الدرس الرابع والثمانون: باب الاعتكاف

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 30 جمادى الأولى 1434هـ | عدد الزيارات: 1652 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

الاعتكاف مأخوذ من عكف على الشيء وأصله لزوم الشيء والمداومة عليه ومنه قول إبراهيم عليه السلام لقومه : " ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون " سورة الأنبياء آية 52

أي لها ملازمون وقول الله تعالى " يعكفون على أصنام لهم " أي يلازمونها ويداومون عليها

وفي الشرع لزوم مسجد لطاعة الله ولو أعتكف في بيته وقال لا أخرج إلى الناس فأفتتن بالدنيا ولكن أبقى في بيتي معتكفاً فهذا ليس إعتكافاً شرعياً بل يسمى هذا عزلة ولا يسمى إعتكافاً

وهل العزلة عن الناس أفضل أم لا

الجواب : في هذا تفصيل

أولاً: من كان اجتماعه بالناس خير فترك العزلة أولى

ثانياً: من لا يؤثر اختلاطه بالناس فبقاؤه في بيته خير

ثالثاً: من كان سريع الافتتان يخشى على نفسه من الفتنة فبقاؤه في بيته خير

والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم ولو أن قوماً في عمارة ولها مصلى وليس بمسجد فإن لزوم هذا المصلى لا يعتبر اعتكاف والدليل على ذلك قوله تعالى :" ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد " سورة البقرة آية 187

فجعل محل الاعتكاف المسجد

فالاعتكاف هو لزوم مسجد لطاعة الله تعالى فاللام هنا للتعليل أي أنه لزمه لطاعة الله لا للانعزال عن الناس ولا من أجل أن يأتيه أصحابه ورفقاؤه يتحدثون عنده بل للتفرغ لطاعة الله عز وجل والاعتكاف عام في كل مسجد لكن في المساجد الثلاثة أفضل وهي المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى كما أن الصلاة في المساجد الثلاثة أفضل

والاعتكاف مسنون وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع

أما الكتاب فقول الله تعالى لإبراهيم عليه السلام :" أن طهر بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود " سورة البقرة ’آية 125 ، ومن هذه الآية نعرف أن الاعتكاف مشروع حتى في الأمم السابقة وقال تعالى " ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد

وأما السنة فواضحة مشهورة مستفيضة أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتكف واعتكف أصحابه معه واعتكف أزواجه من بعده. أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها

والرسول صلى الله عليه وسلم لم يعتكف في غير رمضان إلا قضاء وكذلك ما علمنا أن أحداً من أصحابه اعتكفوا في غير رمضان إلا قضاء لكن لما استفتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأنه نذر أن يعتكف ليلة أو يوماً في المسجد الحرام قال أوف بنذرك " متفق عليه

لكن لم يشرع ذلك لأمته شرعاً عاماً بحيث يقال للناس اعتكفوا في المساجد في رمضان وفي غير رمضان فإن ذلك سنة

فالذي يظهر لي أن الإنسان لو اعتكف في غير رمضان فإنه لا ينكر عليه بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لعمر بن الخطاب أن يوفي بنذره ولو كان هذا النذر مكروهاً أو حراماً لم يأذن له بوفاء نذره لكننا لا نطلب من كل واحد أن يعتكف في كل وقت بل نقول خير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الاعتكاف في غير رمضان بل وفي غير العشر الأواخر منه مزية أجر لبينه للأمة لأنه قد قيل له " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك فإن لم تفعل فما بلغت رسالته " سورة المائدة آية 67

وانظر في حديث أبي سعيد اعتكف الرسول صلى الله عليه وسلم العشر الأول ثم الأوسط ثم قيل له إن ليلة القدر في العشر الأواخر فاعتكف العشر الأواخر . متفق عليه

ولم يعتكف السنة الثانية العشر الأول ولا الأوسط مع أنه كان زمناً للاعتكاف من قبل والشهر شهر اعتكاف

وعلى هذا فإنه لا يسن الاعتكاف أي لا يطلب من الناس أن يعتكفوا إلا في العشر الأواخر فقط لكن من تطوع وأراد أن يعتكف في غير ذلك فإنه استئناساً بحديث عمر لا ننهاه عن ذلك ولا نقول إن فعله بدعة لكن نقول الأفضل أن تقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم وتعتكف في العشر الأواخر من رمضان ولحديث عمر نظائر منها

أولاً: الرجل الذي كان يقرأ بأصحابه فيختم بقل هو الله أحد لم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم . رواه البخاري معلقاً على الجزم لكنه لم يشرع ذلك لأمته فلا يشرع للإنسان كلما قرأ في صلاة أن يختم بقل هو الله أحد فعل هذا الرجل

ولا يشترط للاعتكاف الصوم لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه الآنف الذكر حيث نذر أن يعتكف وهذا بغير صوم ثم إنهما عبادتان منفصلتان فلا يشترط للواحدة وجود الأخرى

لكن ما الفائدة من قولنا يصح بلا صوم وقد قلنا ليس مشروعاً إلا في رمضان في العشر الأواخر ؟

الجواب الفائدة لو كان الإنسان مريضاً يباح له الفطر ولكن أحب أن يعتكف فلا بأس لكونه مسنوناً يصح بلا صوم

والصوم والاعتكاف يلزمان بالنذر فمن نذر أن يصوم يوماً لزمه ومن نذر أن يعتكف يوماً لزمه ومن نذر أن يصوم معتكفاً لزمه ومن نذر أن يعتكف صائماً لزمه ولكن هناك فرق بين الصورتين الأخيرتين الأولى من نذر أن يصوم معتكفاً لزمه أن يعتكف من قبل الفجر إلى الغروب لأنه نذر أن يصوم معتكفاً فلا بد أن يستغرق الاعتكاف كل اليوم

الثانية من نذر أن يعتكف صائماً فإنه يعتكف ولو في أثناء النهار ولو ساعة من النهار لأنه يصدق عليه أنه اعتكف صائماً

والدليل على وجوبهما قوله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله فليطعه " والصوم طاعة والاعتكاف طاعة لكن أحياناً يراد بنذر الطاعة واحد من هذه الأربعة الامتناع أو الإقدام أو التصديق أو التكذيب فهل يجب الوفاء بها

يقول علماؤنا لا يجب الوفاء بل يخير بين الوفاء وكفارة اليمين

مثاله : قال إن كلمت فلاناً فالله علي أن أصوم أسبوعاً ومراده الامتناع ولم يرد الطاعة لكنه رأى أنه لا يتأكد الامتناع إلا إذا ألزم نفسه بهذا النذر قال أهل العلم هذا حكمه حكم اليمين بمعنى أنه إن شاء صام هذا الأسبوع وإن شاء كفر عن يمينه لقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرء ما نوى " وكذلك لو قصد الحث فقال إن لم أكلم فلاناً اليوم فالله علي نذر أن أصوم عشرة أيام قصد بهذا الحث على تكليمه فإذا مر اليوم ولم يكلمه قلنا له أنت مخير إن شئت فصم عشرة أيام وإن شئت فكفر عن يمينك

ولا يصح الاعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الجماعة أي لا يكون هذا المسجد قد هجره أهله أو نزحوا عنه إلا إذا كان اعتكافه ما بين الصلاتين

إلا المرأة فيجوز أن تعتكف في مسجد لا تقام فيه صلاة الجماعة ما لم يكن في اعتكافها فتنة فإن كان في اعتكافها فتنة فإنها لا تمكن من هذا لأن المستحب إذا ترتب عليه الممنوع وجب أن يمنع كالمباح إذا ترتب عليه الممنوع وجب أن يمنع

فلو فرضنا أنها إذا اعتكفت في المسجد صار هناك فتنة كما يوجد في المسجد الحرام فالمسجد الحرام ليس فيه مكان خاص للنساء وإذا اعتكفت المرأة فلا بد أن تنام إما ليلاً وإما نهاراً ونومها بين الرجال ذاهبين وقادمين فيه فتنة لكن إذا لم يكن فتنة فإنه يصح أن تعتكف والدليل على هذا اعتكاف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم في حياته وبعد مماته . أخرجه البخاري ومسلم

لكن إن خيف فتنة فإنها تمنع لأن النبي صلى الله عليه وسلم منع فيما دون ذلك فلما أراد أن يعتكف صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وإذا خباء لعائشة وخباء لفلانة وخباء لفلانة فقال صلى الله عليه وسلم :" آلبر يردن " ثم أمر بنقضها ولم يعتكف تلك السنة وقضاه في شوال . أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله عنها

وهذا يدل على أن اعتكاف المرأة إذا كان يحصل فيه فتنة فإنها تمنع لكن لو اعتكفت في مسجد لا تقام فيه الجماعة فلا حرج عليها لأنه لا يجب عليها أن تصلي مع الجماعة وعلى هذا فاعتكافها لا يحصل فيه ما ينا فيه ولكن قد يقال كيف في مسجد لا تصلي فيه الجماعة أليس في هذا فتنة

الجواب : ربما يكون وربما لا يكون قد يكون المسجد هذا محرزاً محفوظاً لا يدخله أحد ولا يخشى على النساء فتنة على اعتكافهن فيه وقد يكون الأمر بالعكس فالمدار أنه متى حصلت الفتنة منع من اعتكاف النساء

ولو اعتكف إنسان معذور بمرض أو بغيره مما يبيح له ترك الجماعة في مسجد لا تقام فيه الجماعة فلا بأس

وبالله التوفيق

وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1434-5 -29

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر