بين النصيحة والتشهير

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 18 ربيع الأول 1435هـ | عدد الزيارات: 2692 القسم: خطب الجمعة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"آل عمران:102

"يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً"النساء:1

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً"الأحزاب:70

أما بعد

ليس منا من لا يخطئ ولا ينحرف عن سنن الحق بل إن فينا من الغرائز والطباع ما يميل بنا إلى الشر وليس كل إنسان يعرف خطأه أو يهتدي إليه وبذلك كان من حق الأخ على أخيه أن يبصره بعيبه وينصح له في أمره وكما يجب على من رأى الظلم في أي إنسان إياً كانت مكانته أن ينكر عليه ظلمه وبغيه ويجب على من رأى صديقاً له يظلم نفسه أو يظلم غيره أن يحول بينه وبين ذلك إبقاء على حق الأخوة ودفعا للأذى عن صديقه وعن المجتمع ويوم يتساهل الناس في هذا الحق فيتملق الصديق صديقه ويهمل الأخ حق أخيه عليه في النصح والإرشاد تسوء علائق بعضهم ببعض وتنقلب الصداقة إلى عداوة ويصبح أمر المجتمع فوضى يموج بالشر والإثم

ولقد أخبر القرآن الكريم أن بني إسرائيل استحقوا اللعنة والحرمان والتشريد لأنهم كانوا لا يتناصحون "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ"المائدة:78 وليس أدل على رقي الأمة واستقامة ضمائرها من تمسكها بخلق التناصح فيما بينها ينصح الأخ لأخيه والجار لجاره والأب لولده والأستاذ لتلميذه والموظف لرئيسه والمسؤول لمرؤسه وولي الأمر لأمته فلا ترى حينئذ إلا حقّاً محترماً وفضيلة يعمل بها وثقة تربط بين الناس بعضهم مع بعض فلا خيانة ولا غش ولا اتهام ولا تجريح وإذا خلا المجتمع من هذا الخلق أو ضعف مظهر العمل به فقد انتهت الأمة إلى أسوأ حالاتها من الفوضى والفساد والتقاطع والعدوان

وقد اضطربت عند كثير من الناس حدود النصيحة التي يجب القيام بها فانقلب أحدهم من النصح إلى التشهير كما انقلب آخرون من المداراة إلى التملق وفي ذلك ما فيه من شر يربو على الخير وحق يستعمل في باطل وحين لا تجدي النصيحة أو ينشأ عنها ما هو أكبر ضرراً وأكثر سوءاً يتحتم عليك أن تخطو أربع خطوات

الخطوة الأولى: أن تداري من تنصحه حتى يستقيم حاله وتواني الظروف الصالحة لنصحه ووعظه وهذا هو حد المداراة

أما أن تنقلب إلى مشجع على الشر متظاهر لمن يعمله بالتأييد فهذا هو التملق الذي يمقته الخلق الكريم وتأباه آداب الشريعة وأخلاقها فرق بين أن تأتي لظالم فتزين له ظلمه وتغريه بالاستمرار وبين أن تسكت عنه وهو في عنفوان قوته وأنت يائس من صلاحه عسى أن تواتيك الفرصة فيما بعد لتجهر له بالنصيحة وتدله على طريق الخير ذلك تملق وهذه مداراة والتملق خسة وجبن والمداراة تعقل وحكمة عليك أن لا تبادر إلى تصديق ما يقال عن جارك أو صديقك أو أحد من الناس بل تتثبت في ذلك حتى تستيقنه فإن الناس اعتادوا اشاعة السوء والجماهير دائماً أسرع إلى إساءة الظن من إحسانه فلا تصدق كل ما يقال ولو سمعته من ألف فم حتى تسمعه ممن شاهده بعينه ولا تصدق من شاهد الأمر بعينه حتى تتأكد من تثبته فيما يشاهد ولا تصدق من تثبت فيما يشاهد حتى تتأكد من براءته وخلوه من الغرض والهوى ولذلك نهانا الله عن الظن واعتبره إثماً لا يغني من الحق شيئاً " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْم"الحجرات:12

وقال في موضع آخر " إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ شَيْئا"يونس:36 وإذا رأيت امراً أو بلغك عن صديقك كلام يحتمل وجهين فاحمله محملاً حسناً وأنزله منزلة الخير فذلك الصق بالأخوة وأجدر بمكارم الأخلاق قالت بنت عبد الله بن مطيع لزوجها طلحة بن عبد الرحمن بن عوف وكان أجود قريش في زمانه: ما رأيت قوماً الأم من إخوانك! قال لها: مه! ولمَ ذلك قالت أراهم إذا أيسرت لزموك وإذا أعسرت تركوك فقال لها: هذا والله من كرم أخلاقهم يأتوننا في حال قدرتنا على إكرامهم ويتركوننا في حال عجزنا عن القيام بحقهم. فانظر كيف تأول طلحة صنيع إخوانه معه وهو ظاهر القبح والغدر بأن اعتبره وفاءً وكرماً

وثاني خطوات النصيحة: عليك أن تقدر طباع الناس وغرائزهم وأنهم ليسوا ملائكة ولا أنبياء فلا تطمع أن لا تعثر على زلة أو هفوة لأحد من إخوانك ولكن احمل ذلك على الضعف الإنساني الذي لا يكاد يخلو منه أحد وعلى الغرائز التي لا ينجو من سلطانها إلا الأقلون وانظر أنت في نفسك ألا تقع في مثل تلك الزلات فلماذا تريد من الناس ما لا تريده من نفسك فما أجمل قول الشاعر

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها** كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه

بل ما أروع قول الله تبارك وتعالى في وصف النفس الإنسانية على حقيقتها حين يقول على لسان امرأة العزيز "وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي"يوسف:53 فإذا ذكرت ذلك كنت مقابل خطأ من صاحبك تذكره بالصواب فيه لا مقابل عيب تزدريه من أجله وتنتقصه بسببه

قال الشافعي رحمه الله: ما أحد من المسلمين يطيع الله ولا يعصيه ولا أحد يعصي الله ولا يطيعه فمن كانت طاعته أغلب من معاصيه فهو عدل. وهذا والله هو الفقه والعلم والحكمة التي لا يقف عليها إلا أطباء النفوس وأكمل الناس وأورعهم وأقواهم ديناً وأكثرهم لله خشية ليس هو الذي يزدري العصاة ويحتقر المذنبين ويرى لنفسه ميزة عليهم بتقواه وعبادته وإنما هو من يرحم الناس ويشفق على الخاطئين ويعذرهم في نفسه ويتقدم إليهم بالنصح كطبيب يعالج مريضاً وهل رأيت طبيباً يحتقر مريضاً أو يزدريه أو يترفع عليه؟ وصلى الله على معلم الناس الخير حين قال: "بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم"رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه

وثالث خطوات النصيحة: أن لا تحاكم الأمر الذي تريد إنكاره وتحكم عليه بالخطأ والانحراف من وجهة نظرك فحسب بل انظر إليه من وجهة نظر صاحبه أيضاً فقد يكون مجتهداً فيما اعتقد من رأي متحرياً الخير فيما سلك من سبيل فلا تسارع إلى الإنكار عليه ما دام من الممكن أن يكون له وجه من الخير ودليل من الرأي ومن قبيل هذا ما يقوله الفقهاء: من أن العمل أو الرأي إذا كان له تسعة وتسعون وجهاً تقتضي التكفير ووجه واحد لا يقتضي التكفير نأخذ بهذا الوجه الواحد ونمتنع عن تكفير صاحبه ومن هنا قرر العلماء أن من شروط النهي عن المنكر أن لا يكون محل اجتهاد وخلاف بين العلماء أو ألا يكون منكراً في نظر من يفعله فإن لم يتحقق فيه هذا الشرط لم يجز الإنكار وما ذلك إلا لأن إنساناً ما ليس من حقه أن يسيطر على رأي إنسان أو يزعم أن رأيه أصوب الآراء واجتهاده هو الحق الذي لا باطل معه

جعلني الله وإياكم من المتفقهين في أمور ديننا

هذا واستغفر الله لي ولكم

الخطبة الثانية

الحمدلله

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه و على آله و أصحابه وسلم .

أما بعد...

عباد الله: إكمالاً للموضوع فرابع خطوات النصيحة: إذا تأكدت من الخطأ والانحراف وليس هناك مجال لعذر أو شبهة وجب أن تتقدم بالنصيحة إلى من تنصحه سراً بينك وبينه لا أمام الناس ولا على ملأ من الأشهاد فإن النفس الإنسانية لا تقبل أن يطلع أحد على عيبها إنك إذا نصحت أخاك سراً بينك وبينه كان أرجى للقبول وأدل على الإخلاص وأبعد عن الشبهة وأما إذا نصحته علناً فإن في ذلك شبهة الحقد والتشهير وإظهار الفضل والعلم وهذه حجب تمنع من استماع النصيحة والاستفادة منها

ولقد كان من أدب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إنكار المنكر أنه إذا بلغه عن جماعة ما ينكر فعله لم يذكر أسماءهم علناً وإنما كان يقول "ما بال أقوام قالوا كذا و كذا...."رواه مسلم عن أنس رضي الله عنه فيفهم من يعنيه الأمر أنه هو المراد بهذه النصيحة وهذا من أرفع أساليب النصح والتربية يدلنا عليها المربي الأكبر محمد صلى الله عليه وسلم

قال رجل لعلي رضي الله عنه أمام جمهور من الناس يا أمير المؤمنين: إنك أخطأت في كذا وكذا وأنصحك بكذا وكذا فقال له علي: إذا نصحتني فانصحني بيني وبينك فإني لا آمن عليك ولا على نفسي حيث تنصحني علناً بين الناس

وقيل لمسعر: أتحب من يخبرك بعيوبك؟ فقال: إن نصحني فيما بيني وبينه فنعم وإن قرعني بين الملأ فلا

وهذا حق؛ فإن النصح في السر حب وشفقة والنصح في العلن انتقاص وفضيحة

ويقول الشافعي رحمه الله: من وعظ أخاه سراً فقد نصحه وزانه ومن وعظه علانية فقد فضحه وشانه

وخطب المنصور مرة يذكر الناس بطاعة الله ومجانبة معاصيه فقام إليه رجل فقال: أنت يا أمير المؤمنين أولى بأن تذكر بطاعة الله واجتناب معاصيه فاتق الله وحاذر غضبه فقال المنصور: والله ما أردت بهذه النصيحة وجه الله ولكن أردت أن يقال بين الناس قام إلى أمير المؤمنين فنصحه فهذا المنصور تنبه لخفايا النفس وشهواتها فإن الورع والزهد والنصيحة والجرأة في الحق قد يكون شهوة من شهوات النفس كما تشتهي النفس طيب الطعام وجيد اللباس

أما الذين يشهرون بعيوب الناس ويهتكون حرماتهم في المجالس بحجة النصح والجهر بالحق فذلك جهل بدين الله شائن وتلك هي الغيبة التي نهانا عنها الله ورسوله والنصيحة أن تذكِّر أخاك إذا أخطأ وتنصحه إذا انحرف والغيبة أن تذكره بما يكره وهو عنك غائب

إذا نصحت انساناً مرة بعد مرة واستمر في إثمه ومخازيه جاز لك أن تذكر الناس بما هو عليه للتحذير من إتباعه لا للتشهير به شخصياً فإن التشهير لا يجوز مهما كان الباعث على ذلك إن لك أن تنكر الفعل لا أن تشهر بالفاعل وقد علّمنا الله ذلك حين قال لرسوله صلى الله عليه وسلم "فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ"الشعراء:216 أن يتبرأ من عملهم لا منهم أنفسهم وليس هو إلا لكراهة التشهير بالناس تشهيراً يؤدي إلى العداوة والبغضاء ويزيد في الفرقة

فإذاً استوفيت هذه الخطوات ورأيت النصيحة واجبة كان عليك أن تؤديها برفق وحكمة وأسلوب لا ينفر من تنصحه ولا تبدو أنك متعال عليه معلم وإلى هذه الآداب أرشدنا الله بقوله "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ"النحل:125 ذلك أن النصيحة إذا خرجت عن الرفق واللين كانت غلظة وقسوة تنفر القلوب ولا تفتحها وتبعد الناس عن الخير ولا تقربهم إليه

فهذا حديث النصيحة يا عباد الله في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلى آدابها وشروطها بعد أن كثرت الخصومات وساءت التهم

جعلني الله وإياكم ممن يحسنون النصح

اللهم احفظ لنا ولي أمرنا و جنودنا على حدودنا .

اللهم اغفر لنا و لوالدينا و لوالد والدينا و لجميع المسلمين الأحياء منه و الميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.

وصلى الله على نبينا محمد

1435-3-18

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 4 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي