ﺟﺪﻳﺪ اﻟﻤﻮﻗﻊ

تفسير سورة الأعراف

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 15 ربيع الأول 1447هـ | عدد الزيارات: 725 القسم: المفيد في تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة الأعراف هي السورة السابعة في المصحف، وهي من السبع الطوال، وعدد آياتها (206)، وهي سورة مكية إلا ثمان آيات، وهي قوله تعالى: {واسألهم عن القرية} [ الأعراف : 163 ] إلى قوله :{وإذ نتقنا الجبل فوقهم} [ الأعراف : 171 ]، بدأت بحروف مقطعة (المص) وتُعرف بسورة الميثاق والأعراف، وتتميز بالحديث عن أصحاب الأعراف وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ويقفون على السور بين الجنة والنار.

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{المص (1)}

الحروف المقطعة في أوائل السور الأسلم فيها السكوت عن التعرض لمعناها من غير مستند شرعي، مع الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة لا نعلمها.

{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ (2)}

يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن: { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي: هذا كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد، وجميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية، محكما مفصلا { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي: ضيق وشك واشتباه، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد {لِتُنْذِرَ بِهِ} الخلق، فتعظهم وتذكرهم، فتقوم الحجة على المعاندين.{و َذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: عظة لهم.

{اتَّبِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ (3)}

قوله: (اتبعوا) أي: وقل لهم اتبعوا: (ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء) أي: لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى، (قليلا ما تذكرون ) تتعظون.

{وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4)}

قوله:(وكم من قرية أهلكناها) بالعذاب ، (وكم) للتكثير ، (فجاءها بأسنا) عذابنا، (بياتا ) ليلا (أو هم قائلون) من القيلولة ، تقديره: فجاءها بأسنا ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون، أي نائمون ظهيرة . والقيلولة الاستراحة نصف النهار ، وإن لم يكن معها نوم . ومعنى الآية : أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له إما ليلا أو نهارا .

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا إِلَّا أَن قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5)}

قوله: (فما كان دعواهم) أي: قولهم ودعاؤهم وتضرعهم ، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، (إذ جاءهم بأسنا) عذابنا، (إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين) معناه لم يقدروا على رد العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف.

{فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6)}

قوله: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ} أي: لنسألن الأمم الذين أرسل اللّه إليهم المرسلين، عما أجابوا به رسلهم، وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استعلام ، يعني : لنسألهم عما عملوا فيما بلغتهم الرسل {وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} عن تبليغهم لرسالات ربهم، وعما أجابتهم به أممهم.

{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ۖ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)}

قوله:{فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ} أي: على الخلق كلهم ما عملوا في الدنيا فيما أمرناهم به وما نهيناهم عنه {بِعِلْمٍ} منه تعالى لأعمالهم { وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} في وقت من الأوقات.

{وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ۚ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8)}

قوله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} أي: والوزن يوم القيامة يكون بالعدل والقسط، الذي لا جور فيه ولا ظلم. {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } أي: الناجون الذين حصل لهم الربح العظيم، والسعادة الدائمة.

{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُم بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)}

قوله تعالى :{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} بأن رجحت سيئاته، وصار الحكم لها، {فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} إذ فاتهم النعيم المقيم، وحصل لهم العذاب الأليم {بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} بسبب تجاوزهم الحد بجحد أيات الله تعالى، وعدم الانقياد لها كما يجب عليهم ذلك.

{وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ (10)}

قوله تعالى: (ولقد مكناكم في الأرض) أي: ملكناكم إياها وأقدرناكم عليها ، (وجعلنا لكم فيها معايش) أي: أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب، والمعايش، (قليلا ما تشكرون) فيما صنعت إليكم .
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ} بخلق أصلكم ومادتكم التي منها خرجتم: وهو أبوكم آدم عليه السلام {ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} في أحسن صورة، وأحسن تقويم، {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } ثم أمر الملائكة الكرام أن يسجدوا لآدم، إكراما واحتراما، وإظهارا لفضله، فامتثلوا أمر ربهم، {فَسَجَدُوا} كلهم أجمعون {إِلَّا إِبْلِيسَ } أبى أن يسجد له، تكبرا عليه وإعجابا بنفسه.
{قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12)}
قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} لما خلقتُ بيديَّ،؟ {قَالَ} إبليس معارضا لربه: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} ثم برهن على هذه الدعوى الباطلة بقوله: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار على الطين وصعودها، وهذا القياس من أفسد الأقيسة، فإنه باطل من عدة أوجه: منها: أن هناك نص من الله بالسجود فلا يعارضه، والقياس إذا عارض النص، فإنه قياس باطل ومنها: أن قوله: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث. فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه وتكبره، والقول على اللّه بلا علم. وأي نقص أعظم من هذا؟" ومنها: أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب، فإن مادة الطين فيها الخشوع والسكون والرزانة، ومنها تظهر بركات الأرض من الأشجار وأنواع النبات، على اختلاف أجناسه وأنواعه، وأما النار ففيها الخفة والطيش والإحراق. ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى، انحط من مرتبته العالية إلى أسفل السافلين.
{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)}
قوله تعالى : (قال فاهبط منها) أي: من الجنة، (فما يكون لك أن تتكبر) بمخالفة الأمر، (فيها) أي: في الجنة ، فلا ينبغي أن يسكن في الجنة ولا السماء متكبر مخالف لأمر الله تعالى: (فاخرج إنك من الصاغرين) من الأذلاء ، والصغار : الذل والمهانة .
{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14)}
قوله:(قال) إبليس عند ذلك ، (أنظرني) أخرني وأمهلني فلا تمتني ، (إلى يوم يبعثون ) من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت، وليتمكن من إغواء من يقدر عليه من بني آدم .
{قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (15)}
قوله: ( قال ) الله تعالى ، (إنك من المنظرين) المؤخرين ، ممن كتبت عليهم تأخير الأجل إلى النفخة الأولى في القرن إذ يموت الخلق كلهم.
{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16)}
أي: قال إبليس - لما أيس من رحمة اللّه - {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي} فبسبب ما أضللتني {لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } لاجتهدن في إغواء بني آدم عن طريقك القويم، ولأصدنهم عن الإسلام الذي فطرتهم عليه .
{ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
قوله:{ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ } أي: من جميع الجهات والجوانب، ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك بعض مقصوده فيهم، وكان جازما ببذل مجهوده على إغوائهم، ظن وصدق ظنه فقال: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم، وهو يريد صدهم عنه، وعدم قيامهم به، ونبهنا اللّه على ما قال؛ لنأخذ منه حذرنا ونستعد لعدونا، ونحترز منه بعلمنا، بالطريق التي يأتي منها، ومداخله التي ينفذ منها، فله تعالى علينا بذلك، أكمل نعمة.
{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
(قال) الله لإبليس، (اخرج منها مذءوما مدحورا) أي: معيبا مطرودا، (لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين) أي: منك وممن تبعك من بني آدم.
{وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19)}
أي: أمر اللّه تعالى آدم وزوجته حواء، التي أنعم اللّه بها عليه ليسكن إليها، أن يأكلا من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا، إلا أنه عين لهما شجرة، ونهاهما عن أكلها، { فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} المتجاوزين حدود الله.
{فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20)}
قوله: (فوسوس لهما الشيطان) أي: إليهما. والوسوسة: حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان (ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما) لتكون عاقبتهما انكشاف ما ستر من عوراتهما، ثم بين الوسوسة فقال: (وقال) يعني: إبليس لآدم وحواء (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) يعني: لئلا تكونا، كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة يعلمان الخير والشر، (أو تكونا من الخالدين) من الباقين الذين لا يموتون.
{وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)}
قوله:( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين ) أي : وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد ، قال قتادة : حلف لهما بالله حتى خدعهما ، وقد يخدع المؤمن بالله ، فقال : إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما ، وإبليس أول من حلف بالله كاذبا ، فلما حلف ظن آدم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا ، فاغتر به.
{فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ ۚ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۖ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22)}
قوله: ( فدلاهما بغرور ) أي : خدعهما ، يقال : ما زال فلان يدلي لفلان بغرور ، يعني : ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول ، والغرور : إظهار النصح مع إبطان الغش .(فلما ذاقا الشجرة) فلما أكلا منها ،(بدت لهما سوآتهما) ظهرت لهما عوراتهما ، وتهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه، (وطفقا) أقبلا وجعلا (يخصفان عليهما من ورق الجنة) يرقعان ويلزقان ويصلان حتى صار كهيئة الثوب
(وناداهما ربهما) وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا(ألم أنهكما عن تلكما الشجرة) يعني : الأكل منها ، (وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين) أي : بين العداوة .
{قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)}
قوله: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا} أي: قد فعلنا الذنب، الذي نهيتنا عنه، (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا ) بمحو أثر الذنب وعقوبته، (وَتَرْحَمْنَا) بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا. (لنكونن من الخاسرين)، من الهالكين .
{قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ (24)}
قوله: {قَالَ اهْبِطُوا} خاطب الله آدم وزوجته وإبليس، يأمرهم بالهبوط من الجنة إلى الأرض،{بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ } وأنهم سيكونون أعداء لبعضهم البعض، {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ}وأن للأرض مكان استقرار ومتاع لهم إلى وقت محدد.
{قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)}
قوله: ( قال فيها تحيون ) يعني في الأرض تعيشون ، ( وفيها تموتون ومنها تخرجون ) أي : من الأرض تخرجون من قبوركم للبعث
{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا ۖ وَلِبَاسُ التَّقْوَىٰ ذَٰلِكَ خَيْرٌ ۚ ذَٰلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)}
قوله:{يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ } امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري، {وَرِيشًا ۖ} أي: ولباسا للزينة، ليكون معونة لهم على عبادته وطاعته، {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} أي: خير من اللباس الحسي، فإن لباس التقوى يستمر مع العبد، ولا يبلى ولا يبيد، وهو جمال القلب والروح. وأما اللباس الظاهري، فغايته أن يستر العورة الظاهرة، في وقت من الأوقات، {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} أي: ذلك المذكور لكم من اللباس، مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون باللباس الظاهر على الباطن.
{يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا ۗ إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ ۗ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)}
يا بني آدم، لا يخدعنكم الشيطان فيبدي سوءاتكم للناس بطاعتكم إياه عند اختباره لكم، كما فعل بأبويكم آدم وحواء عند اختباره إياهما فأطاعاه وعصيا ربهما، فأخرجهما بما سبَّب لهما من مكره وخدعه، من الجنة, ونـزع عنهما ما كان ألبسهما من اللباس، ليريهما سوءاتهما بكشف عورتهما، وإظهارها لأعينهما بعد أن كانت مستترةً.
{وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ۖ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28)}
يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب، وينسبون أن الله أمرهم بها. {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} وهي: كل ما يستفحش ويستقبح، ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة {قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا } وصدقوا في هذا. {وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا} وكذبوا في هذا، ولهذا رد اللّه عليهم هذه النسبة فقال: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} لا يليق بكماله وحكمته أن يأمر عباده بتعاطي الفواحش لا هذا الذي يفعله المشركون ولا غيره {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ) أيها المشركون(مَا لَا تَعْلَمُونَ) أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته افتراءً عليه سبحانه.
{قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ۖ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29)}
(قل)، يا محمد، لهؤلاء الذين يزعمون أن الله أمرهم بالفحشاء كذبًا على الله: ما أمر ربي بما تقولون بل (أمر ربي بالقسط)، يعني: بالعدل، (وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ)، أي: وجِّهوا وجوهكم حيث كنتم في الصلاة إلى الكعبة. (وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ۚ) واعملوا لربكم مخلصين له الدين والطاعة، لا تخلطوا ذلك بشرك، ولا تجعلوا في شيء مما تعملون له شريكًا، (كَمَا بَدَأَكُمْ ) أول مرة (تَعُودُونَ) للبعث، فالقادر على بدء خلقكم، قادر على إعادته، بل الإعادة، أهون من البداءة.
{فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30)}
قوله:{فَرِيقًا} منكم {هَدَى} اللّه، أي: وفقهم للهداية، ويسر لهم أسبابها، وصرف عنهم موانعها. {وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ } أي: وجبت عليهم الضلالة بما تسببوا لأنفسهم وعملوا بأسباب الغواية. فـ { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ } ، استحبوا ولاية الشيطان، ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران. { وَهم يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ } ظنوا الباطل حقا والحق باطلا .
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)}
يقول تعالى - بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } أي: استروا عوراتكم عند الصلاة كلها، فرضها ونفلها، فإن سترها زينة للبدن، كما أن كشفها يدع البدن قبيحا مشوها. ثم قال: { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } أي: مما رزقكم اللّه من الطيبات { وَلَا تُسْرِفُوا } في ذلك، والإسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي والشره في المأكولات الذي يضر بالجسم، وإما أن يكون بزيادة الترفه في المآكل والمشارب واللباس، وإما بتجاوز الحلال إلى الحرام. { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } فإن السرف يبغضه اللّه، ويضر بدن الإنسان ومعيشته، حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من النفقات، ففي هذه الآية الكريمة الأمر بتناول الأكل والشرب، والنهي عن تركهما، وعن الإسراف فيهما.
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)}
قوله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) قل يا محمد، لهؤلاء الجهلة من العرب الذين يتعرّون عند طوافهم بالبيت، ويحرمون على أنفسهم ما أحللت لهم من طيبات الرزق: من حرَّم، أيها القوم، عليكم زينة الله التي خلقها لعباده أن تتزيَّنوا بها وتتجملوا بلباسها, والحلال من رزق الله الذي رزق خلقه لمطاعمهم ومشاربهم، { قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أي: لا تبعة عليهم فيها. { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ} أي: نوضحها ونبينها {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لأنهم الذين ينتفعون بما فصله اللّه من الآيات، ويعلمون أنها من عند اللّه، فيعقلونها ويفهمونها.
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)}
قوله: (قل إنما حرم ربي الفواحش) يعني: القبائح من الأعمال ( مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ) ماكان منها ظاهرا وماكان خفيا . (والإثم) يعني: المعصية. (والبغي ) الظلم والكبر، (بغير الحق ) بما لم يشرعه الله افتراء وكذبا، (وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا) حجة وبرهانا ، (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) وحرم أن تنسبوا إلى الله تعالى مالم يشرعه ؛ افتراء وكذبا ، كدعوى أن لله ولدا، وتحريم بعض الحلال من الملابس والمآكل .
{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34)}
قوله:(وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ۖ)ولكل جماعة اجتمعت على الكفر بالله تعالى وتكذيب رسله -عليهم الصلاة والسلام- وقت لحلول العقوبة بهم، (فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) فإذا جاء الوقت الذي وقَّته الله لإهلاكهم لا يتأخرون عنه لحظة، ولا يتقدمون عليه.
{يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ۙ فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35)}
قوله تعالى: (يابني آدم إما يأتينكم رسل منكم) إذا جاءكم رسلي من أقوامكم،(يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي) يتلون عليكم آيات كتابي، ويبينون لكم البراهين على صدق ما جاؤوكم به فأطيعوهم، (فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) فإنه من اتقى سخطي وأصلح عمله فلا خوف عليهم يوم القيامة من عقاب الله تعالى، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)}
قوله: (والذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها) تكبروا عن الإيمان بها، وإنما ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر، (أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) ماكثين فيها، لا يخرجون منها أبدًا.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَىٰ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ ۚ أُولَٰئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ۖ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)}
قوله تعالى: (فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا) جعل له شريكا، (أو كذب بآياته) بالقرآن ، (أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب) في اللوح المحفوظ من خير وشر، (حَتَّىٰ إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ) يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه، (قالوا) يعني يقول الرسل للكافر، (أين ما كنتم تدعون ) تعبدون، (من دون الله) من غيره، وهو سؤال تبكيت وتقريع، ( قالوا ضلوا عنا) ذهبوا عنا، (وشهدوا على أنفسهم) اعترفوا عند معاينة الموت، (أنهم كانوا كافرين ) واعترفوا على أنفسهم حينئذ أنهم كانوا في الدنيا جاحدين مكذبين وحدانية الله تعالى.
{قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ فِي النَّارِ ۖ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ۖ حَتَّىٰ إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَٰؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ ۖ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَٰكِن لَّا تَعْلَمُونَ (38)}
قوله:( قال ادخلوا في أمم ) يعني: جماعات ، ( قد خلت ) مضت ، ( من قبلكم من الجن والإنس في النار) يعني كفار الأمم الخالية ، (كلما دخلت أمة لعنت أختها ) يريد أختها في الدين لا في النسب، كل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة ، ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة ، ( حتى إذا اداركوا فيها جميعا) أي : تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار، (قالت أخراهم) يعني أخراهم دخولا النار وهم الأتباع ، (لأولاهم) أي : لأولاهم دخولا وهم القادة ، لأن القادة يدخلون النار أولا . (ربنا هؤلاء) الذين ، (أضلونا) عن الهدى (فآتهم عذابا ضعفا من النار) أي : ضعف عليهم العذاب ، ( قال ) الله تعالى ، ( لكل ضعف) يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب ، (ولكن لا تعلمون) ما لكل فريق منكم من العذاب .
{وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39)}
قوله: (وقالت أولاهم) يعني القادة (لأخراهم) للأتباع ، (فما كان لكم علينا من فضل ) لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء، (فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون ) فذوقوا عذاب جهنم ؛ بسبب ما كسبتم من المعاصي.
{إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّىٰ يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40)}
قوله: ( إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتح لهم أبواب السماء ) لأدعيتهم ولا لأعمالهم ، ( ولا يدخلون الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط ) أي : حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة ، والمراد منه : أنهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن الشيء إذا علق بما يستحيل كونه يدل ذلك على تأكيد المنع ( وكذلك نجزي المجرمين ) الذين كثر إجرامهم واشتد طغيانهم.
{لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)}
قوله: ( لهم من جهنم مهاد ) أي : فراش ، ( ومن فوقهم غواش ) أي : لحف ، وهي جمع غاشية ، يعني ما غشاهم وغطاهم ، يريد إحاطة النار بهم من كل جانب ، ( وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) الذين تجاوزوا حدوده فكفروا به وعصَوْه.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42)}
قوله: (والذين آمنوا وعملوا الصالحات لا نكلف نفسا إلا وسعها) أي : طاقتها وما لا تحرج فيه ولا تضيق عليه ، (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) أولئك أهل الجنة، هم فيها ماكثون أبدًا لا يخرجون منها.
{وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ۖ وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43)}
قوله: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ) وأذهب الله تعالى ما في صدور أهل الجنة من ضغائن، (تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ ۖ) ومن كمال نعيمهم أن الأنهار تجري في الجنة من تحت غرفهم ومنازلهم. (وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَٰذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ ۖ ) وقال أهل الجنة حينما دخلوها: الحمد لله الذي وفَّقنا للعمل الصالح الذي أكسبنا ما نحن فيه من النعيم، وما كنا لنوفَّق إلى سلوك الطريق المستقيم لولا أَنْ هدانا الله سبحانه لسلوك هذا الطريق، ووفَّقنا للثبات عليه،(لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ) بالحق من الإخبار بوعد أهل طاعته ووعيد أهل معصيته، (وَنُودُوا أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) ونُودوا تهنئة لهم وإكرامًا : أن تلكم الجنة أورثكم الله إياها برحمته، وبما قدَّمتموه من الإيمان والعمل الصالح.
{وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا ۖ قَالُوا نَعَمْ ۚ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)}
قوله تعالى : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا ) من الثواب ، ( حقا ) أي صدقا ، ( فهل وجدتم ما وعد ربكم ) من العذاب ، (حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم) أي : نادى مناد أسمع الفريقين ، (أن لعنة الله على الظالمين) أي: الكافرين.
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)}
قوله:(الذين يصدون) أي : يصرفون الناس ، (عن سبيل الله) طاعة الله ، (ويبغونها عوجا) أي : يطلبونها زيغا وميلا .
{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ ۚ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ ۚ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلَامٌ عَلَيْكُمْ ۚ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)}
قوله:(وبينهما حجاب) يعني: بين الجنة والنار، (وعلى الأعراف رجال) الأعراف هو ذلك السور الذي بين الجنة والنار ، وهو جمع عرف، وهو اسم للمكان المرتفع وهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء ، ثم يدخلهم الجنة بفضل رحمته ، وهم آخر من يدخل الجنة .
قوله تعالى : ( يعرفون كلا بسيماهم ) أي : يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم . ( ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم ) أي : إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم ، ( لم يدخلوها ) يعني : أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة ، (وهم يطمعون) في دخولها ، قال أبو العالية : ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريد بهم .
وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)}
قوله:(وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار ) ورأوا منظرا شنيعا، وهَوْلًا فظيعا تعوذوا بالله، ( قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ) يعني: الكافرين في النار.
{وَنَادَىٰ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُم بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَىٰ عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48)}
قوله: : {وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وهم من أهل النار، وقد كانوا في الدنيا لهم شرف، وأموال وأولاد، فقال لهم أصحاب الأعراف، حين رأوهم منفردين في العذاب، بلا ناصر ولا مغيث: {مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ} في الدنيا، الذي تستدفعون به المكاره، وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا، فاليوم اضمحل، ولا أغنى عنكم شيئا، وكذلك، أي شيء نفعكم استكباركم على الحق وعلى من جاء به وعلى من اتبعه. {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} وما نفعكم استعلاؤكم عن الإيمان بالله وقَبول الحق.
{أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49)}
قوله: (أهؤلاء) يعني : أصحاب الأعراف (الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ) أي: حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة . ثم تقول الملائكة لأهل الأعراف : (ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) فيدخلون الجنة .
{وَنَادَىٰ أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ ۚ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50)}
قوله تعالى: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا ) أي: صبوا ، (علينا من الماء أو مما رزقكم الله) أي: أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة . ( قالوا إن الله حرمهما على الكافرين ) يعني : الماء والطعام .
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا ۚ فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَٰذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)}
قوله { الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا } أي:الذين حَرَمهم الله تعالى من نعيم الآخرة هم الذين جعلوا الدين الذي أمرهم الله باتباعه باطلا ولهوًا، {وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها، فاطمأنوا إليها ورضوا بها وفرحوا، وأعرضوا عن الآخرة ونسوها. {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ } أي: نتركهم في العذاب { كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا } أي : كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا ، { وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ } ولكونهم بأدلة الله وبراهينه ينكرون مع علمهم بأنها حق.
{وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَىٰ عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
قوله: (ولقد جئناهم بكتاب) يعني: القرآن (فصلناه) بيناه ، (على علم) منَّا لما يصلحهم، (هدى ورحمةً) أي: جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة، (لقوم يؤمنون) بالله ويعملون بشرعه، وخصَّهم دون غيرهم ؛ لأنهم هم المنتفعون به.
{هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ ۚ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ ۚ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
قوله: (هل ينظرون) أي: هل ينتظرون، (إلا تأويله) عاقبته، فهل ينتظرون إلا ما يئول إليه أمرهم في العذاب ومصيرهم إلى النار. (يوم يأتي تأويله) أي: جزاؤه وما يئول إليه أمرهم، (يقول الذين نسوه من قبل) تركوا القرآن وكفروا به (قد جاءت رسل ربنا بالحق) اعترفوا به حين لا ينفعهم الاعتراف، (فهل لنا) اليوم، (من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد) إلى الدنيا ، (فنعمل غير الذي كنا نعمل قد خسروا أنفسهم ) أهلكوها بالعذاب ، ( وضل عنهم) وبطل (ما كانوا يفترون) في الدنيا مما يعدهم به الشيطان.
{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ۗ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
قوله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) إن ربكم -أيها الناس- هو الله الذي أوجد السموات والأرض من العدم في ستة أيام، (ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ)أي علا وارتفع- استواءً يليق بجلاله وعظمته ؛ (يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا )يُدخل سبحانه الليل على النهار، فيلبسه إياه حتى يذهب نوره، ويُدخل النهار على الليل فيذهب ظلامه، وكل واحد منهما يطلب الآخر سريعًا دائمًا، (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ ۗ )وهو -سبحانه- الذي خلق الشمس والقمر والنجوم مذللات له يسخرهن -سبحانه- كما يشاء، وهنَّ من آيات الله العظيمة. ألا له سبحانه وتعالى الخلق كله وله الأمر كله، (تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) تعالى الله وتعاظم وتنزَّه عن كل نقص، رب الخلق أجمعين.
{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)}
قوله:{ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا} أي: إلحاحا في المسألة، {وَخُفْيَةً} أي: لا جهرا وعلانية، بل خفية وإخلاصا للّه تعالى. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي: المتجاوزين للحد في كل الأمور، ومن الاعتداء كون العبد يسأل اللّه مسائل لا تصلح له، أو يتنطع في السؤال، أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء أمام الناس، فكل هذا داخل في الاعتداء المنهي عنه.
{وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا ۚ إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56)}
قوله:( ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ) أي لا تفسدوا فيها بالمعاصي والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعث الرسل وبيان الشريعة، (وادعوه خوفا وطمعا) أي : خوفا منه ومن عذابه ، وطمعا فيما عنده من مغفرته وثوابه. (إن رحمة الله قريب من المحسنين) أي: ثوابه ، رجع النعت إلى المعنى دون اللفظ.
{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ۖ حَتَّىٰ إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۚ كَذَٰلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَىٰ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)}
قوله: { وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي: الرياح المبشرات بالغيث، { حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ } حملت الرياح {سَحَابًا ثِقَالًا} بالمطر { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ } أي : إلى بلد ميت محتاج إلى الماء { فَأَنْزَلْنَا بِهِ} أي: بذلك البلد الميت {الْمَاءُ} الغزير من ذلك السحاب وسخر اللّه له ريحا تدره وتفرقه بإذن اللّه. { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ } فأصبحوا مستبشرين برحمة اللّه، راتعين بخير اللّه، وقوله: { كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } استدل بإحياء الأرض بعد موتها على إحياء الموتى، وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلاء اللّه والنظر إليها بعين الاعتبار والاستدلال، لا بعين الغفلة والإهمال.
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ ۖ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا ۚ كَذَٰلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)}
قوله تعالى : ( والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه ) هذا مثل ضربه الله - عز وجل - للمؤمن والكافر فمثل المؤمن مثل البلد الطيب ، يصيبه المطر فيخرج نباته بإذن ربه ، ( والذي خبث ) يريد الأرض السبخة التي ( لا يخرج ) نباتها ، ( إلا نكدا ) أي : عسرا قليلا بعناء ومشقة .
فالأول : مثل المؤمن الذي إذا سمع القرآن وعاه وعقله وانتفع به ، والثاني : مثل الكافر الذي يسمع القرآن فلا يؤثر فيه ، كالبلد الخبيث الذي لا يتبين أثر المطر فيه ( كذلك نصرف الآيات ) نبينها ، (لقوم يشكرون) يشكرون اللّه بالاعتراف بنعمه.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59)}
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده، حين كانوا يعبدون الأوثان {فَقَالَ} لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} أي: وحده {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} لأنه الخالق الرازق المدبِّر لجميع الأمور، وما سواه مخلوق مدبَّر، ليس له من الأمر شيء، ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب اللّه، فقال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وهذا من نصحه عليه الصلاة والسلام وشفقته عليهم، حيث خاف عليهم العذاب الأبدي، والشقاء السرمدي، كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من شفقة آبائهم وأمهاتهم، فلما قال لهم هذه المقالة، ردوا عليه أقبح رد.
{قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (60)}
قوله:{قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ} أي: الرؤساء الأغنياء المتبوعون الذين قد جرت العادة باستكبارهم على الحق، وعدم انقيادهم للرسل، {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فلم يكفهم - قبحهم اللّه - أنهم لم ينقادوا له، بل استكبروا عن الانقياد له، وقدحوا فيه أعظم قدح، ونسبوه إلى الضلال، ولم يكتفوا بمجرد الضلال حتى جعلوه ضلالا مبينا واضحا لكل أحد.
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61)}
قوله:( قال )أي: نوح ، ( يا قوم ليس بي ضلالة ) أي: لست ضالا في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه، وإنما أنا هاد مهتد،، وهي هداية الرسالة التامة الكاملة، ولهذا قال: { وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أي: ربي وربكم ورب جميع الخلق، الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية، الذي من أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسلا تأمرهم بالأعمال الصالحة والأخلاق الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها.
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)}
قوله: { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ } أي: وظيفتي تبليغكم، ببيان توحيده وأوامره ونواهيه، على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم، {وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لأمري ؛ لأن عذابه لا يرد عن القوم المجرمين .
{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)}
قوله: (أوعجبتم) ألف استفهام دخلت على واو العطف ،والمعنى: كيف تعجبون من حالة لا ينبغي العجب منها، (أن جاءكم ذكر من ربكم) موعظة، وبيان، ورسالة. (على رجل منكم لينذركم ) عذاب الله إن لم تؤمنوا، (ولتتقوا) أي: لكي تتقوا الله، (ولعلكم ترحمون) لكي ترحموا .
{فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)}
قوله:(فكذبوه) يعني: كذبوا نوحا، عليه السلام (فأنجيناه) من الطوفان، (والذين معه في الفلك) في السفينة، (وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوما عمين) أي: كفارا عميت قلوبهم عن معرفة الله، وعموا عن الحق والإيمان ،وعموا عن نزول العذاب بهم وهو الغرق .
وَإِلَىٰ عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۚ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65)
قوله تعالى: (وإلى عاد) الأولى، الذين كانوا في أرض اليمن، وهم أولاد عاد بن إرمَ. (أخاهم) في النسب لا في الدين (هودا) ،عليه السلام، يدعوهم إلى التوحيد وينهاهم عن الشرك والطغيان في الأرض ، ( قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره أفلا تتقون ) أفلا تخافون نقمته و سخطه وعذابه، إن أقمتم على ما أنتم عليه.
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66)}
قوله:( قال الملأ الذين كفروا من قومه إنا لنراك ) يا هود ، ( في سفاهة ) في حمق وجهالة ، ( وإنا لنظنك من الكاذبين ) ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين.
{قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَٰكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67)}
فوله:{ قَالَ }أي: هود عليه السلام {يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ } بوجه من الوجوه، بل هو الرسول المرشد الرشيد، {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ } أرسلني للهداية والرشاد .
{أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)}
قوله: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي}فأنا أبلغكم رسالات ربي، وأؤدّيها إليكم كما أمرني أن أؤدِّيَها. {وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ}ناصح أدعوكم إلى التوبة أمين على الرسالة، فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والانقياد وطاعة رب العباد.
{أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)}
قوله: (أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم) يعني نفسه ، (واذكروا إذ جعلكم خلفاء ) يعني في الأرض ، ( من بعد قوم نوح ) من بعد إهلاكهم ، (وزادكم في الخلق بسطة ) أي: قوة وضخامة، (فاذكروا آلاء الله) نعم الله ( لعلكم تفلحون ) تفوزون .
{قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70)}
قوله:(قالوا أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا) من الأصنام ،(فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) هذا استفتاح منهم على أنفسهم، فقد طلبوا العذاب الذي خوفهم به وحذرهم منه .
{قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ ۖ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ ۚ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71)}
قوله: (قال) هود ، (قد وقع) وجب ونزل ، (عليكم من ربكم رجس) أي عذاب ، والسين مبدلة من الزاي ، (وغضب) أي: سخط ، (أتجادلونني في أسماء سميتموها) وضعتموها ، ( أنتم وآباؤكم ) كانت لهم أصنام يعبدونها سموها أسماء مختلفة ، (ما نزل الله بها من سلطان ) حجة وبرهان ، ( فانتظروا ) نزول العذاب، (إني معكم من المنتظرين) وهذا غاية في التهديد والوعيد.
{فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۖ وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ (72)}
قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ} أي: هودا {وَالَّذِينَ} آمنوا {مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا} فإنه الذي هداهم للإيمان، وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته، {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي لم يبق منهم أحدا، وسلط اللّه عليهم الريح العقيم، {وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} بوجه من الوجوه، بل وصفهم التكذيب والعناد، ونعتهم الكبر والفساد.
{وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ هَٰذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً ۖ فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ۖ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73)}
قوله - عز وجل -: (وإلى ثمود أخاهم صالحا) وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ، وأراد هاهنا القبيلة، وسميت ثمود لقلة مائها، والثمد: الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام، شمال غرب بلاد الحرمين، وكانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الحليل،عليه السلام، وكانت ثمود بعد عاد (أخاهم صالحا) أي: أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب ، لا في الدين صالحا ، وهو صالح بن عبيد بن آسف بن ماشيح بن عبيد بن خادر بن ثمود، (قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم) حجة من ربكم على صدقي، (هذه ناقة الله ) أضافها إليه على التفضيل والتخصيص ، كما يقال بيت الله، (لكم آية) علامة ودلالة على قدرة الله (فذروها تأكل) العشب، (في أرض الله ولا تمسوها بسوء) لا تصيبوها بعقر.
(فيأخذكم عذاب أليم) فيهلككم الله بعذاب موجع.
{وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا ۖ فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74)}
قوله:(وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ) في الأرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم ( مِن بَعْدِ عَادٍ) الذين أهلكهم اللّه، وجعلكم خلفاء من بعدهم،( وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ)، أي: مكن لكم فيها، وسهل لكم الأسباب الموصلة إلى ما تريدون وتبتغون (تتخذون من سهولها قصورا وتنحتون الجبال بيوتا ) كانوا ينقبون في الجبال البيوت ففي الصيف يسكنون بيوت الطين ، وفي الشتاء بيوت الجبال ، (فاذكروا آلاء الله) نعمه عليكم ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين) العيث : أشد الفساد .
{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ ۚ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75)}
قوله:{قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي: الرؤساء والأشراف الذين تكبروا عن الحق، {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا} وهم الاتباع، ولمَّا كان المستضعفون ليسوا كلُّهم مؤمنين، قالوا {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ} أي: أهو صادق أم كاذب؟. فقال المستضعفون: {إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ } من توحيد اللّه والخبر عنه وأمره ونهيه.
{قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ (76)}
قوله { قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا } وهم السادة والرؤساء {إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } حملهم الكبر أن لا ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء.
{فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)}
قوله:{فَعَقَرُوا} العقر كشف عرقوب البعير، ثم قيل للنحر عقر؛ لأن العقر سبب النحر في الغالب{النَّاقَةَ} التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم، {وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} أي: قسوا عنه، واستكبروا عن أمره {وَقَالُوا} مع هذه الأفعال متجرئين على اللّه، معجزين له، غير مبالين بما فعلوا، بل مفتخرين بها: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا } من العذاب{إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} إن كنت من الصادقين من أنَّ العذاب قادمٌ.
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)}
قوله: (فأخذتهم الرجفة) وهي زلزلة الأرض وحركتها وأهلكوا بالصيحة والرجفة ، (فأصبحوا في دارهم) أراد في أرضهم وبلدتهم ، (جاثمين) خامدين ميتين . فسقطوا على وجوههم موتى عن آخرهم .
{فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَٰكِن لَّا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)}
قوله: (فتولى عنهم) أعرض صالح ، وخاطبهم بعد موتهم كما خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفار من قتلى بدر حين ألقاهم في القليب ، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم ( وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي) وأدّيت إليكم ما أمرني بأدائه إليكم ربّي من أمره ونهيه، (ونصحت لكم) ، في أدائي رسالة الله إليكم ، في تحذيركم بأسه بإقامتكم على كفركم به وعبادتكم الأوثان(ولكن لا تحبون الناصحين ) ، لكم في الله ، الناهين لكم عن اتباع أهوائكم ، الصادِّين لكم عن شهوات أنفسكم.
{وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ الْعَالَمِينَ (80)}

