذنا أي : استمع .
قوله تعالى: (قل أذن خير لكم) أي: مستمع خير وصلاح لكم، لا مستمع شر وفساد.(يؤمن بالله) أي: لا بل يؤمن بالله ، (ويؤمن للمؤمنين) أي: يصدق المؤمنين ويقبل منهم لا من المنافقين، يقال: أمنته وأمنت له بمعنى صدقته، (ورحمة) وهو رحمة (للذين آمنوا منكم) لأنه كان سبب إيمان المؤمنين . (والذين يؤذون رسول الله) بأي نوع من أنواع الإيذاء (لهم عذاب أليم) مؤلم موجع.

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 272 سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر   - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 271 سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر   - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 291 بيان بعض المسائل التي قد تخفى على كثير من الناس - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 290 ‌‌‌‌واجب العلماء تجاه الأزمات الكثيرة والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 270 سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر   - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 269 سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر   - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر