تفسير سورة الأنفال

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 13 صفر 1447هـ | عدد الزيارات: 442 القسم: المفيد في تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة الأنفال هي السورة الثامنة في ترتيب المصحف، وهي مدنية (نزلت في المدينة المنورة) ما عدا الآيات من (30 إلى 36) فقد نزلت في مكة، تعتبر من السور الطوال في القرآن الكريم، وعدد آياتها (75) آية. تسمى أيضاً بسورة بدر لأنها تتناول أحداث غزوة بدر. كما سميت بهذا الاسم لذكر الأنفال (الغنائم) فيها.

{بسم الله الرحمن الرحيم}

{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنفَالِ ۖ قُلِ الْأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ ۖ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1)}

قوله: (يسألونك عن الأنفال) أي: عن حكم الأنفال وعلمها، وهو سؤال استخبار لا سؤال طلب ، والأنفال: الغنائم، واحدها: نفل، وأصله الزيادة، سميت الغنائم أنفالا؛ لأنها زيادة من الله تعالى لهذه الأمة على الخصوص.
وأكثر المفسرين على أن الآية في غنائم بدر.(قل الأنفال لله والرسول ) يقسمها كما شاء،( فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم) أي: اتقوا الله بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة والمخالفة ، وتسليم أمر الغنيمة إلى الله والرسول، صلى الله عليه وسلم، (وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين) فإن الإيمان يدعو إلى طاعة اللّه ورسوله، كما أن من لم يطع اللّه ورسوله فليس بمؤمن.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)}

قوله: (إنما المؤمنون) أي: ليس المؤمن الذي يخالف الله ورسوله ، إنما المؤمنون الصادقون في إيمانهم، (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) خافت (وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا) تصديقا ويقينا. (وعلى ربهم يتوكلون) أي: يفوضون إليه أمورهم ويثقون به ولا يرجون غيره ولا يرهبون سواه .

{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)}

قوله{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} من فرائض ونوافل، بأعمالها الظاهرة والباطنة، كحضور القلب فيها، الذي هو روح الصلاة ولبها،. {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} النفقات الواجبة، كالزكوات، والكفارات، والنفقة على الزوجات والأقارب، وما ملكت أيمانهم، والمستحبة كالصدقة في جميع طرق الخير.

{أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}

قوله: (أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ) يعني يقينا فلا شك في إيمانهم .(لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ) يعني درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم . (وَمَغْفِرَةٌ) لذنوبهم ( وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ) حسن، يعني ما أعد لهم في الجنة .

{كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5)}

قوله تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ) كما أنكم لما اختلفتم في المغانم فانتزعها الله منكم، وجعله إلى قسمه وقسم رسوله، صلى الله عليه وسلم، كذلك أمرك ربك بالخروج من المدينة للقاء عير قريش ، وذلك بالوحي الذي أتاك به جبريل (وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ)مع كراهة فريق من المؤمنين للخروج .

{يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6)}

قوله: (يجادلونك في الحق) أي : في القتال، (بعد ما تبين) وذلك أن المؤمنين لما أيقنوا بالقتال كرهوا ذلك ، وقالوا : لم تعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم ، وإنما خرجنا للعير ، فذلك جدالهم بعد ما تبين لهم أنك لا تصنع إلا ما أمرك ، وتبين صدقك في الوعد، (كأنما يساقون إلى الموت) لشدة كراهيتهم القتال، (وهم ينظرون) إليه عيانا.

{وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7)}

قوله تعالى: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم). أي: العير، وما تحمله من الأرزاق أو النفير، وهو قتال الأعداء والانتصار عليهم (وتودون) تريدون (أن غير ذات الشوكة تكون لكم ) يعني العير التي ليس فيها قتال. والشوكة: الشدة والقوة. يريد الله أن يحق الحق) أي يظهره ويعليه ، (بكلماته) بأمره إياكم بالقتال. (ويقطع دابر الكافرين) يستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد.

{لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)}

قوله:(ليحق الحق) ليثبت الإسلام، (ويبطل الباطل) أي: يفني الكفر (ولو كره المجرمون ) المشركون . وكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة ليلة من شهر رمضان .
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9)}
قوله تعالى: (إذ تستغيثون ربكم) تستجيرون به من عدوكم وتطلبون منه الغوث والنصر.( فاستجاب لكم أني ممدكم ) مرسل إليكم مددا وردءا لكم ، (بألف من الملائكة مردفين) أي : متتابعين بعضهم في إثر بعض ، يقال : أردفته وردفته بمعنى تبعته .
{وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَىٰ وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ ۚ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)}
قوله: (وما جعله الله) يعني: الإمداد بالملائكة ، (إلا بشرى) أي: بشارة لكم بالنصر،(ولتطمئن به قلوبكم ) تسكن إليه (وما النصر إلا من عند الله ) بيد اللّه، ليس بكثرة عَدَدٍ ولا عُدَدٍ (إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ) لا يغالبه مغالب، بل هو القهار، الذي يخذل من بلغوا من الكثرة وقوة العدد والآلات ما بلغوا. (حَكِيمٌ) حيث قدر الأمور بأسبابها، ووضع الأشياء مواضعها.
{إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11)}
قوله: (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ) أنـزل عليكم نعاسا يُغَشِّيكُمُ فيذهب ما في قلوبكم من الخوف والوجل، والنعاس: النوم الخفيف . ( أَمَنَةً مِّنْهُ) أمنا واطمئنانا مصدر أمنت أمنا وأمنة وأمانا . قال عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه : النعاس في القتال أمنة من الله وفي الصلاة وسوسة من الشيطان . (وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً) قال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس، فأطفأ به الغبار،وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم ، وثبتت به أقدامهم (لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ) من الأحداث والجنابة؛(ويذهب عنكم رجز الشيطان) وسوسته، (وليربط على قلوبكم) باليقين والصبر (ويثبت به الأقدام ) حتى لا تسوخ في الرمل بتلبيد الأرض .
{إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا ۚ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)}
قوله (إذ يوحي ربك إلى الملائكة ) الذين أمدَّ الله بهم المسلمين في غزوة بدر( أني معكم ) بالعون والنصر، (فثبتوا الذين آمنوا) أي : ثبتوهم بقتالكم معهم المشركين، وبشروهم بالنصر، وكان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول : أبشروا فإن الله ناصركم. (سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب) الخوف من أوليائي ، ( فاضربوا فوق الأعناق ) يعني الرءوس لأنها فوق الأعناق. (واضربوا منهم كل بنان ) يعني الأطراف، والبنان جمع بنانة ، وهي أطراف الأصابع .
{ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13)}
قوله: (ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ)حاربوهما وبارزوهما بالعداوة‏.‏(وَمَن يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) في الدنيا والآخرة، ومن عقابه في الدنيا تسليط أوليائه على أعدائه وتقتيلهم‏.‏
{ذَٰلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)}
قوله: (ذلكم) أي: هذا العذاب والضرب فوق الأعناق ، وضرب كل بنان الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر ، (فذوقوه) عاجلا ( وأن للكافرين عذاب النار) اعلموا أن لكم في الآجل والمعاد عذابَ النار.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15)}
قوله -عز وجل-: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ) أي مجتمعين متزاحمين بعضكم إلى بعض ، والتزاحف: التداني في القتال ( فلا تولوهم الأدبار ) فلا تولوهم ظهوركم ، أي تنهزموا فإن المنهزم يولي دبره، بل اثبتوا لقتالهم، واصبروا على جلادهم، فإن في ذلك نصرة لدين اللّه، وقوة لقلوب المؤمنين، وإرهابا للكافرين‏.‏
{وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)}
قوله:(ومن يولهم يومئذ دبره) ظهره ، (إلا متحرفا لقتال) أي منعطفا يرى من نفسه الانهزام ، وقصده طلب الغرة وهو يريد الكرة، (أو متحيزا إلى فئة) أي : منضما صائرا إلى جماعة من المؤمنين يريد العود إلى القتال، فمن ولى ظهره لا على هذه النية لحقه الوعيد ، ( فقد باء بغضب من الله ) أي: رجع ‏( وَمَأْوَاهُ‏ ‏جَهَنَّمُ)‏ أي‏:‏ مقره ‏( وَبِئْسَ الْمَصِيرُ‏)‏‏أي: المنقلب، وهذا يدل على أن الفرار من الزحف من غير عذر من أكبر الكبائر.
{فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ۚ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)}
قوله تعالى: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) معناه: فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكن الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم، وقتلهم بإمداد الملائكة. (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ ۚ)، وما رميت بالرعب في قلوبهم إذ رميت كفار قريش بالحصباء يوم بدر ولكن الله رمى بالرعب في قلوبهم حتى انهزموا.‏ ‏(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا‏)‏ أي‏:‏ إن اللّه تعالى قادر على انتصار المؤمنين من الكافرين، من دون مباشرة قتال، ولكن اللّه أراد أن يمتحن المؤمنين، ويوصلهم بالجهاد إلى أعلى الدرجات، وأرفع المقامات، ويعطيهم أجرا حسنا وثوابًا جزيلًا‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ ‏} لدعائكم ، (عَلِيمٌ) بنياتكم .
{ذَٰلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)}.
قوله: {‏ذَلِكُمْ‏}‏أي: النصر من اللّه لكم ‏{‏وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ مضعف كل مكر وكيد يكيدون به الإسلام وأهله، وجاعل مكرهم محيقا بهم‏.‏
{إِن تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ ۖ وَإِن تَنتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ وَإِن تَعُودُوا نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)}
