قوله: (وألف بين قلوبهم) أي: بين الأوس والخزرج ، كانت بينهم محن وثارات في الجاهلية ، فصيرهم الله إخوانا بعد أن كانوا أعداء ، (لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا)، من ذهب وفضة وغيرهما لتأليفهم بعد تلك النفرة والفرقة الشديدة {مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } لأنه لا يقدر على تقليب القلوب إلا اللّه تعالى. {إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} عزيز في ملكه ، حكيم في أمره وتدبيره.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)}.
قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّه أي: كافيك في كل حال {وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي: وكافي أتباعك من المؤمنين،وهذا وعد من اللّه لعباده المؤمنين المتبعين لرسوله، بالكفاية والنصرة على الأعداء.، فإذا أتوا بالسبب الذي هو الإيمان والاتباع، فلابد أن يكفيهم ما أهمَّهم من أمور الدين والدنيا، وإنما تتخلف الكفاية بتخلف شرطها.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ (65)}
قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ۚ) أي: حثهم على القتال . (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ) رجلا (صابرون) محتسبون، (يغلبوا مائتين) من عدوهم يقهروهم، (وإن يكن منكم مائة ) صابرة محتسبة ، (يغلبوا ألفا من الذين كفروا) ذلك (بأنهم قوم لا يفقهون) أي: إن المشركين يقاتلون على غير احتساب ولا طلب ثواب، ولا يثبتون إذا صدقتموهم القتال ، خشية أن يقتلوا، فهم يقاتلون من أجل العلو في الأرض والفساد.
{الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)}
قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} اقتضت رحمته وحكمته التخفيف، {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} أي : ضعفا في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف، (فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ) من الكفار، (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) فرد من العشرة إلى الاثنين ، فإن كان المسلمون على النصف من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا، فإن زادوا على مثليهم جاز لهم الفرار إذا غلب على ظنهم الضرر، (بإذن الله) بأمره ومشيئته، (والله مع الصابرين) بتأييده ونصره.
{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)}
قوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ) ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ، (حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ ۚ) حتى يبالغ في قتل المشركين ، ويقهرهم غلبة وقسرًا. (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا ) تُرِيدُونَ أيها المؤمنون بأسركم المشركين عَرَضَ الدُّنْيَا من مال ومتاع. (وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ) والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض.(وَاللَّهُ عَزِيزٌ) لا يقهر ، (حَكِيمٌ) في تدبيره أمرَ خلقه.
{لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)}
قوله: (لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ) في اللوح المحفوظ، من إحلال الغنائم لكم، فإنها كانت محرمة على من كان قبلكم، لقوله صلى الله عليه وسلم :" أعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ أحَدٌ مِنَ الأنْبِيَاءِ قَبْلِي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، ... وأُحِلَّتْ لي الغَنَائِمُ، ولم تَحِلّ لأحدٍ قَبْلِي ..." صحيح البخاري. (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم.
{فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69)}
قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة، أن أحل لها الغنائم ولم يحلها لأمة قبلها. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} في جميع أموركم ولازموها، شكرا لنعم اللّه عليكم،. {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} يغفر لمن تاب إليه جميعَ الذنوب، ويغفر لمن لم يشرك به شيئا جميع المعاصي. {رَحِيمٌ} بكم، حيث أباح لكم الغنائم وجعلها حلالا طيبا.
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الْأَسْرَىٰ إِن يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۗ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70)}
قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي: من المال، بأن ييسر لكم من فضله، خيرا وأكثر مما أخذ منكم. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ذنوبكم، ويدخلكم الجنة .(وَاللَّهُ غَفُورٌ) لذنوب عباده إذا تابوا (رَّحِيمٌ )، بهم.
{وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)}
قوله: (وإن يريدوا خيانتك) وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم (خيانتك)، أي الغدر بك والمكرَ والخداع بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم، ( فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم ) ببدر، أي: إن كفروا بك فقد كفروا بالله من قبل فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم وأسروهم ، وهذا تهديد لهم إن عادوا إلى قتال المؤمنين ومعاداتهم .(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: عليم بكل شيء، حكيم يضع الأشياء مواضعها.
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلَايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّىٰ يُهَاجِرُوا ۚ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)}
قوله تعالى: (إن الذين آمنوا وهاجروا)أي: هجروا قومهم وديارهم ، يعني المهاجرين . (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين معه ، أي : أسكنوهم منازلهم ، (ونصروا) أي : ونصروهم على أعدائهم وهم الأنصار رضي الله عنهم ، (أولئك بعضهم أولياء بعض) أولئك بعضهم نصراء بعض (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) أي: لم يهاجروا من دار الكفر فلستم مكلفين بحمايتهم ونصرتهم حتى يهاجروا، (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) أي : وإن وقع عليهم ظلم من الكفار فطلبوا نصرتكم فاستجيبوا لهم، (إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) عهد فلا تنصروهم عليهم ، ( والله بما تعملون بصير ) بصير بأعمالكم، يجزي كُلَّا على قدر نيته وعمله.
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)}
قوله: ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ ) أي: في العون والنصرة .(إِلَّا تَفْعَلُوهُ ) أي: موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين(تَكُن فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ ) فإنه يحصل بذلك من الشر ما لا ينحصر من اختلاط الحق بالباطل، والمؤمن بالكافر (وَفَسَادٌ كَبِيرٌ) وفساد عريض بالصد عن سبيل الله وتقوية دعائم الكفر.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَّنَصَرُوا أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)}
قوله: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا ) أي: المؤمنون من المهاجرين والأنصار ( أولئك هم المؤمنون حقا ) لا مرية ولا ريب في إيمانهم ، فقد حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين ، ( لهم مغفرة) من اللّه تمحى بها سيئاتهم، وتضمحل بها زلاتهم، {ورِزْقٌ كَرِيمٌ} أي: لهم خير كثير من الرب الكريم في جنات النعيم.
{وَالَّذِينَ آمَنُوا مِن بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَٰئِكَ مِنكُمْ ۚ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)}
قوله : ( والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم ) أي: معكم ، يريد : أنتم منهم وهو منكم ، ( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض ) فلا يرثه إلا أقاربه من العصبات وأصحاب الفروض،فإن لم يكونوا، فأقرب قراباته من ذوي الأرحام، كما دل عليه عموم هذه الآية الكريمة( في كتاب الله ) أي : في حكم الله - عز وجل - ( إن الله بكل شيء عليم ) إن الله عالم بما يصلح عباده، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، ، وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها.
تمَّ تفسيرُ سورةِ الأنفالِ، ولله الحمدُ والمنَّةُ.