الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد؛
قوله: "ويجب اجتناب كذب وغيبة وشتم".
يجب على الصائم اجتناب الكذب والغيبة والشتم، بل يجب على الصائم وغيره أن يتجنب هذه الأشياء ولكنهم ذكروا هذا من باب التوكيد؛ لأنه يتأكد على الصائم من فعل الواجبات وترك المحرمات ما لا يتأكد على غيره، ودليل ذلك قوله تعالى:"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ "(البقرة: 183).
هذه هي الحكمة من فرض الصيام؛ أن يكون وسيلة لتقوى الله عز وجل، بفعل الواجبات وترك المحرمات، والدليل من السنة قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" أخرجه البخاري.
أي لم يرد الله منا بالصوم أن نترك الطعام والشراب لأنه لو كان هذا مراد الله لكان يقتضي أن الله يريد أن يعذبنا والله تعالى يقول "مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا"[ النساء: 147]
إنما يريد منا الله عز وجل أن نتقي الله لقوله :"لعلكم تتقون".
قوله:"وسن لمن شُتِمَ قولُه: إني صائم، وتأخير سحور، وتعجيل فطر على رطب فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء، وقول ما ورد".
وسن لمن شتمه قوله:" إني صائم" أي إن شتمه أحد أي ذكره بعيب أمامه وهو بمعنى السبّ وكذلك لو فعل معه ما هو أكبر من المشاتمة بأن يقاتله أي يتماسك معه يسن له أن يقول إني صائم، وذلك لفائدتين:
الفائدة الأولى: بيان أن المشتوم لم يترك مقابلة الشاتم إلا لكونه صائماً لا لعجزه عن المقابلة لأنه لو تركه عجزاً عن المقابلة لاستهانه به الآخر وصار في ذلك ذل له، فإذا قال: إني صائم كأنه يقول أنا لا أعجز عن مقابلتك وأن أبين من عيوبك أكثر مما بينت من عيوبي لكني امرؤ صائم.
الفائدة الثانية: تذكير هذا الرجل بأن الصائم لا يشاتم أحداً وربما يكون هذا الشاتم صائماً كما لو كان ذلك في رمضان وكلاهما في الحظر حتى يكون قوله هذا متضمناً لنهيه عن الشتم وهو منكر.
قوله:"... وتأخير سحور وتعجيل فطر".
ويسن تأخير السُحور بالضم فالسحور سنة ينبغي تأخيره اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وترقباً للخيرية التي قال فيها الرسول صلى الله عليه وسلم" لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطور" أخرجه البخاري ، ففيه سنة قولية وسنة فعلية ورفقاً بالنفس لأنه إذا أخر السحور قلت المدة التي يمسك فيها وإذا عجل فإنها تطول بحسب تعجيل السحور وتأخيره ولكن يؤخره ما لم يخش طلوع الفجر فإن خشي طلوع الفجر فليبادر فمثلاً إذا كان يكفيه ربع ساعة في السحور فيتسحر إذا بقي ربع ساعة وإذا كان يكفيه خمس دقائق يتسحر إذا بقي خمس دقائق أي يكون مابين ابتدائه إلى انتهائه كما بينه وبين وقت الفجر والدليل على هذا:" أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤخر السحور حتى إنه لم يكن بين سحوره وبين إقامة الصلاة إلا نحو خمسين آية " أخرجه البخاري.
ويقدرون بالآيات؛ لأنه لم تكن ساعات في ذلك الوقت.
والسنة تعجيل الفطر أي المبادرة به إذا غربت الشمس فالمعتبر غروب الشمس لا الأذان لا سيما في الوقت الحاضر حيث يعتمد الناس على التقويم ثم يربطون التقويم بساعاتهم وساعاتهم قد تتغير بتقديم أو تأخير فلو غربت الشمس وأنت تشاهدها والناس لم يؤذنوا بعد فلك أن تفطر لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال :" إذا أقبل الليل من هاهنا وأشار إلى المشرق وأدبر النهار من هاهنا وأشار إلى المغرب وغربت الشمس فقد أفطر الصائم . أخرجه البخاري
ولا عبرة بالنور القوي فبعض الناس يقول نبقى حتى يغيب القرص ويبدأ الظلام بعض الشيء فلا عبرة بهذا بل انظر إلى هذا القرص متى غاب أعلاه فقد غربت الشمس وسن الفطر.
ودليل سنية المبادرة قوله صلى الله عليه وسلم:" لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر ". أخرجه البخاري، وبهذا نعرف أن الذين يؤخرون الفطر إلى أن تشتبك النجوم كالرافضة أنهم ليسوا بخير ولك أن تفطر على غلبة الظن ودليل ذلك ما ثبت في صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت:" أفطرنا في يوم غيم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس " أخرجه البخاري، ومعلوم أنهم لم يفطروا عن علم لأنهم لو أفطروا عن علم ما طلعت الشمس لكنهم أفطروا بناء على غلبة الظن أنها غابت ثم انجلى الغيم فطلعت الشمس.
قوله:"... على رطب، فإن عدم فتمر، فإن عدم فماء، وقول ما ورد".
ويسن أن يفطر على تمر فإن عدم التمر فالماء، فعن أنسِ بنِ مالِكٍ قالَ: " كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ يُفطِرُ علَى رُطَباتٍ قبلَ أن يصلِّيَ فإن لم تكن رُطَباتٌ فعلى تَمراتٍ فإن لم تَكُن حَسا حَسَواتٍ مِن ماءٍ "، (صحيح أبي داود للألباني) فإن لم يجد ماء ولا شراباً آخر ولا طعاماً ينوي الفطر بقلبه ويكفي.
ويجب على الإنسان إذا أراد أن يأكل أن يسمي والدليل على ذلك حديث عمر بن أبي سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له:" سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك ". أخرجه البخاري
وأيضاً إخباره صلى الله عليه وسلم:" أن الشيطان يأكل مع الإنسان إذا لم يسم وإمساكه بيد الجارية والأعرابي حين جاءا ليأكلاً قبل أن يسميا وأخبر أن الشيطان دفعهما وأن يد الشيطان مع يديهما بيد النبي صلى الله عليه وسلم ليأكل من الطعام . أخرجه مسلم ، ولكنه لو نسي فإنه يسمي إذا ذكر.
قوله:"...، وقول ما ورد".
يقول: بسم الله أوله وآخره ، لقوله صلى الله عليه وسلم، "فإن نَسِيَ أن يقولَ بسمِ اللَّهِ في أوَّلِهِ فليقُلْ بسمِ اللَّهِ في أوَّلِهِ وآخرِهِ " صحيح ابن ماجه للألباني، كذلك أيضاً مما ورد الحمد عند الانتهاء؛ لقوله صلى الله عليه وسلم :" إنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ العَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا." صحيح مسلم.
ومنها إذا كان اليوم حاراً وشرب فإنه يقول: " ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله "، أخرجه أبو داود وحسنه الألباني في الإرواء فهذا مما يسن.
قوله:"ويستحب القضاء متتابعا ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر فإن فعل فعليه مع القضاء، إطعامُ مسكينٍ لكل يومٍ، وإن مات ولو بعد رمضان آخَرَ، وإن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف أو صلاة نذر استحب لوليه قضاؤه ".
ويستحب في القضاء التتابع، أي لا يفطر بين أيام الصيام؛ وذلك لثلاثة أوجه:
أولاً: أن هذا أقرب إلى مشابهة الأداء لأن الأداء متتابع
ثانياً: أنه أسرع في إبراء الذمة فإنك إذا صمت يوماً وأفطرت يوماً تأخر القضاء فإذا تابعت صار ذلك أسرع في إبراء الذمة
ثالثاً: أنه أحوط لأن الإنسان لا يدري ما يحدث له قد يكون اليوم حياً وغداً ميتاً فلهذا كان الأفضل أن يكون القضاء متتابعاً
وينبغي أيضاً أن يبادر به بعد العيد فيشرع فيه أي في اليوم الثاني من شوال ما لم يتعارض مع المناسبات أو يكون في حرج أثناء استقبال الزوار.
قوله:" ... ولا يجوز إلى رمضان آخر من غير عذر فإن فعل فعليه مع القضاء إطعام مسكين لكل يوم"
ولا يجوز تأخير القضاء إلى رمضان آخر من غير عذر، لكن لو أخره لعذر فإنه جائز مثل أن يكون مسافراً فيستمر به السفر أو مريضاً فيستمر به المرض أو حاملاً ويستمر بها الحمل ويزيد عن تسعة أشهر، أو مرضعاً تحتاج إلى الإفطار كل السنة لأنه إذا جاز أن يفطر في رمضان وهو أداء ففي جواز الإفطار في أيام القضاء من باب أولى.
ويجوز التطوع قبل القضاء ما لم يضق الوقت فما دام الوقت موسعاً فإنه يجوز أن يتنفل كما لو تنفل قبل أن يصلي فمثلاً الظهر يدخل وقتها من الزوال وينتهي إذا صار ظل كل شيء مثله فله أن يؤخرها إلى آخر الوقت وفي هذه المدة يجوز له أن يتنفل لأن الوقت موسع.
وهنا مسألة ينبغي التنبيه لها : وهي أن الأيام الستة من شوال لا تقدم على قضاء رمضان فلو قدمت صارت نفلاً مطلقاً ولم يحصل على ثوابها الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم :" من صام رمضان ثم اتبعه بست من شوال كان كصيام الدهر." أخرجه مسلم ، وذلك لأن الحديث من صام رمضان.
ومن كان عليه قضاء فإنه لا يصدق عليه أنه صام رمضان. لأنه لا ستة إلا بعد قضاء رمضان
والدليل على جواز التأخير قوله تعالى :" فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ " (البقر: 184) أما الدليل على أنه لا يؤخر إلى ما بعد رمضان الثاني حديث عائشة رضي الله عنها قالت :" كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضيه إلا في شعبان " أخرجه البخاري.
ومن أخره إلى ما بعد رمضان الثاني كان آثماً مع وجوب القضاء لأنه دين في ذمته لم يقضه فلزمه قضاؤه وتلزمه كفارة بالتأخير.
قوله:"... ، وإن مات ولو بعد رمضان آخر، وإن مات وعليه صوم أو حج أو اعتكاف أو صلاة نذر استحب لوليه قضاؤه".
من مات وعليه القضاء بعد أن أخره إلى بعد رمضان آخر فعلى وليه إطعام مسكين؛ لأن القضاء تعذر في حقه.
مسألة:
إذا مر رمضان على إنسان مريض ففيه تفصيل:
أولاً: إن كان يرجى زواله بقي الصوم واجباً عليه حتى يشفى، لكن لو استمر به المرض حتى مات فهذا لا شيء عليه؛ لأن الواجب عليه القضاء ولم يدركه مثاله: إنسان أصيب في رمضان بزكام في العشر الأواخر من رمضان مثلاً والزكام مما يرجى زواله لكن تضاعف به المرض حتى مات فهذا ليس عليه قضاء لأن الواجب عليه عدة من أيام أخر فلم يتمكن من ذلك فصار كالذي مات قبل أن يدركه رمضان فليس عليه شيء.
الثاني: أن يرجى زواله ثم عوفي ولم يصم ثم مات قبل أن يقضي فهذا يطعم عن كل يوم مسكين بعد موته أو يصام عنه لأنه مفرط.
الثالث: أن يكون المرض الذي أصابه لا يرجى زواله فهذا عليه الإطعام؛ لأن من أفطر لعذر لا يرجى زواله فالواجب عليه إطعام مسكين عن كل يوم كالكبر ومرض السرطان وغيره من الأمراض التي لا يرجى زوالها ولو فرض أن الله عافاه والله على كل شيء قدير فلا يلزمه أن يصوم لأن الرجل يجب عليه الإطعام وقد أطعم فبرئت ذمته وسقط عنه الصيام، ومن مات وعليه صوم نذراً استحب لوليه قضاؤه ولا يجب وإنما يستحب أن يقضيه لما يلي أولاً:
قول النبي صلى الله عليه وسلم :" من مات وعليه صيام صام عنه وليه" . أخرجه البخاري عن عائشة.
ثانياً: حديث ابن عباس رضي الله عنه قال : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأ صوم عنها ؟ قال أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها ؟ قالت نعم قال فصومي عن أمك ." أخرجه مسلم ، فلو قال قائل حديث عائشة "صام عنه وليه" ، أمر فما الذي صرفه عن الوجوب ؟ الجواب : صرفه عن الوجوب قوله تعالى ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) [فاطر:18] .
ولو قلنا بوجوب قضاء الصوم عن الميت لزم من عدم قضائه أن تحمل وازرة وزر أخرى وهذا خلاف القرآن إذا يستحب لوليه أن يقضيه فإن لم يفعل قلنا أطعم عن كل يوم مسكينا قياساً على صومه الفريضة وعلى هذا فالحج يقضى فرضاً كان أو نذراً والصوم يقضى إن كان نذراً والصلاة لا تقض.
وبالله التوفيق
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.