قوله تعالى: (ولوطا) أي : وأرسلنا لوطا، وهو لوط بن هاران بن آزر ، ابن أخي إبراهيم ، ( إذ قال لقومه ) وهم أهل سدوم وذلك أن لوطا شخص من أرض بابل سافر مع عمه إبراهيم عليه السلام مؤمنا به مهاجرا معه إلى الشام ، فنزل إبراهيم فلسطين وأنزل لوطا الأردن، فأرسله الله - عز وجل - إلى أهل سدوم فقال لهم ،(أتأتون الفاحشة) يعني: إتيان الذكران ، (ما سبقكم بها من أحد من العالمين ) فهم أول من فعلوها وابتدعوها، وسنوها لمن بعدهم، فما يرى ذكر على ذكر في الدنيا إلا نسب إلى قوم لوط بفعله.
{إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ ۚ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81)}
قوله:(إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ) في أدبارهم، (شهوة من دون النساء) يعني أدبار الرجال أشهى عندكم من فروج النساء ، (بل أنتم قوم مسرفون) مجاوزون الحلال إلى الحرام .
{وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)}
قوله - عز وجل - : (وما كان جواب قومه إلا أن قالوا ) قال بعضهم لبعض: (أخرجوهم ) يعني : لوطا وأهل دينه ، ( من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) يتنزهون عن أدبار الرجال .
{فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83)}
قوله: (فأنجيناه) يعني: لوطا، (وأهله) ابنتاه، حيث لم يسلم معه سواهما لقوله تعالى (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الذاريات 36) قوله: (إلا امرأته كانت من الغابرين) من الهالكين، حيث إنها لم تؤمن بنبي الله لوط عليه السلام.
{وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)}
قوله:(وأمطرنا عليهم مطرا) يعني:حجارة من سجيل، (فانظر كيف كان عاقبة المجرمين ) تأمل ، يا محمد، إلى عاقبة هؤلاء الذين كذبوا الله ورسوله من قوم لوط، لم تكن عاقبتهم إلا البوار والهلاك.
{وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ۗ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَٰهٍ غَيْرُهُ ۖ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ۖ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85)}
قوله: {وَإِلَىٰ مَدْيَنَ} وهم أصحاب الأيكة ، ومدين تطلق على القبيلة ، وعلى المدينة ، وهي التي بقرب (معان) جنوب الأردن {أَخَاهُمْ شُعَيْبًا ْ}، في النسب، لا في الدين، يدعوهم إلى عبادة اللّه وحده لا شريك له، ويأمرهم بإيفاء المكيال والميزان، وأن لا يبخسوا الناس أشياءهم، وأن لا يعثوا في الأرض مفسدين، بالإكثار من عمل المعاصي، ولهذا قال: {وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ْ} فإن ترك المعاصي امتثالا لأمر اللّه وتقربا إليه خير، وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار، وعذاب النار.
{وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ ۖ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86)}
قوله تعالى:(ولا تقعدوا بكل صراط) أي: على كل طريق، (توعدون) تهددون ، (وتصدون عن سبيل الله) دين الله ، (من آمن به وتبغونها عوجا ) زيغا ، (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) فكثر عددكم ، (وانظروا كيف كان عاقبة المفسدين ) وما حل بهم من الهلاك والدمار، وآخرهم قوم لوط .
{وَإِن كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا ۚ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)}
قوله:(وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا ) أي : إن اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مكذبين ومصدقين، (فاصبروا) وعيد وتهديد ، ليس أمرا بالصبر (حتى يحكم الله بيننا) بتعذيب المكذبين وإنجاء المصدقين، (وهو خير الحاكمين ) فينصر المحق، ويوقع العقوبة على المبطل.
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۚ قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88)}
قوله:(قال الملأ الذين استكبروا من قومه) يعني الرؤساء الذين تعظموا عن الإيمان به، ( لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودن في ملتنا ) لترجعن إلى ديننا الذي نحن عليه ، ( قال ) شعيب ( أولو كنا كارهين ) أي: وإن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه؟
{قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ۚ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ۚ عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ۚ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)}
قوله:{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ْ} أي: اشهدوا علينا أننا إن عدنا إليها بعد ما نجانا اللّه منها وأنقذنا من شرها، أننا كاذبون مفترون على اللّه الكذب، فإننا نعلم أنه لا أعظم افتراء ممن جعل للّه شريكا، وهو الواحد الأحدالذي لا شريك له في ملكه. { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ْ} أي: يمتنع على مثلنا أن نعود فيها، فإن هذا من المحال، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ْ} أي: فلا يمكننا ولا غيرنا، الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته، وقد { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ْ} فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه. {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } أي: اعتمدنا أنه سيثبتنا على الصراط المستقيم، وأن يعصمنا من جميع طرق الجحيم، فإن من توكل على اللّه، كفاه، ويسر له أمر دينه ودنياه. { رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ْ} أي: انصر المظلوم، وصاحب الحق، على الظالم المعاند للحق { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ْ} أي: الحاكمين.
{وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ (90)}
قوله:(وقال الملأ الذين كفروا من قومه) محذرين عن اتباع شعيب،( لئن اتبعتم شعيبا ) وتركتم دينكم ، (إنكم إذا لخاسرون ) هالكون .
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91)}
قوله:{ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ ْ} أي: الزلزلة الشديدة {فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} أي: صرعى ميتين هامدين.
{الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا ۚ الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)}
وقوله تعالى: ( الذين كذبوا شعيبا كأن لم يغنوا فيها) أي: لم يقيموا ولم ينزلوا فيها، ويتنعموا فيها .(الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين) ؛ لأنهم خسروا دينهم وأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
{فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ ۖ فَكَيْفَ آسَىٰ عَلَىٰ قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)}
قوله:( فتولى عنهم) فأعرض عنهم نبي الله شعيب حين أتاهم العذاب ، (وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي) أي: أوصلتها إليكم، وبينتها حتى بلغت منكم أقصى ما يمكن أن تصل إليه، وخالطت أفئدتكم {وَنَصَحْتُ لَكُمْ} فلم تقبلوا نصحي، ولا انقدتم لإرشادي، بل فسقتم وطغيتم. {فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ْ} أي: فكيف أحزن على قوم لا خير فيهم.
{وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94)}
قوله تعالى: (وما أرسلنا في قرية من نبي) يدعوهم إلى عبادة اللّه، وينهاهم عن ما هم فيه من الشر، فلم ينقادوا له، (إلا أخذنا) عاقبنا (أهلها) حين لم يؤمنوا ، (بالبأساء والضراء) أي: بالفقر والمرض وأنواع البلايا ، ( لعلهم يضرعون ) لكي يتضرعوا فيتوبوا .
{ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)}
قوله: (ثم بدلنا مكان السيئة الحسنة ) يعني: مكان البأساء والضراء الحسنة ،والمراد بها: النعمة والسعة والخصب والصحة ، (حتى عفوا) كثرت أموالهم وأولادهم، ونسوا ما مر عليهم من البلاء( وقالوا ) من غرتهم وغفلتهم بعد ما صاروا إلى الرخاء، ( قد مس آباءنا الضراء والسراء ) أي : هكذا كانت عادة الدهر قديما لنا ولآبائنا، ولم يكن ما مسنا من الضراء عقوبة من الله ، فكونوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤكم فإنهم لم يتركوا دينهم لما أصابهم من الضراء، قال الله تعالى : ( فأخذناهم بغتة ) فجأة آمن ما كانوا ( وهم لا يشعرون )لا يخطر لهم الهلاك على بال.
{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96)}
قوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض) يعني : المطر من السماء والنبات من الأرض ، ( ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون ) من الأعمال الخبيثة.
{أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97)}
قوله:(أفأمن أهل القرى) الذين كفروا وكذبوا، يعني: أهل مكة وما حولها، (أن يأتيهم بأسنا ) عذابنا ، (بياتا) ليلا (وهم نائمون) أي: في غفلتهم.
{أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَىٰ أَن يَأْتِيَهُم بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98)}
قوله: (أوأمن أهل القرى) أو أمنوا هذه الضروب من العقوبات. (أن يأتيهم بأسنا ضحى ) أي : نهارا ، والضحى : صدر النهار، ووقت انبساط الشمس، ( وهم يلعبون ) ساهون لاهون .
{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ۚ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)}
قوله:{أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ ْ} أي عذابه وجزاءه على مكرهم استدراجه بالنعمة والصحة ، { فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } فإنّ مكر الله لا يأمنه إلا القوم الهالكون.
{أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ۚ وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)}
قوله: (أولم يهد) أولم نبين ، (للذين يرثون الأرض من بعد) هلاك (أهلها) الذين كانوا فيها قبلهم (أن لو نشاء أصبناهم) أي: أخذناهم وعاقبناهم ، (بذنوبهم) كما عاقبنا من قبلهم ، (ونطبع ) نختم (على قلوبهم فهم لا يسمعون) الإيمان ولا يقبلون الموعظة .
{تِلْكَ الْقُرَىٰ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَائِهَا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِن قَبْلُ ۚ كَذَٰلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101)}
قوله:( تلك القرى) أي : هذه القرى التي ذكرت لك أمرها وأمر أهلها ، يعني: قرى قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط وقوم شعيب، (نقص عليك من أنبائها) أخبارها لما فيها من الاعتبار ، (ولقد جاءتهم رسلهم بالبينات) بالآيات والمعجزات والعجائب ، (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا من قبل) أي: فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤية المعجزات والعجائب بما كذبوا من قبل رؤيتهم تلك العجائب . ( كذلك يطبع الله على قلوب الكافرين ) أي : كما طبع الله على قلوب الأمم الخالية التي أهلكها ، كذلك يطبع الله على قلوب الكفار الذين كتب عليهم أن لا يؤمنوا من قومك .
{وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ ۖ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)}
قوله: ( وما وجدنا لأكثرهم من عهد ) أي : وفاء بالعهد الذي عاهدهم يوم الميثاق ، حين أخرجهم من صلب آدم ( وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين ) أي : ما وجدنا أكثرهم إلا فسقة عن طاعة الله وامتثال أمره ، ناقضين للعهد.
{ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَىٰ بِآيَاتِنَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا ۖ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)}
قوله تعالى: (ثم بعثنا من بعدهم) أي: من بعد نوح وهود وصالح وشعيب ، (موسى بآياتنا ) بأدلتنا ، (إلى فرعون وملئه فظلموا بها) فجحدوا بها ، والظلم: وضع الشيء في غير موضعه ، فظلمهم وضع الكفر موضع الإيمان ، (فانظر كيف كان عاقبة المفسدين ) تأمل كيف أهلكهم اللّه، وأتبعهم الذم واللعنة في الدنيا ويوم القيامة.
{وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104)}
قال تعالى: (وقال موسى) حين جاء إلى فرعون يدعوه إلى الإيمان( يا فرعون إني رسول من رب العالمين ) أي : أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه .
{حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105)}
قوله: {حَقِيقٌ عَلَىٰ أَن لَّا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ} خليق بي أن لا أقول على الله إلا الحق. فإني لو قلت غير ذلك لعاجلني بالعقوبة، وأخذني أخذ عزيز مقتدر، {قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} ببرهان يشهدُ، أيها القوم، على صحة ما أقول، يعني: العصا {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي : أطلقهم من أسرك وقهرك ، ودعهم وعبادة ربك وربهم ؛ فإنهم من سلالة نبي كريم ، وهو : يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن.
{قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)}
قوله: {قَالَ} فرعون لموسى عليه السلام{ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ } أي: بحجة وعلامة شاهدة على صدق ما تقول، {فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فأظهرها لنراها ، إن كنت صادقا فيما اَّدعيتَ.
{فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107)}.
قوله:( فألقى ) موسى ( عصاه ) من يده ( فإذا هي ثعبان ) والثعبان : الذكر العظيم من الحيات، (مبين) أي حية لا لبس فيها .
{وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)}
قوله:(ونزع يده) فأدخل موسى عليه السلام يده في جيبه ثم نزعها و أخرجها من تحت إبطه، (فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ) فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص، وكان موسى آدم، ثم أدخلها جيبه فصارت كما كانت .
{قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109)}
قوله: {قَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ}حين بهرهم ما رأوا من الآيات، ولم يؤمنوا، {إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} ماهر في سحره، ومعنى عليم : أي بسحره.
{يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)}
قوله:( يريد أن يخرجكم ) يا معشر القبط ، ( من أرضكم ) مصر، ( فماذا تأمرون ) أي : تشيرون عليَّ ، هذا يقوله فرعون وإن لم يذكره .
{قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111)}
قوله:(قالوا) يعني الملأ (أرجه وأخاه) أخِّرْه وأخاه هارون، أشاروا عليه بتأخير أمره وترك التعرض له بالقتل، (وأرسل في المدائن حاشرين) وابعث في مدائن مصر وأقاليمها الشُرَطَ.
{يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)}
قوله:{يَأْتُوكَ} أي: يأتي الشرط من المدائن والأقاليم،{بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} متمكن في سحره، على علم فيه عظيم (112).
{وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113)}
قوله:( وجاء السحرة فرعون ) واجتمعوا ، ( قالوا ) لفرعون ( إن لنا لأجرا ) أي جعلا ومالا ( إن كنا نحن الغالبين ) إن انتصرنا على موسى.
{قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ }(114)
قوله:( قال ) فرعون ( نعم وإنكم لمن المقربين ) في المنزلة الرفيعة عندي مع الأجر.
{قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115)}
قوله:( قالوا ) يعني السحرة (يا موسى إما أن تلقي) عصاك ( وإما أن نكون نحن الملقين ) لعصينا وحبالنا .
{قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)}
قوله:(قال) موسى بل (ألقوا) أنتم ، ( فلما ألقوا سحروا أعين الناس ) أي: صرفوا أعينهم عن إدراك حقيقة ما فعلوه من التمويه والتخييل ، وهذا هو السحر، (واسترهبوهم) أي: أرهبوهم وأفزعوهم، (وجاءوا بسحر عظيم) قوي كثير، لا مثيل له.
وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117)}
قوله:(وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك) فألقاها فصارت حية عظيمة ، (فإذا هي تلقف) أي : تبتلع، (ما يأفكون) يكذبون من التخاييل.
{فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118)}
قوله:( فوقع الحق ) ظهر الحق ، ( وبطل ما كانوا يعملون ) من السحر وذلك أن السحرة قالوا : لو كان ما يصنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت علموا أن ذلك من أمر الله .
{فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119)}
قوله: {فَغُلِبُوا هُنَالِكَ} أي: في ذلك المقام {وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ} أي: حقيرين قد اضمحل باطلهم، وتلاشى سحرهم، ولم يحصل لهم المقصود الذي ظنوا حصوله.
{وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120)}
قوله: (وألقي السحرة ساجدين) لله تعالى فألهمهم أن يسجدوا فسجدوا ، ومن سرعة ما سجدوا كأنهم ألقوا .
{قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121)}
أي: صدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.
{رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (122)}
أي: وصدقنا بما بعث به موسى من الآيات البينات.
{قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123)}
قوله: (قال) لهم ( فرعون ) حين آمنوا (آمنتم به قبل أن آذن لكم ) أصدقتم موسى من غير أمري إياكم ، (إن هذا لمكر مكرتموه) أي : صنيع صنعتموه أنتم وموسى: (في المدينة) في مصر قبل خروجكم إلى هذا الموضع لتستولوا على مصر، (لتخرجوا منها أهلها فسوف تعلمون) ما أفعل بكم .
{لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124)}
قوله:(لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ) لأقطعن أيديكم اليمنى وأرجلكم اليسرى ، ( ثم لأصلبنكم أجمعين ) في جذوع النخل .
{قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125)}
قوله:( قالوا ) يعني السحرة لفرعون ، ( إنا إلى ربنا منقلبون ) راجعون في الآخرة .
{وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126)}
قوله:(وما تنقم منا) أي: ما تكره منا . إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا) إلا تصديقنا بحجج ربنا وأدلته التي جاء بها موسى، ثم فزعوا إلى الله - عز وجل - فقالوا : (ربنا أفرغ) اصبب، (علينا صبرا وتوفنا مسلمين) أي: منقادين لأمرك، متبعين لرسولك.
{وَقَالَ الْمَلَأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَىٰ وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ ۚ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127)}
قوله: (وقال الملأ من قوم فرعون) وقال السادة والكبراء لفرعون: (أتذر موسى وقومه ) أتدع موسى وقومه من بين إسرائيل (ليفسدوا في الأرض ) أرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته، (ويذرك وآلهتك) وترك عبادتك وعبادة آلهتك، فلا يعبدك ولا يعبدها .(قال) فرعون (سنقتل أبناءهم) أي: أبناء بني إسرائيل، ( ونستحيي نساءهم )أي: نستبقيهن فلا نقتلهن، فإذا فعلنا ذلك أمنا من كثرتهم، وكنا مستخدمين لباقيهم، (وإنا فوقهم قاهرون) غالبون .
{قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا ۖ إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)}
قوله:(قال موسى لقومه) موصيا لهم (استعينوا بالله) على فرعون وقومه، (واصبروا) على ما نالكم من فرعون من المكاره (إن الأرض لله) يعني أرض مصر، (يورثها ) يعطيها (من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) بالنصر والظفر.
{قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ۚ قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)}
قوله: (قالوا أوذينا) يعني قوم موسى من بني إسرائيل، بسبب طول ما مكثوا في عذاب فرعون، وأذيته قالوا: إنا أوذينا، (من قبل أن تأتينا ) بالرسالة بقتل الأبناء ، (ومن بعد ما جئتنا) بإعادة القتل علينا. (قال) موسى (عسى ربكم أن يهلك عدوكم) فرعون ، (ويستخلفكم في الأرض) أي : يمكنكم فيها ويجعل لكم التدبير ، (فينظر كيف تعملون ) هل تشكرون أم تكفرون؟.
{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130)}
قوله - عز وجل - : ( ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ) أي : بالجدب والقحط ، ( ونقص من الثمرات ) بالآفات والعاهات، ( لعلهم يذكرون ) أي: يتعظون وذلك لأن الشدة ترقق القلوب وترغبها فيما عند الله تعالى.
{فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَٰذِهِ ۖ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ ۗ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131)}
قوله:( فإذا جاءتهم الحسنة ) يعني : الخصب والسعة والعافية ، ( قالوا لنا هذه ) أي : نحن أهلها ومستحقوها على العادة التي جرت لنا في سعة أرزاقنا ولم يروها تفضلا من الله تعالى فيشكروه عليها ، (وإن تصبهم سيئة) جدب وبلاء ورأوا ما يكرهون، (يطيروا) يتشاءموا ، ( بموسى ومن معه ) وقالوا : ما أصابنا بلاء حتى رأيناهم ، فهذا من شؤم موسى وقومه .
( ألا إنما طائرهم عند الله ) أي : إنما جاءهم الشؤم بكفرهم بالله ، ( ولكن أكثرهم لا يعلمون ) أن الذي أصابهم من الله .
{وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)}
قوله: {وَقَالُوا}أي قال قوم فرعون لموسى .{مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ } متى ما ، وهي كلمة تستعمل للشرط والجزاء ، ( تأتنا به من آية ) من علامة ، ( لِّتَسْحَرَنَا بِهَا ) لتنقلنا عما نحن عليه من الدين ، ( فما نحن لك بمؤمنين ) بمصدقين؛ فقد تقرر عندنا أنك ساحر، فمهما جئت بآية، جزمنا أنها سحر، فلا نؤمن لك ولا نصدق.
{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُّجْرِمِينَ (133)}
قوله:{فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ} أي: الماء الكثير الذي أغرق أشجارهم وزروعهم، وأضر بهم ضررا كثيرا {وَالْجَرَادَ} فأكل ثمارهم وزروعهم، ونباتهم {وَالْقُمَّلَ}دواب سود صغار يفسد الثمار ويقضي على الحيوان والنبات {وَالضَّفَادِعَ} فملأت أوعيتهم، وأقلقتهم، وآذتهم أذية شديدة {وَالدَّمَ}انقلب ماؤهم الذي يشربون دمًا، فكانوا لا يشربون إلا دما، ولا يطبخون إلا بدم. {آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ }أي: أدلة وبينات على أنهم كانوا كاذبين ظالمين، وعلى أن ما جاء به موسى، حق وصدق {فَاسْتَكْبَرُوا} لما رأوا الآيات{ وَكَانُوا} في سابق أمرهم {قَوْمًا مُجْرِمِينَ }كانوا يعملون بما ينهى الله عنه من المعاصي والفسق عتوا وتمردا.
{وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ۖ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134)}
قوله: (ولما وقع عليهم الرجز) هو العذاب والسخط من الله عليهم . ( قالوا ) لموسى ( يا موسى ادع لنا ربك بما عهد عندك) أي : بما أوصاك . (لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ) لنتبعنَّ ما دعوت إليه، ولنطلقنَّ معك بني إسرائيل فلا نمنعهم أن يذهبوا حيث شاؤوا.
{فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135)}
قوله - عز وجل - : ( فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بالغوه ) يعني: إلى الغرق في اليم ( إذا هم ينكثون ) ينقضون العهد .
{فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136)}
قوله: ( فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم) يعني: البحر (بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين ) أي : عن النقمة قبل حلولها، وتلك الغفلة هي سبب التكذيب
{وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ۖ وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)}
قوله:(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون) يقهرون ويستذلون بذبح أبنائهم، واستعبادهم، وهم بنو إسرائيل (مشارق الأرض ومغاربها) يعني بلاد الشام (التي باركنا فيها بالماء والأشجار والثمار والخصب والسعة (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا ۖ) بسبب صبرهم على أذى فرعون وقومه، (ودمرنا) أهلكنا (ما كان يصنع فرعون وقومه) في أرض مصر من العمارات، (وما كانوا يعرشون) يبنون من البيوت والقصور.
{وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَىٰ قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَىٰ أَصْنَامٍ لَّهُمْ ۚ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَٰهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ۚ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138)}
قوله: {وجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ} بعد ما أنجاهم اللّه من عدوهم فرعون وقومه، وأهلكهم اللّه، وبنو إسرائيل ينظرون. {فَأَتَوْا} أي: مروا {عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} أي: يقيمون عندها ويتبركون بها، ويعبدونها، فـقَالُوا من جهلهم وسفههم لنبيهم موسى بعدما أراهم الله من الآيات ما أراهم يَا مُوسَى{اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أي: اشرع لنا أن نتخذ أصناما آلهة كما اتخذها هؤلاء، فـقَالَ لهم موسى:{إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} إنكم أيها القوم تجهلون عظمة الله، ولا تعلمون أن العبادة لا تنبغي إلا لله الواحد القهار فأي جهل أعظم من جهل من جهل ربه وخالقه وأراد أن يسوي به غيره، ممن لا يملك نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا؟
{إِنَّ هَٰؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)}
قوله: (إِنَّ هَٰؤُلَاءِ) أي: عبدة الأصنام ممن مررتم عليهم ، (مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ) مهلك، والتتبير الإهلاك ، ( وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ )؛ لأن دعاءهم إياها باطل، وهي باطلة بنفسها، فالعمل باطل وغايته باطلة.
{قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140)}
قوله:( قال ) يعني موسى (أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَٰهًا) أي : أبغي لكم وأطلب ، ( وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) أي : على عالمي زمانكم .
{وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۖ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)}
قوله: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} أي: اذكروا نعمة النجاة من فرعون وقومه، { يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} أي: يوجهون إليكم من العذاب أسوأه، وهو أنهم كانوا {يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ} النجاة من عذابهم {بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} أي: نعمة جليلة، ومنحة جزيلة، ، فلما ذكرهم موسى ووعظهم انتهوا عن ذلك.
وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ۚ وَقَالَ مُوسَىٰ لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)}
قوله: {وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ}هي ذو القعدة، والعَشْرُ عَشْرُ ذي الحجة، وواعد الله سبحانه وتعالى موسى لمناجاة ربه ثلاثين ليلة، ثم زاده في الأجل بعد ذلك عشر ليال، فتمَّ ما وَقَّتَه الله لموسى لتكليمه أربعين ليلة.
وحين أراد المضي لمناجاة ربه قال لهارون موصيا له على بني إسرائيل من حرصه عليهم وشفقته: {اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي} أي: كن خليفتي فيهم، واعمل فيهم بما كنت أعمل، {وَأَصْلِحْ} أي: اتبع طريق الصلاح ، وهذا تنبيه وتذكير ، وإلا فهارون ، عليه السلام ، نبي شريف كريم على الله ، له وجاهة وجلالة{وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} وهم الذين يعملون بالمعاصي.
{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)}
قوله - عز وجل -: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا ) أي : للوقت الذي ضربنا له أن نكلمه فيه.(وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) من أمره ونهيه، (قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ) أرني نفسك أنظر إليك ، فقد هاج به الشوق فسأل الرؤية. ( قال) الله تعالى (لن تراني) وليس لبشر أن يطيق النظر إلي في الدنيا، من نظر إلي في الدنيا مات ( ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني ) وهو جبل عظيم ، يقال له زبير (فلما تجلى ربه للجبل) ظهر نور ربه للجبل، (جعله دكا) مستويا بالأرض .(وخر موسى صعقا) مغشيا عليه . (فلما أفاق قال سبحانك تبت إليك) عن سؤال الرؤية (وأنا أول المؤمنين) بك من قومي .
{قَالَ يَا مُوسَىٰ إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144)}
قوله:{قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ} أي: اخترتك واجتبيتك وفضلتك وخصصتك بفضائل عظيمة، ومناقب جليلة، {بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي} بِرِسَالاتِي التي لا أجعلها، ولا أخص بها إلا أفضل الخلق. وَبِكَلامِي إياك من غير واسطة، وهذه فضيلة اختص بها موسى الكليم، وعرف بها من بين إخوانه من المرسلين، {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ} ما أعطيتك من أمري ونهيي بانشراح صدر، وتلقه بالقبول والانقياد، {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} لله على ما خصك وفضلك.
{وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا ۚ سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)}
قوله تعالى: (وكتبنا له) يعني لموسى ، ( في الألواح ) ألواح التوراة ( من كل شيء ) مما أمروا به ونهوا عنه ، (موعظة) نهيا عن الجهل ، وحقيقة الموعظة : التذكرة والتحذير بما يخاف عاقبته ، (وتفصيلا لكل شيء) أي : تبيينا لكل شيء من الأمر والنهي ، والحلال والحرام ، والحدود والأحكام . (فخذها بقوة) أي: بجد واجتهاد، (وأمر قومك يأخذوا بأحسنها) يحلوا حلالها ، ويحرموا حرامها ، ويتدبروا أمثالها ، ويعملوا بمحكمها، ويقفوا عند متشابهها وكان موسى عليه السلام أشد عبادة من قومه ، فأمر بما لم يؤمروا به .(سأريكم دار الفاسقين) يعني جهنم ، يحذركم أن تكونوا مثلهم .
{سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَّا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِن يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146)}
قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق) سأصرف عن قبول آياتي والتصديق بها الذين يتجبرون على عبادي ويحاربون أوليائي حتى لا يؤمنوا بي (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها) لإعراضهم ومحادتهم لله ورسوله (وإن يروا سبيل الرشد) طريق الهدى والسداد، (لا يتخذوه سبيلا) لأنفسهم (وإن يروا سبيل الغي) طريق الضلال،(يتخذوه سبيلا) طريق ودينا (ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا) بسبب تكذيبهم بآيات الله(وكانوا عنها غافلين) ساهين عن التفكير فيها والاتعاظ بها .
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ۚ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)}
قوله: ( والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة ) أي : ولقاء الدار الآخرة التي هي موعد الثواب والعقاب ، (حبطت أعمالهم) بطلت وصارت كأن لم تكن ، (هل يجزون) في العقبى ( إلا ما كانوا ) أي إلا جزاء ما كانوا (يعملون) في الدنيا .
{وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَىٰ مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ ۚ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا ۘ اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148)}
قوله: (واتخذ قوم موسى من بعده) أي: من بعدما فارقهم ماضيا لمناجاة ربه (من حليهم) التي استعاروها من قوم فرعون ، (عجلا جسدا) بلا روح (له خوار) له صوت يشبه صوت البقر (ألم يروا) ألم يعلم هؤلاء الذين عبدوا العجل (أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا) لا يكلمهم، ولا يرشدهم إلى خير. (اتخذوه وكانوا ظالمين) لأنفسهم، واضعين الشيء في غير موضعه.
{وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)}
قوله:(ولما سقط في أيديهم) أي ندموا على عبادة العجل، (ورأوا أنهم قد ضلوا) عن قصد السبيل، (قالوا لئن لم يرحمنا ربنا) بقبول توبتنا، (ويغفر لنا) يتجاوز عنا، (لنكونن من الخاسرين) من الهالكين الذين ذهبت أعمالهم.
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)}
قوله:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي: ممتلئا غضبا وغيظا عليهم، لتمام غيرته عليه الصلاة السلام، وكمال نصحه وشفقته، {قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي} قبح ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم .{أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} حيث وعدكم بإنـزال الكتاب، فبادرتم - برأيكم الفاسد - إلى هذه الخصلة القبيحة {وَأَلْقَى الألْوَاحَ} ألواح التوراة غضبا على قومه، {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ } أمسك برأس هارون {يَجُرُّهُ إِلَيْهِ} خوفا أن يكون قد قصر في نهيهم، {قَالَ ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} قَالَ هنا {ابْنَ أُمَّ} هذا ترقيق لأخيه، بذكر الأم وحدها، وإلا فهو شقيقه لأمه وأبيه:{ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي} أي: عدوني ضعيفا، {وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي} وقاربوا على قتلي، فلا تظن بي تقصيرا {فَلا تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاءَ} فلا تسر الأعداء بما تفعل بي {وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فتعاملني معاملتهم.
{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ ۖ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)}
قوله: (قال) موسى لما تبين له عذر أخيه ، (رب اغفر لي) ما صنعت إلى أخي، (ولأخي) إن كان منه تقصير في الإنكار على عبدة العجل، (وأدخلنا) جميعا (في رحمتك وأنت أرحم الراحمين) ، أرحم بنا من كل راحم.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)}
قوله تعالى: (إن الذين اتخذوا العجل) أي: اتخذوه إلها (سينالهم غضب من ربهم) في الآخرة ( وذلة في الحياة الدنيا) وهوان في الحياة الدنيا بسبب كفرهم (وكذلك نجزي المفترين ) المبتدعين في دين الله ، وكل صاحب بدعة ذليل.
{وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153)}
قوله: {وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ} من شرك وكبائر، وصغائر {ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا} بأن ندموا على ما مضى، {إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا} أي: بعد هذه الحالة، حالة التوبة من السيئات والرجوع إلى الطاعات، {لَغَفُورٌ} يغفر السيئات ويمحوها.{رَّحِيمٌ} بهم، وبكل من تاب إلى الله .
{وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ ۖ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)}
قوله: (ولما سكت عن موسى الغضب) أي: سكن، (أخذ الألواح) التي كان ألقاها (وفي نسختها ) وفيما كتب له فيها ، (هدى ورحمة) أي: هدى من الضلالة ورحمة من العذاب، ( للذين هم لربهم يرهبون) أي: للخائفين من ربهم.
{وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِّمِيقَاتِنَا ۖ فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ ۖ أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)}
قوله: (وَاخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا) مِن خيارهم، وخرج بهم إلى طور "سيناء" للوقت والأجل الذي واعده الله أن يلقاه فيه بهم للتوبة مما كان من سفهاء بني إسرائيل من عبادة العجل، فلما أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك -يا موسى- حتى نرى الله جهرة فإنك قد كلَّمته فأرِنَاهُ،(فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة، فقام موسى يتضرع إلى الله ويقول: ( رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ ۖ ) رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم، وقد أهلكتَ خيارهم ؟ لو شئت أهلكتهم جميعًا من قبل هذا الحال وأنا معهم، فإن ذلك أخف عليَّ، (أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا ۖ) بما فعله سفهاء الأحلام منا ؟ (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِي مَن تَشَاءُ) ما هذه الفعلة التي فعلها قومي من عبادتهم العجل إلا ابتلاءٌ واختبارٌ، تضلُّ بها مَن تشاء مِن خلقك، وتهدي بها من تشاء هدايته، (أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا ۖ وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ )أنت وليُّنا وناصرنا، فاغفر ذنوبنا، وارحمنا برحمتك، وأنت خير مَن صفح عن جُرْم، وستر عن ذنب.
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ۚ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ ۖ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ۚ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)}
قوله( واكتب لنا ) أوجب لنا ( في هذه الدنيا حسنة ) النعمة والعافية ، ( وفي الآخرة حسنة) أي المغفرة والجنة، (إنا هدنا إليك) أي: تبنا إليك ، (قال)أي: الله تعالى: (عذابي أصيب به من أشاء ) من خلقي، (ورحمتي وسعت كل شيء) عمت كل شيء، (فسأكتبها للذين يتقون) يجتنبون المعاصي صغارها وكبارها (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) ويؤدون الزكاة الواجبة لمستحقيها (وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) ومن تمام الإيمان بآيات اللّه معرفة معناها، والعمل بمقتضاها، ومن ذلك اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، في أصول الدين وفروعه.
{الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ ۙ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)}
قوله: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ) المقصود بهذا محمد بن عبد اللّه بن عبد المطلب صلى الله عليه وسلم. والسياق في أحوال بني إسرائيل وأن الإيمان بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم شرط في دخولهم في الإيمان، وأن المؤمنين به المتبعين، هم أهل الرحمة المطلقة، التي كتبها اللّه لهم، ووصفه بالأمي لأنه من العرب الأمة الأمية، التي لا تقرأ ولا تكتب، وليس عندها قبل القرآن كتاب. (الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) باسمه وصفته، التي من أعظمها وأجلها، ما يدعو إليه، وينهى عنه. وأنه (يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) وهو كل ما عرف حسنه وصلاحه ونفعه. (وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ) وهو: كل ما عرف قبحه في العقول والفطر، وأعظم دليل يدل على أنه رسول اللّه، ما دعا إليه وأمر به، ونهى عنه، وأحله وحرمه، فإنه (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ) من المطاعم والمشارب، والمناكح. (وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) من المطاعم والمشارب والمناكح، والأقوال والأفعال. (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ) كل ما يثقل على الإنسان من قول أو فعل .( وَالأغْلالَ) يعني : الأثقال: (الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) وذلك مثل: قتل الأنفس في التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة ، وقرض النجاسة عن الثوب بالمقراض، وتحريم أخذ الدية، وترك العمل في السبت، وأن صلاتهم لا تجوز إلا في الكنائس ، وغير ذلك من الشدائد ، والمعنى: ومن وصفه أن دينه سهل سمح ميسر، لا إصر فيه، ولا أغلال، ولا مشقات ولا تكاليف ثقال، ( فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ ) بمحمد صلى الله عليه وسلم (وَعَزَّرُوهُ) أي: عظموه وبجلوه (وَنَصَرُوهُ)على الأعداء (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنـزلَ مَعَهُ) وهو القرآن، الذي يستضاء به في ظلمات الشك والجهالات، (أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الظافرون بخير الدنيا والآخرة، والناجون من شرهما، لأنهم أتوا بأكبر أسباب الفلاح. وأما من لم يؤمن بهذا النبي الأمي، ويعزره، وينصره، ولم يتبع النور الذي أنـزل معه، فأولئك هم الخاسرون.
{قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)}
قوله تعالى: ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)عربيكم، وعجميكم، أهل الكتاب منكم، وغيرهم.( الذي له ملك السماوات والأرض) يتصرف فيهما بأحكامه وتدابيره( لا إله إلا هو ) لا معبود بحق، إلا اللّه وحده لا شريك له، ولا تعرف عبادته إلا من طريق رسله، (يُحْيِي وَيُمِيتُ) من جملة تدابيره: الإحياء والإماتة، التي لا يشاركه فيها أحد، (فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته ) أي: آياته وهي القرآن (وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) في مصالحكم الدينية والدنيوية، فإنكم إذا لم تتبعوه ضللتم ضلالا بعيدا.
{وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)}
قوله - عز وجل - : ( ومن قوم موسى ) يعني : بني إسرائيل ( أمة ) أي : جماعة ، ( يهدون بالحق ) أي: يرشدون ويدعون إلى الحق ، (وبه يعدلون) أي: بالحق يحكمون وبالعدل يقومون، وكأن الإتيان بهذه الآية الكريمة فيه نوع احتراز مما تقدم، فإنه تعالى ذكر فيما تقدم جملة من معايب بني إسرائيل، المنافية للكمال المناقضة للهداية، فربما توهم متوهم أن هذا يعم جميعهم، فذكر تعالى أن منهم طائفة مستقيمة هادية مهدية.
{وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ ۖ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا ۖ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ ۚ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ ۖ كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ۚ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160)}
قوله: (وقطعناهم) أي: قسمناهم ، يعني بني إسرائيل، (اثنتي عشرة أسباطا أمما) أي: اثنتي عشرة قبيلة متعارفة متوالفة، كل بني رجل من أولاد يعقوب قبيلة.(وأوحينا إلى موسى إذ استسقاه قومه ) في التيه ، (أن اضرب بعصاك الحجر فانبجست) انفجرت ، (منه اثنتا عشرة عينا ) لكل سبط عين (قد علم كل أناس) كل سبط ، (مشربهم) وكل سبط بنو أب واحد. (وظللنا عليهم الغمام ) في التيه تقيهم حر الشمس، (وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ) وهو الحلوى، (وَالسَّلْوَى) وهو لحم طير من أنواع الطيور وألذها، فجمع اللّه لهم بين الظلال، والشراب، والطعام الطيب، من الحلوى واللحوم، على وجه الراحة والطمأنينة. وقيل لهم:(كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا) أي: ما ضروا الله شيئا حين لم يشكروا اللّه، ولم يقوموا بما أوجب اللّه عليهم. (وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) حيث عرضوها للشر والنقمة، وهذا كان مدة لبثهم في التيه.
{وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَٰذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ ۚ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161)}
قوله:(وإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ) أي: ادخلوها لتكون وطنا لكم ومسكنا، وهي (إيلياء)الواقعة بين " مدين " و "الطور" على شاطئ البحر الأحمر، (وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ) وكانت كثيرة الأشجار، غزيرة الثمار، رغيدة العيش، فلذلك أمرهم اللّه أن يأكلوا منها حيث شاءوا. (وَقُولُوا) حين تدخلون الباب: (حِطَّةٌ) أي: احطط عنا خطايانا، واعف عنا. (وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا) أي: خاضعين لربكم مستكينين لعزته، شاكرين لنعمته، (نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنـزيدُ الْمُحْسِنِينَ ) من خير الدنيا والآخرة.
{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)}
قوله:{فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي: عصوا اللّه واستهانوا بأمره (قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ) فقالوا بدل طلب المغفرة، وقولهم: حِطَّة (حبة في شعيرة)، وإذا بدلوا القول - مع يسره وسهولته - فتبديلهم للفعل من باب أولى، ولهذا دخلوا وهم يزحفون على أستاههم. (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ) حين خالفوا أمر اللّه وعصوه (رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ) أي: عذابا شديدا، إما الطاعون وإما غيره من العقوبات السماوية. وما ظلمهم اللّه بعقابه وإنما كان ذلك بـ (مَا كَانُوا يَظْلِمُونَ) أي: يخرجون من طاعة الله إلى معصيته، من غير ضرورة ألجأتهم ولا داع دعاهم سوى الخبث والشر الذي كان كامنا في نفوسهم.
{وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ ۙ لَا تَأْتِيهِمْ ۚ كَذَٰلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)}
قوله تعالى : (واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر) أي : سل يا محمد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ وتقريع عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي : بقربه . قال ابن عباس : هي قرية يقال لها " إيلة " بين " مدين " و "الطور" على شاطئ البحر. ( إذ يعدون في السبت ) أي : يظلمون فيه ويجاوزون أمر الله تعالى بصيد السمك ، (إذ تأتيهم حيتانهم يوم سبتهم شرعا) أي : ظاهرة على الماء كثيرة ، متتابعة .
وفي القصة : أنها كانت تأتيهم يوم السبت مثل الكباش السمان البيض .(ويوم لا يسبتون لا تأتيهم ) كإتيانهم يوم السبت، (كذلك نبلوهم) نختبرهم، (بما كانوا يفسقون) ففسقهم هو الذي أوجب أن يبتليهم اللّه، وأن تكون لهم هذه المحنة، وإلا فلو لم يفسقوا، لعافاهم اللّه، ولما عرضهم للبلاء والشر.
{وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا ۙ اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164)}
قوله تعالى : (وإذ قالت أمة منهم) انقسم بنو إسرائيل إلى ثلاث فرق حينما نهاهم الله عن الصيد يوم السبت: فرقة عصت أمر الله وتحايلت عليه ووقعت في المعصية، والثانية أنكرت المعصية وقاموا بدورهم في الأمر بالمعروف والنهي عن الانكر، وفرقة ثالثة رأت المعصية وسكتت عنها فلم يأمروا بمعروف ولم ينكروا منكرا، وهذه هي الفرقة التي قالت لمن نهى عن المنكر:(لم تعظون قوما الله مهلكهم أومعذبهم عذابا شديدا ) ما دام أن الله معذبهم أو مهلكهم فلا داعي لوعظهم، (قالوا) أي: الناهون (معذرة إلى ربكم) أي نفعل ذلك معذرة إلى ربكم، ومعناه أن الأمر بالمعروف واجب علينا فعلينا موعظة هؤلاء عذرا إلى الله، وليكون حجة عليهم أمام الله (ولعلهم يتقون) أي : يتقون الله ويتركوا المعصية ، وهذه هي الغاية من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
{فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165)}
قوله:(فلما نسوا ما ذكروا به) أي: تركوا ما وعظوا به ، (أنجينا الذين ينهون عن السوء) نجت الطائفتان الذين قالوا: لم تعظون قوما، والذين قالوا: معذرة إلى ربكم، وأهلك الله الذين أخذوا الحيتان، (وأخذنا الذين ظلموا) يعني الفرقة العاصية، (بعذاب بئيس) أي : شديد موجع ، من البأس وهو الشدة، (بما كانوا يفسقون ) بسبب مخالفتهم أمر الله .
{فَلَمَّا عَتَوْا عَن مَّا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)}
قوله: (فلما عتوا عن ما نهوا عنه) أبوا أن يرجعوا عن المعصية (قلنا لهم كونوا قردة خاسئين) ذليلين، مهانين .
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ۗ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ ۖ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167)}
قوله:(وإذ تأذن ربك) أي: أمر ربك، وحكم ، ( ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة ) أي : على اليهود ، (من يسومهم سوء العذاب) بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم.(إن ربك لسريع العقاب) لمن عصاه وخالف أمره وشرعه ، (وإنه لغفور) عن ذنوب التائبينن (رحيم) بهم، وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة؛ لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف.
{وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا ۖ مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَٰلِكَ ۖ وَبَلَوْنَاهُم بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168)}
قوله: ( وقطعناهم ) وفرقناهم ( في الأرض أمما ) فرقا فرقهم الله فتشتت أمرهم ولم تجتمع لهم كلمة ، (منهم الصالحون) القائمون بحقوق اللّه، وحقوق عباده، (وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ) أي: دون الصلاح، إما مقتصدون، وإما ظالمون لأنفسهم، (وبلوناهم بالحسنات) بالخصب والعافية، ( والسيئات) الجدب والشدة ، (لعلهم يرجعون) لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا .
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَٰذَا الْأَدْنَىٰ وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ۚ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لَّا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ۗ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169)}
قوله: (فخلف من بعدهم) أي: جاء من هؤلاء الذين وصفناهم (خلف) والخلف: القرن الذي يجيء بعد قرن، (ورثوا الكتاب) أي: انتقل إليهم الكتاب من آبائهم وهو التوراة، (يأخذون عرض هذا الأدنى) فالعرض متاع الدنيا ، والعرض ، بسكون الراء ، ما كان من الأموال سوى الدراهم والدنانير . وأراد بالأدنى العالم ، وهو هذه الدار الفانية ، فهو تذكير الدنيا ، وهؤلاء اليهود ورثوا التوراة فقرؤوها وضيعوا العمل بما فيها ، وخالفوا حكمها ، يرتشون في حكم الله وتبديل كلماته ، (ويقولون سيغفر لنا) ذنوبنا يتمنون على الله الأباطيل، (وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ) هذا إخبار عن حرصهم على الدنيا وإصرارهم على الذنوب ، يقول إذا أشرف لهم شيء من الدنيا أخذوه حلالا كان أو حراما ، ويتمنون على الله المغفرة وإن وجدوا من الغد مثله أخذوه .( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق) أي: أخذ عليهم العهد في التوراة أن لا يقولوا على الله الباطل ، وهي تمني المغفرة مع الإصرارعلى الذنوب، وليس في التوراة ميعاد المغفرة مع الإصرار ، (ودرسوا ما فيه) قرأوا ما فيه ، فهم ذاكرون لذلك ، ولو عقلوه لعملوا للدار الآخرة، (والدار الآخرة خير للذين يتقون) يتقون الله فيمتثلون أوامره، ويجتنبون نواهيه (أفلا تعقلون) أفلا يعقل هؤلاء الذين يأخذون دنيء المكاسب ، أن ما عند الله خير وأبقى للمتقين.
{وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)}
قوله: (والذين يمسكون بالكتاب) ، تمسكوا بالكتاب الذي جاء به موسى فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مأكلة. (وأقاموا الصلاة ) ظاهرا وباطنا، ولهذا خصها الله بالذكر لفضلها، وشرفها، وكونها ميزان الإيمان، وإقامتها داعية لإقامة غيرها من العبادات. ولما كان عملهم كله إصلاحا، قال تعالى: (إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) في أقوالهم وأعمالهم ونياتهم، مصلحين لأنفسهم ولغيرهم.
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)}
قوله تعالى: (وإذ نتقنا الجبل فوقهم) أي: رفعناه (كأنه ظلة) الظلة: كل ما أظلك، (وظنوا أنه واقع بهم) وأيقنوا (خذوا ما آتيناكم بقوة) بجد واجتهاد، (واذكروا ما فيه) ما في كتابنا من العهود والمواثيق التي أخذناها عليكم فاعملوا بها، (لعلكم تتقون) كي تتقون ربكم فتنجوا من عقابه .
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ ۖ قَالُوا بَلَىٰ ۛ شَهِدْنَا ۛ أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ (172)}
قوله تعالى:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ )أي: أخرج من أصلابهم ذريتهم، وجعلهم يتناسلون ويتوالدون قرنا بعد قرن. وحين أخرجهم من بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم (وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) أي: قررهم بإثبات ربوبيته، بما أودعه في فطرهم من الإقرار، بأنه ربهم وخالقهم ومليكهم. (قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) قد أقررنا بذلك، فإن اللّه تعالى فطر عباده على الدين الحنيف القيم. فكل أحد فهو مفطور على ذلك، ولكن الفطرة قد تغير وتبدل بما يطرأ عليها من العقائد الفاسدة، (أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ) أي: إنما أشهدناكم على أنفسكم حتى لا يكون لكم عند الله حجة فتقولون لم نكن نعلم وكنا لا هين عن ذلك ، فاليوم قد انقطعت حجتكم، وثبتت الحجة البالغة للّه عليكم.
{أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ ۖ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173)}
قوله تعالى: (أو تقولوا) المعنى: إنما أُخِذ الميثاق عليكم لئلا تحتجوا أيضا بحجة أخرى، فتقولون: (إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ) فحذَوْنا حذوهم، وتبعناهم في باطلهم، ثم تقولون :
(أفتهلكنا بما فعل المبطلون ) أفتعذبنا بجناية آبائنا الذين أبطلوا أعمالهم، بجعلهم مع الله شريكا في العبادة ؟!، فلا يمكنهم أن يحتجوا بمثل هذا الكلام بعد تذكير الله تعالى بأخذ الميثاق على التوحيد.
{وَكَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)}
قوله:(وكذلك نفصل الآيات) أي: نبين الآيات ليتدبرها العباد، (ولعلهم يرجعون) من الكفرإلى التوحيد .
{وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175)}
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا) أي:واقصص أيها الرسول على أمتك حبر رجل من بني إسرائيل علمناه كتاب اللّه، فصار الحبر الكبير. (فَانْسَلَخَ مِنْهَا) أي: انسلخ من الاتصاف الحقيقي بالعلم بآيات اللّه، فإن العلم بذلك، يصير صاحبه متصفا بمكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويرقى إلى أعلى الدرجات وأرفع المقامات، فترك هذا كتاب اللّه وراء ظهره، ونبذ الأخلاق التي يأمر بها الكتاب، وخلعها كما يخلع اللباس. (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ) فلما انسلخ منها أتبعه الشيطان، أي: تسلط عليه حين خرج من الحصن الحصين، وصار إلى أسفل سافلين، فأزَّه إلى المعاصي أزَّا. فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ بعد أن كان من الراشدين المرشدين.
{وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ۚ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ۚ ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}
قوله:(ولو شئنا لرفعناه بها) أي: ولو أردنا أن نرفع قدره بما آتيناه من آيات وأن نوفقه للعمل بها لفعلنا. (ولكنه أخلد إلى الأرض ) أي : سكن إلى الدنيا ومال إليها، ( واتبع هواه ) انقاد لما دعاه إليه الهوى ، أراد الدنيا وأطاع شيطانه، ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ) يقال : لهث الكلب يلهث لهثا : إذا أدلع لسانه ، والمعنى : إن هذا الكافر إن زجرته لم ينزجر ، وإن تركته لم يهتد ، فالحالتان عنده سواء ، كحالتي الكلب : إن طرد وحمل عليه بالطرد كان لاهثا ، وإن ترك وربض كان لاهثا ، فضربه الله مثلا لمن كذَّب بآياته فقال : إن وعظته فهو ضال وإن تركته فهو ضال كالكلب إن طردته لهث ، وإن تركته على حاله لهث ، ثم عم بهذا التمثيل جميع من يكذب بآيات الله فقال: (ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا) هؤلاء المعاندون مثل الكلب الذي يلهث في كل حالاته، فهم مكذبون، مهما ظهرت الآيات لا يهتدون (فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) : في ضرب الأمثال، وفي العبر والآيات، فإذا تفكروا علموا، وإذا علموا عملوا.
{سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)}
قوله: (ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا ) أي: قبح مثلا القومُ الذين كذبوا بحجج الله، وأدلته، (وأنفسهم كانوا يظلمون) أي : ما ظلمهم الله ، ولكن هم ظلموا أنفسهم ، بإعراضهم عن اتباع الهدى ، وطاعة المولى ، إلى الركون إلى دار البلى ، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى .
{مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي ۖ وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)}
قوله تعالى مبينا أنه المنفرد بالهداية والإضلال:( مَنْ يَهْدِ اللَّهُ) بأن يوفقه للخيرات، ويعصمه من المكروهات، ويعلمه ما لم يكن يعلم (فَهُوَ الْمُهْتَدِي) فهو الموفق حقا؛ لأن الله تعالى آثر هدايته، (وَمَنْ يُضْلِلِ) فيخذله ولا يوفقه للخير (فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) لأنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ۖ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا ۚ أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)}
قوله:( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس ) أخبر الله تعالى أنه خلق كثيرا من الجن والإنس للنار ، وهم الذين حقت عليهم الكلمة الأزلية بالشقاوة ، ومن خلقه الله لجهنم فلا حيلة له في الخلاص منها .ثم وصفهم فقال : ( لهم قلوب لا يفقهون بها ) أي لا يعلمون بها الخير والهدى . ( ولهم أعين لا يبصرون بها ) طريق الحق وسبيل الرشاد ، ( ولهم آذان لا يسمعون بها ) مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون بها ، ثم ضرب لهم مثلا في الجهل والاقتصار على الأكل والشرب ، فقال : ( أولئك كالأنعام بل هم أضل ) أي : كالأنعام في أن همتهم في الأكل والشرب والتمتع بالشهوات ، بل هم أضل لأن الأنعام تميز بين المضار والمنافع ، فلا تقدم على المضار ، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة ، مع العلم بالهلاك ، (أولئك هم الغافلون)الذين غفلوا عن أنفع الأشياء، غفلوا عن الإيمان باللّه وطاعته وذكره.
{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)}
قوله:(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ فَادْعُوهُ بِهَا ۖ) الدالة على كمال عظمته، وكل أسمائه حسنى، فاطلبوا منه بأسمائه ما تريدون، (وَذَرُوا) واتركوا (الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ ۚ ) يغيرون في أسمائه بالزيادة والنقصان أو التحريف كأن يسمي بها من لا يستحقها كتسمية المشركين بها آلهتهم، فسموا بها أوثانهم فزادوا ونقصوا، فاشتقوا اللات من " الله " والعزى من " العزيز " ، ومناة من " المنان " ( سيجزون ما كانوا يعملون ) في الآخرة .
{وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)}
قوله: (وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ )أي: ومن جملة من خلقنا أمة فاضلة كاملة في نفسها، مكملة لغيرها، (يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ) يهدون أنفسهم وغيرهم بالحق، فيعلمون الحق ويعملون به، ويعلِّمونه، ويدعون إليه وإلى العمل به. (وَبِهِ يَعْدِلُونَ) بين الناس في أحكامهم إذا حكموا في الأموال والدماء والحقوق والمقالات، وغير ذلك، وهؤلاء هم أئمة الهدى، ومصابيح الدجى.
{وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182)}
قوله: (والذين كذبوا بآياتنا) أي: والذين كذبوا بآيات اللّه الدالة على صحة ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، من الهدى فردوها ولم يقبلوها.(سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) سنفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا استدراجا لهم ؛ حتى يغتروا بما هم فيه ، ويعتقدوا أنهم على شيء ثم نعاقبهم على غرة من حيث لا يعلمون .
{وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)}
قوله: (وأملي لهم) أي: أمهلهم؛ ليتمادوا في المعاصي، ( إن كيدي متين ) أي : إن أخذي قوي شديد.
{أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ۚ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184)}
قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ۗ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ ۚ ) أَوَ لَمْ يُعْمِلُوا أفكارهم، وينظروا: هل في صاحبهم الذي يعرفونه ولا يخفى عليهم من حاله شيء، هل هو مجنون؟ فلينظروا في أخلاقه وهديه، وصفاته، وينظروا في ما دعا إليه، فلا يجدون فيه من الصفات إلا أكملها، ولا من الأخلاق إلا أتمها، ولا من العقل والرأي إلا ما فاق به العالمين (إِنْ هُوَ) ما هو، (إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ) يدعو الخلق إلى ما ينجيهم من العذاب، ويحصل لهم الثواب.
{أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)}
قوله:( أولم ينظروا) أولم يتأمل هؤلاء المكذبون بآياتنا ( فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ ) في ملك الله وسلطانه في السماوات والأرض ، وينظروا إلى ما خلق الله من شيء ليستدلوا بها على وحدانيته، (وَأَنْ عَسَىٰ أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ ۖ ) أي : لعل أجلهم قد اقترب قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى العذاب، ( فبأي حديث بعده يؤمنون ) أي : بعد القرآن يؤمنون . يقول : بأي كتاب غير ما جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - يصدقون ، وليس بعده نبي ولا كتاب .
{مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ۚ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)}
قوله: (مَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ۚ )من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ، (وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ) ويتركهم في كفرهم، ( يَعْمَهُونَ) أي: متحيرين يترددون، لا يخرجون منه ولا يهتدون إلى حق.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي ۖ لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ۚ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ۗ يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ۖ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللَّهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)}
قوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) يسألك كفار مكة عن يوم القيامة، (أيان مرساها ) متى قيامها . (قل) يا محمد (إنما علمها عند ربي) استأثر بعلمها ولا يعلمها إلا هو، (لا يجليها لوقتها إلا هو) لا يكشفها ولا يظهرها إلا الله سبحانه وتعالى، (ثقلت في السماوات والأرض) يعني: إذا جاءت عظمت على أهل السماوات والأرض، (لا تأتيكم إلا بغتة) فجأة على غفلة، (يسألونك كأنك حفي عنها ) أي: عالم بها ، (قل إنما علمها عند الله ولكن أكثر الناس لا يعلمون) أن ذلك لا يعلمه إلا الله، لا ملكٌ مقربٌ ولا رسولٌ مرسلٌ.
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ۖ فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ ۖ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189)}
قوله تعالى: (هو الذي خلقكم من نفس واحدة ) يعني : آدم ، ( وجعل ) وخلق ( منها زوجها ) يعني : حواء ، ( ليسكن إليها ) ليأنس بها ويأوي إليها ( فلما تغشاها ) أي: واقعها ( حملت حملا خفيفا ) وهو أول ما تحمل المرأة من النطفة يكون خفيفا عليها ، (فمرت به) أي : استمرت به وقامت وقعدت به، لم يثقلها ، (فلما أثقلت) أي: كبر الولد في بطنها وصارت ذات ثقل بحملها ودنت ولادتها ، (دعوا الله ربهما) يعني آدم وحواء ، (لئن آتيتنا) يا ربنا ( صالحا ) أي : بشرا سويا مثلنا ، (لنكونن من الشاكرين) لك على ما وهبتنا من الولد الصالح.
{فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ۚ فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)}
قوله: (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا) على وفق ما طلبا، وتمت عليهما النعمة فيه (جَعَلا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا) أي: جعلا للّه شركاء في ذلك الولد الذي انفرد اللّه بإيجاده والنعمة به، وأقرَّ به أعين والديه، فَعَبَّدَاه لغير اللّه. وهذا انتقال من النوع إلى الجنس، فإن أول الكلام في آدم وحواء، ثم انتقل إلى الكلام في الذرية، ولا شك أن هذا موجود في الذرية كثيرا، فلذلك قررهم اللّه على بطلان الشرك، وأنهم في ذلك ظالمون أشد الظلم،(فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) تنزه عن كل شرك.
{أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191)}
قوله تعالى: (أيشركون) هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد ، ( ما لا يخلق شيئا) يعني: الأصنام والأوثان ، (وهم يخلقون) أي: هم مخلوقون.
{وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192)}
قوله:( ولا يستطيعون لهم نصرا ) أي: الأصنام لا تنصر من أطاعها ، (ولا أنفسهم ينصرون ) لا يدفعون عن أنفسهم مكروهَ مَنْ أراد بهم بكسر أو نحوه.
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ ۚ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193)}
قوله: (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَتَّبِعُوكُمْ ۚ ) إن تدعوا أيها المشركون هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لا تسمع دعاءكم، (سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون) يستوي دعاؤكم لها ، وسكوتكم عنها؛ لأنها لا تسمع ولا تبصر.
{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ۖ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194)}
قوله: (إن الذين تدعون من دون الله) يعني الأصنام، (عباد أمثالكم ) مملكون لله مثلكم .( فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ) فإن استجابوا لكم ، وحصلوا مطلوبكم وإلا تبين أنكم كاذبون مفترون على الله أعظم الفرية.
{أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۗ قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ (195)}
قوله:(أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا ۖ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) هذه المعبودات التي تعبد من دون الله مخلوقات أمثالكم بل الأناسي أكمل منها ، لأنها لا تسمع ولا تبصر ولا تبطش، أي أنتم أفضل منهم فكيف تعبدونهم ، (قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ ) أي: استنصروا بها علي، فلا تؤخروني طرفة عين ، واجهدوا جهدكم !
{إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ۖ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196)}
قوله: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب) يعني القرآن ، أي أنه يتولاني وينصرني كما أيدني بإنزال الكتاب ، (وهو يتولى الصالحين) الذين لا يعدلون بالله شيئا فالله يتولاهم بنصره فلا يضرهم عداوة من عاداهم.
{وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (197)}
(وَالَّذِينَ تَدْعُونَ ) أيها المشركون ، (مِن دُونِهِ)، من دون الله من الآلهة،(لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ)، لعجزهم ، فأي هذين أولى بالعبادة وأحق بالألوهة ؟ أمن ينصر وليه ويمنع نفسه ممن أراده، أم من لا يستطيع نصر وليه ويعجز عن منع نفسه ممن أراده وبَغاه بمكروه؟
{وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)}
قوله: (وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىٰ لَا يَسْمَعُوا ۖ) الخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ، والحديث عن المشركين، والمعنى: وإن تدعو يا محمد هؤلاء المشركين إلى الحق والاستقامة، لما استجابوا لدعائك. (وَتَرَاهُمْ) يا محمد (يَنظُرُونَ إِلَيْكَ) بأعينهم، (وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) بقلوبهم.
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)}
قوله تعالى: (خذ العفو) يعني: المساهلة وترك البحث عن الأشياء ونحو ذلك ، (وأمر بالعرف ) أي: بكل قول حسن وفعل جميل، وخلق كامل للقريب والبعيد، . (وأعرض عن الجاهلين ) : أي: عدم مقابلته بجهله، فمن آذاك بقوله أو فعله لا تؤذه، ومن حرمك لا تحرمه، ومن قطعك فَصِلْهُ، ومن ظلمك فاعدل فيه.
{وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ ۚ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)}
قوله : ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ) وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهلين ويحملك على مجازاتهم ( فاستعذ بالله ) فاستجر بالله من نزغه ( إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) إن الله الذي تستعيذ به من نزغ الشيطان سميع لجهل الجاهل عليك، والاستعاذة به من نزغه ، لا يخفى عليه منه شيء ، عليم بما يذهب عنك نزغ الشيطان ، وغير ذلك من أمور خلقه.
{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201)}
قوله: (إن الذين اتقوا) يعني المؤمنين ، (إذا مسهم طائف من الشيطان) الطائف ما طاف بالإنسان من وسوسة الشيطان ، (تذكروا) ذكروا الله تعالى. (فإذا هم مبصرون ) أي يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتفكر .
{وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)}
قوله : (وإخوانهم يمدونهم) يعني إخوان الشياطين من المشركين (يمدونهم) ، يزيدونهم . (في الغي) في الجهل والسفه، ويساعدونهم في فعل الشر (ثم لا يقصرون ) لا تقصر الشياطين عن إضلالهم ، ولا يقصرون هم عن فعل الشر.
{وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا ۚ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ مِن رَّبِّي ۚ هَٰذَا بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)}
قوله: (وإذا لم تأتهم بآية) يعني: إذا لم تأت المشركين بآية، (قالوا لولا اجتبيتها) هلا افتعلتها وأنشأتها من قبل نفسك واختيارك؟ فقد كان أهل مكة يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات تعنتا فإذا تأخرت اتهموه وقالوا : لولا اجتبيتها؟ أي : هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك؟ (قل) لهم يا محمد ( إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي ) ثم قال: (هذا) يعني: القرآن (بصائرمن ربكم) حجج وبيان وبرهان، واحدتها بصيرة ، وأصلها ظهور الشيء واستحكامه حتى يبصره الإنسان ، فيهتدي به ، يقول: هذه دلائل تقودكم إلى الحق . (وهدى ) هداية ورشد، (ورحمة لقوم يؤمنون) يرحم الله بها عباده المؤمنين.
{وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)}
قوله:(وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ) الاستماع له: أن يلقي سمعه، ويحضر قلبه ويتدبر ما يستمع، (وَأَنصِتُو) بترك التحدث أو الاشتغال بما يشغل عن استماعه، فإن من لازم على هذين الأمرين حين يتلى كتاب اللّه، فإنه ينال خيرا كثيرا وعلما غزيرا، وإيمانا مستمرا متجددا، وهدى متزايدا، وبصيرة في دينه،(لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) رجاء أن يرحمكم الله به.
{وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205)}
قوله تعالى : ( واذكر ربك في نفسك ) يعني بالذكر سرا ، ( تضرعا) متضرعا بلسانك ( وخيفة ) خوفا من الله، (ودون الجهر من القول) أراد في صلاة الجهر لا تجهر جهرا شديدا ، بل في خفض وسكون ، يسمع من خلفك ، أمر أن يذكروه في الصدور بالتضرع إليه في الدعاء والاستكانة دون رفع الصوت والصياح بالدعاء (بالغدو) بأول النهار (والآصال) آخره، وهو ما بين العصر والمغرب (ولا تكن من الغافلين ) عن الذكر.
{إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ۩ (206)}
قوله:(إن الذين عند ربك) يعني: الملائكة المقربين بالفضل والكرامة، (لا يستكبرون عن عبادته ) لا يتكبرون، (ويسبحونه وله يسجدون) وينزهونه وله يسجدون .
تم تفسير سورة الأعراف ، ولله الحمد والمنة.

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
 الدرس 328سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
 الدرس 327سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
 الدرس 326سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
 الدرس 325سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
 الدرس 324سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر
 الدرس 323سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني -- تهذيب الشيخ د. مبارك بن ناصر العسكر