الحمد لله في الأولى والآخرة، أحمده وأشكره على نعمه الباطنة والظاهرة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد؛
قال تعالى: ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴾ [الإسراء 23].
عباد الله، لو لم يرد في دين الله عز وجل إلا الأمرُ ببر الوالدين، لكانت الفطرةُ البشريةُ داعيةً إلى البر بهما، وموجبةً ذلك لهما؛ قال الإمام ابن الجوزي (رحمه الله): غيرُ خافٍ على عاقلٍ لزومُ حقِّ المُنعم، ولا مُنْعمَ بعد الحق سبحانه على العبد كالوالدين؛ فقد حمَلَتِ الأم بحمله أثقالًا كثيرةً، ولقيت وقت وضعه مزعجاتٍ مثيرةً، وبالغت في تربيته وسهِرت على راحته ، وأعرضت عن كثير من شهواتها لأجله، وقدَّمته على نفسها في كل حال.
عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ: رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ " ثَلَاثًا. قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ - وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا - أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ" مَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حتى قلت: ليته سكت" . صحيح البخاري.
عباد الله؛ العقوق كبيرة لا يُخرج منها إلا بتوبة صادقة نصوح، وقد قرن الله الشرك بالعقوق فقال ابن عباس: في قوله تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ ﴾ [لقمان: 14]، " فمن شكر لله ولم يشكر لوالديه لا يقبل الله شكره". وقد بلغ من بر الفضل بن يحيى بأبيه أنهما كانا في السجن، وكان يحيى لا يتوضأ إلا بماء ساخن، فمنعهما السجان من إدخال الحطب في ليلة باردة، فلما نام يحيى قام الفضل إلى وعاء وملأه ماء، ثم أدناه من المصباح، ولم يزل قائما والوعاء في يده حتى أصبح.
عباد الله؛
إن شريعتنا الإسلامية المباركة لا تهمل الإحسان إلى الوالدين، ولو كانا كافرين، فضلًا عن الوالدين العاصيين ولقد حثنا القرآن العظيم بأسلوب رائع بليغ على بر الوالدين، وإن كانا مشركينِ؛ عسى أن تكون هذه المعاملة الطيبة سببًا في هدايتهما. قال الله عز وجل: ﴿ وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [لقمان: 15]. وأما ما جاء في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الحثِّ على بر الوالدين، فهو كثيرٌ، من ذلك: ما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف من أدرك والديه عند الكبر - أحدهما أو كلاهما - فلم يدخل الجنة"؛ أي: رغم أنف من أدرك والديه في سن الكبر، فلم يفعل معهما ما يوجب دخوله الجنة، بل عقهما وفعل معهما ما يوجب تعذيبه، وما يوجب سخط الله - تبارك وتعالى - وغضبه عليه. وروى الشيخانِ عن عبدالله بن مسعودٍ رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله، أي العمل أفضل؟ قال: "الصلاة على ميقاتها "،قلت: ثم أي؟ قال: "ثم برُّ الوالدينِ "، قلت: ثم أي؟ قال: "الجهاد في سبيل الله"؛ (رواه البخاري ومسلم).
هذا ، وأستغفر الله لي ولكم ، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله رب العالمين ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وبعد؛
أيها المؤمنون، إنه من مقاصد الإسلام العالية، وركائزه العظام السامية، نشرُ المحبة والألفة بين العباد، ونبذ التخاصم والتدابر والأحقاد، قال الله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا ﴾ [آل عمران: 103]. وقال تعالى واصفًا حالَ المؤمنين السابقين: ﴿ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [الحشر: 10]. وعن النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مثلُ المؤمنين في تَوادِّهم، وتَرَاحُمِهِم، وتعاطُفِهِمْ. مثلُ الجسَدِ إذا اشتكَى منْهُ عضوٌ تدَاعَى لَهُ سائِرُ الجسَدِ بالسَّهَرِ والْحُمَّى " صحيح الجامع للألباني . فهذه النصوص - وغيرها كثير - تدلنا على أن الألفة والمحبة بين المؤمنين من أعظم مقاصد هذا الدين، وأنها نعمة كبرى، ومِنَّة عظمى، تستحق شكرها والتواصي بها، وبذل الجهود من أجلها، لا سيما ونحن في زمن تقطَّعت فيه أواصر العلاقات، وتأجَّجت فيه نيران العداوات والخصومات. وعملًا بهذا المقصد العظيم والأصل المتين، أمرت الشريعة بصلة الأرحام، ونهت عن القطيعة والخصام.
عباد الله، إن صلة الرحم من أوجب الواجبات، وأعظم الطاعات والقربات، ومن أجلِّ العبادات والأعمال الصالحات، وهي في أبسط معانيها، وأوضح معالمها: إيصال النفع والخير لذوي القربى، ودفع الشر والأذى عنهم.
اللهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِكْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ الأَكْرَمِينَ. اللهم ألبسنا لباس التقوى، وألزمنا كلمة التقوى، واجعلنا من أولي النُّهى، وأدخلنا جنة المأوى، واجعلنا ممَّن بر والتقى، وصدَّق بالحسنى، ونهى النفس عن الهوى، واجعلنا ممَّن يسَّرتَه لليسرى، وجنَّبتَه العسرى، واجعلنا ممَّن يتذكر فتنفعه الذكرى، اللهم اجعل سعينا مشكورًا، وذنبنا مغفورًا.اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لما فيه مصلحة البلاد والعباد ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.