قوله: {‏إِنْ تَسْتَفْتِحُوا‏}‏ أيها المشركون، أي‏:‏ تطلبوا من اللّه أن يوقع بأسه وعذابه على المعتدين الظالمين‏.‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ‏}‏ حين أوقع اللّه بكم من عقابه، ما كان نكالاً لكم وعبرة للمتقين ‏{‏وَإِنْ تَنْتَهُوا‏}‏ عن الاستفتاح ‏{‏فَهُوَ خَيْرٌ‏}‏ لأنه ربما أمهلتم، ولم يعجل لكم النقمة‏.‏ ‏{‏وإن تعودوا‏}‏ إلى الاستفتاح وقتال حزب الله المؤمنين ‏{‏نَعُدْ‏}‏ في نصرهم عليكم‏.‏ ‏{‏وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أعوانكم وأنصاركم، الذين تحاربون وتقاتلون، معتمدين عليهم، شَيئا {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ}‏ ومن كان اللّه معه فهو المنصور وإن كان ضعيفا قليلا عدده.‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20)}
قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) الخطاب للمؤمنين المصدقين، أفردهم بالخطاب دون المنافقين إجلالا لهم .( أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) بامتثال أمرهما واجتناب نهيهما‏.‏(وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ ) أي: لا تعرضوا عنه ، (وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ) القرآن ومواعظه .
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)}
قوله تعالى :( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا ) يعني بذلك المنافقين . (وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ) أي لا يتدبرون ما سمعوا، ولا يفكرون فيه، فهم بمنزلة من لم يسمع وأعرض عن الحق . نهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم ، فدلت الآية على أن قول المؤمن: سمعت وأطعت ، لا فائدة فيه ما لم يظهر أثر ذلك عليه بامتثال فعله.
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)}
قوله تعالى: (إن شر الدواب عند الله) أي : شرَّ من دب على وجه الأرض من خلق الله ( الصم البكم ) عن الحق فلا يسمعونه ولا يقولونه، (الذين لا يعقلون) أمر الله - عز وجل - ، سماهم دوابا لقلة انتفاعهم بعقولهم.
{وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأَسْمَعَهُمْ ۖ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23)}
قوله: (ولو علم الله فيهم خيرا لأسمعهم) أي : لأسمعهم سماع التفهم والقبول ، ( ولو أسمعهم ) بعد أن علم أن لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، (لتولوا وهم معرضون) لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)}
قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول) يقول أجيبوهما بالطاعة ، (إذا دعاكم ) الرسول، صلى الله عليه وسلم، (لما يحييكم) أي: إلى ما يحييكم ، وهو الإيمان؛ لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان. ‏(‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ‏)‏ يقلب القلوب حيث شاء ويصرفها أنى شاء‏.‏ فليكثر العبد من قوله، صلى الله عليه وسلم،‏:‏ "يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك"[صحيح الأدب المفرد للألباني]،‏(وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ‏}) أي‏:‏ تجمعون ليوم لا ريب فيه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بعصيانه‏.‏
{وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَّا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً ۖ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)}
قوله:(‏وَاتَّقُوا فِتْنَةً) أي: اختبارا وابتلاء، (لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً‏}‏ بل تصيب فاعل الظلم وغيرَهُ، وذلك إذا ظهر الظلم فلم يغير، فإن عقوبته تعم الفاعل وغيره، وتتقى هذه الفتنة بالنهي عن المنكر، وقمع أهل الشر والفساد، وأن لا يمكنوا من المعاصي والظلم مهما أمكن‏.‏ ففي صحيح البخاري عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا ". ففي هذا الحديث تعذيب العامة بذنوب الخاصة، وفيه استحقاق العقوبة بترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالفتنة إذا عمت هلك الكل، وذلك عند ظهور المعاصي وانتشار المنكر وعدم التغيير ‏(‏وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ‏)‏ لمن تعرض لمساخطه، وجانب رضاه‏.‏
{وَاذْكُرُوا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)}
قوله تعالى : (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) واذكروا يا معشر المهاجرين إذ أنتم قليل في العدد ، مستضعفون في أرض مكة ، في ابتداء الإسلام، تخافون أن يتخطفكم الناس ) يذهب بكم كفار مكة ، (فآواكم) إلى المدينة ، (وأيدكم بنصره) أي : قواكم يوم بدر بالأنصار، والملائكة ، (ورزقكم من الطيبات) يعني : الغنائم ، أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم ، (لعلكم تشكرون) اللّه على منته العظيمة وإحسانه التام، بأن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا‏.‏
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27)}
قوله:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ) نهى الله المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله، بترك ما أوجبه الله عليكم ، وفعل مانهاكم عنه، (وتخونوا أماناتكم) أي: لا تفرطوا فيما ائتمنكم الله عليه، فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا، فمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائنا للّه وللرسول ولأمانته، منقصا لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، مفوتا لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة‏.‏ (وأنتم تعلمون) أنها أمانة يجب الوفاء بها.
{وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)}
قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ)واعلموا، أيها المؤمنون، أنما أموالكم التي خوَّلكموها الله، وأولادكم التي وهبها الله لكم، اختبارٌ وبلاء، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. (وأن الله عنده أجر عظيم) ، أي: خيرٌ وثواب عظيم، على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، في أمولكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا . وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها، تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
قوله: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله ) بطاعته وترك معصيته ، ( يجعل لكم فرقانا ) فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم ويطفئ باطل من خالفكم . ( ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم) يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم ، (والله ذو الفضل العظيم) صاحب الفضل الكبير، والعطاء الجزيل.
{وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)}
قوله:(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ)أي‏:‏ ‏‏وأذكر أيها الرسول، ما منَّ اللّه به عليك‏.‏ ‏{‏إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ حين تشاور المشركون في دار الندوة فيما يصنعون بالنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إما أن يثبتوه عندهم بالحبس ويوثقوه‏،‏ وإما أن يقتلوه فيستريحوا ـ بزعمهم ـ من شره‏.‏ وإما أن يخرجوه ويجلوه من ديارهم‏.‏ فكلُّ أبدى من هذه الآراء رأيا رآه، فاتفق رأيهم على رأي‏:‏ رآه أبو جهل لعنه اللّه، وهو أن يأخذوا من كل قبيلة من قبائل قريش فتى ويعطوه سيفا صارما، ويقتله الجميع قتلة رجل واحد، ليتفرق دمه في القبائل‏.‏ فيرضى بنو هاشم بديته، فلا يقدرون على مقاومة سائر قريش، (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) أي: فمكرت لهم بكيدي المتين، حتى خلّصتك منهم؛ إذ أتى جبريلُ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه، فأخبره بمكر القوم، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالهجرة للمدينة.
{وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَٰذَا ۙ إِنْ هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)}
قوله: ‏{‏وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا‏}‏ الدالة على صدق ما جاء به الرسول‏.‏ ‏{‏قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ‏}‏ وهذا من عنادهم وظلمهم، وإلا فقد تحداهم اللّه أن يأتوا بسورة من مثله، ويدعوا من استطاعوا من دون اللّه، فلم يقدروا على ذلك، وتبين عجزهم‏.‏ ، (إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ) أي: إنْ هذا القرآن الذي تتلوه علينا، يا محمد، ما هو إلا ما سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم،وليس من عند الله، فهذا القول الصادر منهم مجرد دعوى، كذبه الواقع وقد علموا أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أُمِّيٌّ لا يقرأ ولا يكتب، ولا رحل ليدرس من أخبار الأولين، فأتى بهذا الكتاب الجليل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد‏.‏
{وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَٰذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)}
قوله تعالى: (وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك ) نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدار، لما قص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شأن القرون الماضية ، قال النضر: لو شئت لقلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين -ثم قال: اللهم إن كان هذا الذي يقول محمد هو الحق من عندك (فأمطر علينا حجارة من السماء) كما أمطرتها على قوم لوط، (أو ائتنا بعذاب أليم ) أي : ببعض ما عذبت به الأمم ، وفيه نزل: (سأل سائل بعذاب واقع ). ( المعارج - 1 )
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)}
قوله: ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ } يعني: أهل مكة{وَأَنْتَ فِيهِمْ‏}‏ فوجوده ـ صلى الله عليه وسلم ـ بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب‏.‏ ‏{‏وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ أي يسلمون، يقول : لو أسلموا لما عذبوا .
{وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ ۚ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)}
قوله تعالى: (وما لهم ألا يعذبهم الله) وما يمنعهم من أن يعذبوا بعد خروجك من بينهم، (وهم يصدون عن المسجد الحرام) أي: يمنعون المؤمنين من الطواف بالبيت كان المشركون يقولون نحن أولياء المسجد الحرام، فرد الله عليهم بقوله: (وما كانوا أولياءه) أي: أولياء البيت، (إن أولياؤه ) أي: ليس أولياء البيت، (إلا المتقون) يعني: المؤمنين الذين يتقونه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه ، (ولكن أكثرهم لا يعلمون ) فلذلك ادَّعَوْا لأنفسهم أمرا غيرهم أولى به‏.‏
{وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35)}
قوله تعالى : ( وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً ۚ ) المكاء : الصفير، والتصدية التصفيق .قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون .(فَذُوقُوا الْعَذَابَ) عذاب القتل والأسر يوم بدر ( بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) بسبب جحودكم توحيد ربكم ورسالة نبيكم
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)}
قوله تعالى: (إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله) أي: ليصرفوا عن دين الله.
(فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة) يريد: ما أنفقوا في الدنيا يصير حسرة عليهم في الآخرة، (ثم يغلبون ) ولا يظفرون، (والذين كفروا) منهم ، ( إلى جهنم ) خص الكفار لأن منهم من أسلم .(يحشرون) يجمعون إليها، ليذوقوا عذابها، وذلك لأنها دار الخبث والخبثاء.
{لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)}
قوله تعالى: (لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) يعني: الكافر من المؤمن فينزل المؤمن الجنان والكافر النيران .(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا) أي:ويجعل الله المال الحرام الذي أنفق للصد عن سبيل الله بعضه فوق بعض متراكما متراكبا، كما قال الله في السحاب (ثم يجعله ركاما [النور 43]) ، (فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة، ألا ذلك هو الخسران المبين‏.‏
{قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)}
قوله:( قل للذين كفروا إن ينتهوا ) عن الشرك ( يغفر لهم ما قد سلف ) أي: ما مضى من ذنوبهم قبل الإسلام ، (‏وَإِنْ يَعُودُوا‏)‏ إلى كفرهم وعنادهم ‏(فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ‏)‏ بإهلاك الأمم المكذبة، فلينتظروا ما حل بالمعاندين، فسوف يأتيهم أنباء ما كانوا به يستهزئون.
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)}
‏قوله:{‏وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ‏}‏ أي‏:‏ شرك وصد عن سبيل اللّه، ‏{‏وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ‏}‏أي: خالصا، وهذا المقصود من القتال والجهاد لأعداء الدين، أن يدفع شرهم عن الدين، وأن يذب عن دين اللّه الذي خلق الخلق له، حتى يكون هو العالي على سائر الأديان‏.‏ ‏{‏فَإِنِ انْتَهَوْا‏}‏ فإن انزجروا عن فتنة المؤمنين ، وعن الشرك بالله وصاروا إلى الدين الحق معكم ‏{‏فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في الإسلام ‏.‏
{وَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ ۚ نِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)}
قوله: (وإن تولوا) وإن ادبروا عن الإيمان وعادوا إلى قتالكم ، ( فاعلموا أن الله مولاكم ) ناصركم ومعينكم ، (نعم المولى) الذي يتولى عباده المؤمنين، ويوصل إليهم مصالحهم، وييسر لهم منافعهم الدينية والدنيوية‏.‏ ‏(‏وَنِعْمَ النَّصِيرُ‏)‏ الذي ينصرهم، فيدفع عنهم كيد الفجار، وتكالب الأشرار‏.‏ ومن كان اللّه مولاه وناصره فلا خوف عليه، ومن كان اللّه عليه فلا عِزَّ له ولا قائمة له‏.
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)}
يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏ ،واعلموا -أيها المؤمنون- أن ما ظَفِرتم به مِن عدوكم بالجهاد في سبيل الله.‏ ‏{‏فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ‏}‏ فأربعة أخماسه للمقاتلين الذين حضروا المعركة، والخمس الباقي يجزَّأُ خمسة أسهم، سهم للّه ولرسوله، يصرف في مصالح المسلمين العامة، ‏ والسهم الثاني‏:‏ لذي القربى، وهم قرابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بني هاشم وبني المطلب‏، جُعِل لهم الخمس مكان الصدقة فإنها لا تحلُّ لهم، والسهم الثالث لليتامى، وهم الذين فقدوا آباءهم وهم صغار، جعل اللّه لهم خمس الخمس رحمة بهم، حيث كانوا عاجزين عن القيام بمصالحهم، وقد فُقِدَ مَنْ يقوم بمصالحهم‏.‏ والسهم الرابع للمساكين، أي‏:‏ المحتاجين الفقراء من صغار وكبار، ذكور وإناث‏.‏ والسهم الخامس لابن السبيل، وهو الغريب المنقطع به في غير بلده، ‏ وجعل اللّه أداء الخمس على وجهه شرطا للإيمان فقال‏:‏ ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ‏}‏ وهو يوم ‏{‏بدر‏}‏ الذي فرق اللّه به بين الحق والباطل‏.‏ وأظهر الحق وأبطل الباطل‏.‏ ‏{‏يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ‏}‏ جمع المسلمين، وجمع الكافرين،أي‏:‏ إن كان إيمانكم باللّه، وبالحق الذي أنزله اللّه على رسوله يوم الفرقان، الذي حصل فيه من الآيات والبراهين، ما دل على أن ما جاء به هو الحق‏.‏ ‏{‏وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ لا يغالبه أحد إلا غلبه‏.‏
{إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَىٰ وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ۚ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ ۗ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)}
قوله: ( إذ أنتم ) أي: إذ أنتم نزول يا معشر المسلمين ، (بالعدوة الدنيا) أي: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة ، والدنيا تأنيث الأدنى ، (وهم) يعني عدوكم من المشركين ، ( بالعدوة القصوى) بشفير الوادي الأقصى من المدينة .(والركب) يعني: العير يريد أبا سفيان وأصحابه ، ( أسفل منكم ) أي : في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر ، على ثلاثة أميال من بدر ، ( ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ) وذلك أن المسلمين خرجوا ليأخذوا العير وخرج الكفار ليمنعوها ، فالتقوا على غير ميعاد ، فقال تعالى : "ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد" لقلتكم وكثرة عدوكم ، (ولكن) الله جمعكم على غير ميعاد، (ليقضي الله أمرا كان مفعولا) من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه، ( ليهلك من هلك عن بينة) أي: ليموت من يموت على بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه . ( ويحيا من حي عن بينة ) ويعيش من يعيش عن حجة لله قد ثبتت وظهرت له " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا " [الإسراء - 15] ) .( وإن الله لسميع ) لدعائكم ، ( عليم ) بنياتكم .
{إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا ۖ وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ ۗ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)}
قوله تعالى: (إذ يريكهم الله) يريك يا محمد المشركين ، (في منامك) أي: نومك .(قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم) لجبنتم (ولتنازعتم) أي: اختلفتم (في الأمر) أي: في الإحجام والإقدام ، (ولكن الله سلم) أي سلمكم من المخالفة والفشل، (إنه عليم بذات الصدور) إنه عليم بخفايا القلوب وطبائع النفوس.
{وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا ۗ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)}
قوله:( وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ) قلل الله المشركين في أعين المؤمنين .قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم سبعين؟ قال : أراهم مائة ، فأسرنا رجلا فقلنا كم كنتم؟ قال: ألفا .
(ويقللكم) يا معشر المؤمنين (في أعينهم) ليجترئوا على القتال؛ حتى قال أبو جهل: فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم ، إنما محمد وأصحابه أكلة جزور ، فلا تقتلوهم ، واربطوهم بالحبال - يقوله من القدرة التي في نفسه استقل بعضهم بعضا ليجترئوا على القتال ، فقلل المشركين في أعين المؤمنين لكي لا يجبنوا ، وقلل المؤمنين في أعين المشركين لكي لا يهربوا ، ( ليقضي الله أمرا ) من إعلاء الإسلام وإعزاز أهله وإذلال الشرك وأهله . (كان مفعولا ) كائنا ، (وإلى الله ترجع الأمور) وإلى الله مصير الأمور كلها، فيجازي كلا بما يستحق.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}
قوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة) أي: جماعة كافرة ( فاثبتوا ) لقتالهم ، ( واذكروا الله كثيرا ) أي: ادعوا الله بالنصر والظفر بهم، (لعلكم تفلحون) أي: كونوا على رجاء الفلاح .
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
قوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏)‏ في استعمال ما أمرا به، والمشي خلف ذلك في جميع الأحوال‏.‏(وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا) لا تختلفوا، (فتفشلوا) أي: تجبنوا وتضعفوا، (وتذهب ريحكم ) قوتكم ، ودولتكم . والريح ها هنا كناية عن نفاذ الأمر وجريانه على المراد ، تقول العرب : هبت ريح فلان إذا أقبل أمره على ما يريد. ‏(‏وَاصْبِرُوا‏)‏ أمر بالصبر وهو محمود في كل المواطن ، وخاصة مواطن الحرب، ‏(‏إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ‏)‏ بالعون والنصر والتأييد.
{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}.
قوله تعالى: (ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا) فخرا وأشرا ، ( ورئاء الناس ) الرياء : إظهار الجميل ليرى وإبطان القبيح، ( ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ) هذا مقصدهم الذي خرجوا إليه، وهذا الذي أبرزهم من ديارهم لقصد الأشر والبطر في الأرض، وليراهم الناس ويفخروا لديهم‏.‏ والمقصود الأعظم أنهم خرجوا ليمنعوا الناس عن الدخول في دين الله، ‏{‏وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ‏}‏ فلا يغيب عنه شيء؛ فلذلك أخبركم بمقاصدهم، وحذركم أن تشبهوا بهم، فإنه سيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة‏.‏ فليكن قصدكم في خروجكم وجه اللّه تعالى وإعلاء دين اللّه، والصد عن الطرق الموصلة إلى سخط اللّه وعقابه، وجذب الناس إلى سبيل اللّه القويم الموصل لجنات النعيم‏.‏
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
قوله: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ )واذكروا حين حسَّن الشيطان للمشركين ما جاؤوا له وما همُّوا به، (وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ)وقال لهم : لن يغلبكم أحد اليوم، (وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ۖ )وإني ناصركم، (فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ) فلما تقابل الفريقان: المشركون ومعهم الشيطان، والمسلمون ومعهم الملائكة، (نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ )رجع الشيطان مُدْبرًا، (وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَىٰ مَا لَا تَرَوْنَ)وقال للمشركين: إني بريء منكم، إني أرى ما لا ترون من الملائكة الذين جاؤوا مددًا للمسلمين، (إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ ۚ ) خذلهم وتبرأ منهم. (وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) لمن عصاه ولم يتب توبة نصوحًا.
{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
قوله: (إذ يقول المنافقون) الذين أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر(والذين في قلوبهم مرض) أي‏:‏ شك وشبهة، من ضعفاء الإيمان، يقولون للمؤمنين حين أقدموا ـ مع قِلَّتهم ـ على قتال المشركين مع كثرتهم‏، (غر هؤلاء دينهم) يعني: غر المؤمنين دينهم، (ومن يتوكل على الله) أي: ومن يسلم أمره إلى الله ويثق به ، (فإن الله عزيز) قوي يفعل بأعدائه ما يشاء، (حكيم) في تدبيره وصنعه.
{وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)}
قوله: (وَلَوْ تَرَىٰ إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا ۙ الْمَلَائِكَةُ)، ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار، فتنـزعها من أجسادهم، (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ) تضرب الملائكة الوجوه منهم والأستاه، (وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم.
{ذَٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ (51)}
قوله: (ذلك) أي: ذلك الضرب الذي وقع بكم، (بما قدمت أيديكم) أي: بما كسبت أيديكم ، (وأن الله ليس بظلام للعبيد) بل هو الحَكَمُ العدل الذي لا يجور.إذ قد أوضح السبيل وبعث الرسل.
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)}
قوله: (كدأب آل فرعون) كفعل آل فرعون وصنيعهم وعادتهم ، معناه : أن عادة هؤلاء المشركين في كفرهم كعادة آل فرعون؛ حيث إن آل فرعون أيقنوا أن موسى نبي من الله فكذبوه ، كذلك هؤلاء جاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- بالصدق فكذبوه، فأنزل الله بهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون . (والذين من قبلهم ) السابقين من الأمم الخالية قبلهم (كفروا بآيات الله) جحدوا بآياته (فأخذهم الله بذنوبهم) عاقبهم (إن الله قوي ) لا يقهر (شديد العقاب ) لمن عصاه ولم يتب من ذنبه.
{ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)}.
قوله: (ذلك) العذاب الذي أوقعه اللّه بالأمم المكذبة، وأزال عنهم ما هم فيه من النعم والنعيم (بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) بسبب ذنوبهم وتغييرهم ما بأنفسهم، أراد : أن الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم ، بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم ، فسلبهم النعمة. (وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع جميع ما نطق به الناطقون، سواء من أسر القول ومن جهر به، ويعلم ما تنطوي عليه الضمائر، وتخفيه السرائر، فيجري على عباده من الأقدار ما اقتضاه علمه وجرت به مشيئته‏.‏
{كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ۙ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۚ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ ۚ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)}
قوله: (كدأب آل فرعون ) كصنع آل فرعون ، ( والذين من قبلهم ) من كفار الأمم ، ( كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم ) أهلكنا بعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم بالريح وبعضهم بالغرق ، فكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف ، لما كذبوا بآيات ربهم ، ( وأغرقنا آل فرعون وكل كانوا ظالمين ) يعني: الأولين والآخرين.
{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55)}
قوله:(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ) أي: إن شر ما دبّ على الأرض عند الله، (الَّذِينَ كَفَرُوا) الذين جحدوا وحدانية الله، وعبدوا غيره؛ لأن الخير معدوم منهم، والشر متوقع فيهم، (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)، فهم لا يصدِّقون رسلَ الله، ولا يقرُّون بوحيه وتنـزيله.
{الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)}.
قوله: (الذين عاهدت منهم) يعني : أخذت منهم العهد ، ( ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ) وهم بنو قريظة، وبنو النضير، نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم الثانية ، فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الخندق ، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة ، فوافقهم على مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ( وهم لا يتقون ) لا يخافون الله تعالى في نقض العهد.
{فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)}
قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب) إن أدركتهم في الحرب وأسرتهم، (فشرد بهم من خلفهم) أي‏:‏أوقع بهم من العقوبة ما يصيرون ‏‏به‏‏ عبرة لمن بعدهم (لعلهم يذكرون ) فلا يجترئون على مثل الذي أقدم عليه السابقون.
{وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَاءٍ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)}
قوله: (وإما تخافن) أي : تعلمن يا محمد ، (من قوم) معاهدين، (خيانة) نقض عهد بما يظهر لكم منهم من آثار الغدر كما ظهر من قريظة والنضير، (فانبذ إليهم) فاطرح إليهم عهدهم ، (على سواء ) يقول: أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم ، (إن الله لا يحب الخائنين ) في عهودهم الناقضين للعهد والميثاق.
{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)}
قوله: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا ۚ) ولا يظننَّ الذين جحدوا آيات الله أنهم فاتوا ونجَوْا، وأن الله لا يقدر عليهم(إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ) إنهم لن يُفْلِتوا من عذاب الله، واللّه لهم بالمرصاد‏، وله تعالى الحكمة البالغة في إمهالهم وعدم معاجلتهم بالعقوبة.
{وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)}
قوله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم) الإعداد : اتخاذ الشيء لوقت الحاجة. ( من قوة ) أي : من الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح . (ومن رباط الخيل) يعني: ربطها واقتناؤها للغزو (ترهبون به) تخوفون (عدو الله وعدوكم وآخرين) أي: وترهبون آخرين، (من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ممن سيقاتلونكم بعد هذا الوقت الذي يخاطبهم الله به (‏‏اللَّهُ يَعْلَمُهُم‏‏ )فلذلك أمرهم بالاستعداد لهم، ومن أعظم ما يعين على قتالهم بذلك النفقات المالية في جهاد الكفار .( وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم ) يوفى لكم أجره ، ( وأنتم لا تظلمون ) لا تنقص أجوركم .
وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)}
قوله تعالى: ( وإن جنحوا للسلم ) أي: مالوا إلى الصلح، (فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ‏)‏ أي‏:‏ أجبهم إلى ما طلبوا متوكلًا على ربك (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) سميع لأقوالهم، عليم بافعالهم.
{وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ ۚ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)}
قوله: (وإن يريدوا أن يخدعوك) يغدروا ويمكروا بك. (فإن حسبك الله ) كافيك الله ، ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ) أي: بالمهاجرين وبالأنصار.
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)}
قوله: (وألف بين قلوبهم) أي: بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم محن وثارات في الجاهلية ، فصيرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك النفرة والفرقة الشديدة ‏{‏مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ‏ ‏وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ }‏ لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى‏.‏ ‏{إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ‏}‏ عزيز في ملكه ، حكيم في أمره وتدبيره.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}.
قوله ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه أي‏:‏ كافيك في كل حال ‏{‏وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ وكافي أتباعك من المؤمنين،‏‏وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء‏.، فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع، فلابد أن يكفيهم ما أهمَّهم من أمور الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها‏.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65)}
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ) أي: حثهم على القتال . (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ) رجلا (صابرون) محتسبون، (يغلبوا مائتين) من عدوهم يقهروهم، (وإن يكن منكم مائة ) صابرة محتسبة ، (يغلبوا ألفا من الذين كفروا) ذلك (بأنهم قوم لا يفقهون) أي: إن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال ، خشية أن يقتلوا، فهم يقاتلون من أجل العلو في الأرض والفساد.
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}
قوله: {‏الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا‏}‏ اقتضت رحمته وحكمته التخفيف،‏‏ ‏{‏فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏ أي : ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف، (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) من الكفار، (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) فرد من العشرة إلى الاثنين ، فإن كان المسلمون على النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار ‏إذا غلب على ظنهم الضرر، (بإذن الله) بأمره ومشيئته، (والله مع الصابرين) بتأييده ونصره.
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}
قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ) ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ، (حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ) حتى يبالغ في قتل المشركين ، ويقهرهم غلبة وقسرًا. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) تُرِيدُونَ أيها المؤمنون بأسركم المشركين عَرَضَ الدُّنْيَا من مال ومتاع. (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ) والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض.(وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لا يقهر ، (حَكِيمٌ) في تدبيره أمرَ خلقه.
{لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}
قوله: (لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ) في اللوح المحفوظ، من إحلال الغنائم لكم، فإنها كانت محرمة على من كان قبلكم، لقوله صلى الله عليه وسلم :" أعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، ... وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، ولم تَحِلّ لأحدٍ قَبْلِي ..." صحيح البخاري. (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم.
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69)}
قوله: {‏فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا‏}‏ وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها‏.‏ ‏{‏وَاتَّقُوا اللَّهَ‏}‏ في جميع أموركم ولازموها، شكرا لنعم اللّه عليكم،‏.‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ‏}‏ يغفر لمن تاب إليه جميعَ الذنوب،‏ ‏ويغفر لمن لم يشرك به شيئا جميع المعاصي‏.‏ ‏{‏رَحِيمٌ‏}‏ بكم، حيث أباح لكم الغنائم وجعلها حلالا طيبا‏.‏
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)}
قوله: ‏(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ‏)‏ أي‏:‏ من المال، بأن ييسر لكم من فضله، خيرا وأكثر مما أخذ منكم‏.‏ ‏(‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ‏)‏ ذنوبكم، ويدخلكم الجنة .(وَاللَّهُ غَفُورٌ) لذنوب عباده إذا تابوا (رَّحِيمٌ )، بهم.
{وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
قوله: (وإن يريدوا خيانتك) وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم (خيانتك)، أي الغدر بك والمكرَ والخداع بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم، ( فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) ببدر، أي: إن كفروا بك فقد كفروا بالله من قبل فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم ، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى قتال المؤمنين ومعاداتهم .(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي‏:‏ عليم بكل شيء، حكيم يضع الأشياء مواضعها.‏
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا)أي: هجروا قومهم وديارهم ، يعني المهاجرين . (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين معه ، أي : أسكنوهم منازلهم ، (ونصروا) أي : ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم ، (أولئك بعضهم أولياء بعض) أولئك بعضهم نصراء بعض (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) أي: لم يهاجروا من دار الكفر فلستم مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا، (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) أي : وإن وقع عليهم ظلم من الكفار فطلبوا نصرتكم فاستجيبوا لهم، (إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) عهد فلا تنصروهم عليهم ، ( والله بما تعملون بصير ) بصير بأعمالكم، يجزي كُلَّا على قدر نيته وعمله.‏
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
قوله: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ ) أي: في العون والنصرة .(إِلَّا تَفْعَلُوهُ ) أي‏:‏ موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين(تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ) فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل، والمؤمن بالكافر (وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) وفساد عريض بالصد عن سبيل الله وتقوية دعائم الكفر.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}
قوله: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) أي‏:‏ المؤمنون من المهاجرين والأنصار ( أولئك هم المؤمنون حقا ) لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، فقد حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين ، ( لهم مغفرة)‏ من اللّه تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، ‏{و‏رِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ لهم خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
قوله : ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) أي: معكم ، يريد : أنتم منهم وهو منكم ، ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة( في كتاب الله ) أي : في حكم الله - عز وجل - ( إن الله بكل شيء عليم ) إن الله عالم بما يصلح عباده، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، ، وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها.
تمَّ تفسيرُ سورةِ الأنفالِ، ولله الحمدُ والمنَّةُ.

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
 الدرس 328سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - تهذيب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني
 الدرس 327سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - تهذيب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني
 الدرس 326سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - تهذيب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني
 الدرس 325سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - تهذيب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني
 الدرس 324سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - تهذيب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني
 الدرس 323سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني ، تهذيب د. مبارك العسكر - تهذيب سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني