الحمد لله الذي بيده ملكوت السماوات والأرض، يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الظالمين، ويفعل ما يشاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عبد الله حق عبادته، ودعا الناس إلى عبادة الله وحده ببصيرة حتى أتاه اليقين، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، وجميع من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون؛ إن من نعم الله علينا أن شرّع لنا عبادات ومناسبات إسلامية كريمة تحرك الشعور الإسلامي في أهله، فتزيد في طاعتهم وإقبالهم على ربهم، مناسبات تتوالى عليهم كثيراً فيعظمونها؛ فيخرج من عظمها منهم بطهر وصفاء ونقاء كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وتلكم المناسبات كثيرة وعديدة في الإسلام، كالصلوات مثلاً، والزكاة والصوم، والحج وغير ذلك من شعائر الإسلام مما يمر في السنة مرة، مثلاً كصوم رمضان والحج والأضحية، وصوم يوم عرفة لغير الحاج ويوم عاشورا أو في الأسبوع مرة كالجمعة، أو يتكرر في اليوم والليلة كالصلوات الخمس، وما إلى ذلك من شعائر الإسلام الظاهرة المتنوعة التي تتعاهد المسلمين بين حين وآخر.
وإنه ليجدر بالمسلم الذي أنعم الله عليه بالإسلام، وإدراك شيء من مناسباته الفاضلة، أن يستشعر أنها شرعت لحكم ومصالح، منها صقله وتنبيهه وتذكيره، ففي هذه الأيام تمر بنا مشروعية التكبير علناً بعد صلاة الفريضة ، ولدى ذبح النسك من هدي أو أضحية بمدلول ما نلفظ به كثيراً في صلواتنا وغيرها من قول: الله أكبر، لتذكرنا بأن الله أكبر من كل شيء، أكبر من الملوك، من المصالح، من المناصب، من الدنيا جميعها
وتمر مناسبة الأضحية، وما يشرع عند ذبحها من قول:{ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162-163]. ومشروعية هذا القول عند ذبح النسك لها مغزاها وما تومي إليه، فهي أشبه بالعهد الذي يقطعه المسلم مع ربه، وهو يدخل في عبادته ونسكه، مرت بنا مناسبة الحج ودخل فيه من دخل، ومر فيه بحالات ومواقف كلها عبر فمن بدايته بالتحرر من المخيط للإحرام، وإعلانه بعده للتجرد من كل ما سوى الله بإهلاله بالتوحيد، إلى نهاية قضاء مناسكه
فيا أيها المسلمون: يا من تصلون وتزكون وتصومون وتحجون وتولون وجوهكم نحو ربكم وتسلمونها له، إن الخير كل الخير والطهر كل الطهر، بل والدين كل الدين، أن يصلي أحدنا وترى آثار صلاته عليه { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ}[العنكبوت:45]. وأن يزكي أحدنا وترى آثار زكاته عليه {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103]. وأن يصوم أحدنا وترى آثار صيامه عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]. وأن يحج أحدنا وترى آثار حجه عليه، بلزوم الحاج للعهد الكريم والمسلك القويم الذي كان عليه في الحج:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96].
فاتّقوا الله أيها المسلمون واغتنموا ما يمر بكم من مناسبات فاضلة، وسارعوا فيها إلى مغفرة من ربكم ورضوان، وإذا خرجتم منها فاخرجوا خروج الغانم الكاسب المغتبط بما أوتيه من توفيق لطاعة الله فيها، ولزوم العهد الذي كان عليه فيها من فعل الفضائل برغب واجتناب الرذائل برهب
فالمسلم الحق ما يكاد يخرج من طاعة إلا ويدخل في طاعة أخرى، محياه ومماته لربه تعالى، إن تحرك فبالإسلام، وإن عمل فا للإسلام، وهذه هي الحياة الطيبة، حياة الأنبياء وأتباع الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم حياة من وعدوا بقول صادق الوعد:{ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ.} [النحل:97].
نسألك اللهم أن تثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تجعل آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، ونستغفرك اللهم ونتوب إليك
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على آلائه ، والصلاة والسلام على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
أما بعد
عباد الله: اتقوا الله واعلموا أنه يجب أن يدأب المسلم على مسلك التقوى ونهج السداد لا أن يكون تنسكه وطاعته لله في فترة معينة وظرف خاص أو حسب المزاج أو لحاجة يرجوا قضاءها فإذا ظفر بمطلبه نكص على عقبه وعمل بمعصية ربه وذلك ما أشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة" (صححه الأرناؤوط). فببركة استقامة العبد على الطاعة وتوثيق صلته بربه في حالة رخائه وصفائه وصحته ونعمائه يكون الله له عوناً في شدائده منقذاً له في حال كربه وبلائه كما أنقذ ذا النون عليه السلام وقال عنه: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنه إِلَى يَوْم يُبْعَثُونَ} [الصافات:143-144]. وقال أيضاً: {وَنَجَّيْنَاهُ مِنْ الْغَمّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ}.[الأنبياء:88].
هذا، وصلوا على نبيكم كما أمركم الله بذلك  في محكم كتابه بقوله:{ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب56]، وقال صلى الله عليه وسلم :"مَن صَلَّى عَلَيَّ واحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عليه عَشْرًا."  (رواه مسلم) ، اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد ، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهديين: أبي بكر ، وعمر وعثمان، وعليّ، وعن الصحابة أجمعين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم وفق ولي أمرنا وولي عهده لما تحب وترضى، {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }[البقرة 201] ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
1435-3-19 هـ