الدرس 162: باب الرهن

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 6 جمادى الأولى 1439هـ | عدد الزيارات: 1395 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

الرهن: مصدر رهن يرهن رهنا
وهو في اللغة: الحبس، ويطلق على الثبوت، ففي الحبس قوله تعالى (كل نفس بما كسبت رهينة) المدثر، أي: محبوسة بما كسبت، وقوله تعالى (كل امرىء بما كسب رهين) الطور، أي: محبوس

وأما الثبوت فمنه قولهم: ماء راهن، أي: ثابت

وأما في الاصطلاح: فهو توثقة دين بعين يمكن استيفاؤه أو بعضه منها أو من بعضها

مثاله: إنسان في ذمته لك عشرة آلاف ريال، فأعطاك ما قيمته عشرون ألف ريال رهنا بالدين، فهنا يمكن استيفاء الدين من بعض الرهن

مثال آخر: رجل في ذمته لك عشرة آلاف ريال، وأعطاك رهنا يساوي خمسة آلاف ريال، فهذا يمكن استيفاء بعضه منها، فالكل جائز، لأنه توثقة

فهو توثقة دين بعين، إذ لا بد أن يكون الرهن عينا، لأن الاستيفاء الكامل لا يكون إلا بالعين، فإن كان منافع أو ديناً فإنه لا يصح على كلام الفقهاء

مثال الرهن بالمنافع، أن يقول: رهنتك منافع هذا البيت، فإنه لا يصح لأنه ليس بعين، فإن قال: البيت وقف لا يمكن بيعه، سأرهنه المنافع، فعلى قول المؤلف: لا يصح رهن المنافع

مثال الدَّين: أنا أطلب فلاناً مئة ألف ريال فقلت له: أعطني مئة ألف ريال، فقال: ما عندي، فقلت له: في ذمةفلان لك مئة ألف ريال، اجعل دينه الذي لك رهناً لي، فهنا توثقة دين بدين فلا يصح، لأن الدين الذي في ذمة الآخر لا يجوز بيعه إلا على من هو عليه، وإلا فلا، هذا على قول المؤلف رحمه الله

والقول الثاني: يصح أن يوثق الدين بالمنافع، لأن المقصود التوثقة، ويكون المدين الثاني كأنه ضامن، فيقول: مستعد أن أوفيك ما في ذمتي لفلان إذا لم يوفك
وهذا هو الصحيح، فقد يكون رجائك لحصولك على الدين من ذمة فلان أقوى من رجائك لحصوله من الأصل، فمثلاً بعت على فلان هذا الشيء بخمسين ألف ريال، وهو معسر لكن له دين على فلان الموسر فرهنه إياك، فقد استفدت من هذا الرهن أنه إذا حل الأجل ولم يوفك، تذهب إلى فلان وهو موسر فبكل سهولة يعطيك هذا الدين

وأما المنافع فكذلك أيضا، فإنه إذا رهنه منفعة هذا الدكان فيؤجره ويأخذ الأجرة رهنا، فهو من باب التوثقة، لأنه إن حصل على شيء وإلا رجع على الأصل الذي رهنه هذا الشيء، والقاعدة (أن الأصل في المعاملات الحل والصحة ما لم يوجد دليل على التحريم والفساد)

والرهن من عقود التوثقات، وعقود التوثقة ثلاثة أشياء: الشهادة والرهن والضمان ومنه الكفالة أيضا، وكلها في القرآن، أما الشهادة فقول الله تعالى (وأشهدوا إذا تبايعتم) البقرة: 282، وأما الرهن فقوله (فرهان مقبوضة) البقرة: 283، وأما الضمان والكفالة فقوله (ولمن جاء به حمل بعير وأنا به زعيم) يوسف: 72، أي كفيل وضامن، فهذه الأمور الثلاثة يكون بها توثق صاحب الحق لحقه، فمن التفريط أن تتعامل مع شخص بدون شهادة ولا رهن ولا ضمان

قوله (يصح في كل عين يجوز بيعها) الأصل في الرهن الصحة، لقوله تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) البقرة: 283

ولقول النبي صلى الله عليه وسلم (الظهر يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدَّر يُشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يَركب ويشرب النفقة) أخرجه البخاري عن أبي هريرة

وأما الفعل فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند يهودي. أخرجه البخاري عن عائشة

والإجماع منعقد على هذا، والنظر والقياس يقتضي ذلك، لأن الناس محتاجون إلى أن تمشي معاملاتهم فيستفيد الراهن والمرتَهن، وكل شيء يتضمن مصلحة بدون مفسدة راجحة فإن القياس يقتضي حله وجوازه

وقوله (يصح في كل عين) أفاد حكم الرهن وأنه يجوز فليس بواجب ولا مستحب ولا حرام، ويجوز في الحضر والسفر، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي في المدينة، وأما قوله تعالى (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتباً فرهان مقبوضة) البقرة: 283، فلأن الحاجة هنا تدعو إلى الرهن أكثر مما إذا كان في الحضر ووجد كاتباً، لأنه إذا كان في الحضر ووجد كاتبا يوثق حقَه، فإذا كان على سفر ولم يجد كاتباً فإنه يحتاج إلى الرهن أكثر

وقوله (يصح في كل عين يجوز بيعها) فما لا يصح بيعه لا يصح رهنه، إلا من رهن الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه، فإنه يجوز رهنه مع أن بيعه في هذه الحال غير جائز

إذا القاعدة (كل عين يجوز بيعها يجوز رهنها وما لا فلا)

المثال الأول: إنسان أراد أن يستدين، فقال له الدائن: لا أدينك إلا إذا رهنتني ابنك، فلا يصح، لأن الابن لا يصح بيعه

المثال الثاني: إنسان عنده ماشية وله كلب يحرس هذه الماشية، فجاء إلى إنسان وقال: أريد أن تقرضني ألف ريال، فقال له المقرض: لا أقرضك إلا برهن، فقال: أرهنك كلبي، فهذا لا يصح، لأن الكلب لا يصح بيعه

المثال الثالث: إنسان عنده بيت موقوف عليه، فأراد أن يستدين من آخر، فقال: لا بد من رهن، قال: أرهنك بيتي هذا، فلا يجوز، لأنه لا يصح بيعه وما لا يصح بيعه لا يصح رهنه

المثال الرابع: شخص طلب من آخر قرضا، فقال: أريد منك رهنا، قال: أرهنك بيتي، وهو مرهون لشخص آخر، فلا يصح، لأنه لا يصح بيعه

قوله (حتى المكاتَب) وهو العبد الذي اشترى نفسه من سيده بثمن مؤجل بأجلين فأكثر، والكتابة مطلوبة شرعاً، لقول الله تعالى (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا) النور: 33

فهذا الرجل له مكاتَب، يعني له عبد اشترى نفسه منه، وأراد أن يرهنه فإنه يجوز رهنه، لأن المكاتب يصح بيعه، ولأن المرتهن سينتفع بهذا الرهن، لأن هذا المكاتب إن عَجز عاد رقيقا وأمكنه بيعه، وإن قدر فإن كسبه في هذه المدة يكون رهنا

قوله (مع الحق) أي: يصح الرهن مع الحق، أي: مع الدين

مثاله: قال: بعتك هذا البيت بمليون، على أن ترهنني بيتك الثاني فقال: قبلت، فهنا الرهن مع الحق، فيجوز، لأنه صادف ثبوت شيء في ذمة الراهن فصح

قوله (وبعده) أي: بعد الحق، مثاله: رجل أقرض شخصا مئة ألف، ثم جاء يطلبه فقال: أعطني مئة ألف ريال، لأني أقرضتك بدون تأجيل، قال: ليس عندي، قال: إذاً أَرهِني بيتك، قال: رهنتك إياه، فهذا يصح، وهذا بعد الحق لقول الله تعالى (يا أيها الذين ءامنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى) إلى قوله (وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة) البقرة: 282، 283

فدل على أن الرهن يكون بعد الحق، لا قبله، كما قال المؤلف

مثاله: إنسان جاء يطلب منك قرضاً بمئة ألف ريال، وقلت له: لا بد أن أتوثق، أترهنني بيتك، قال: نعم، رهنتك بيتي بالقرض الذي ستقرضني إياه، فهنا الرهن قبل الحق، فلا يصح على قول المؤلف، لأنه متقدم على سببه، لأن الرهن توثقت دين بعين، فإذا وثقت قبل الدين فإنه لا يصح، لأنه قبل وجود السبب، وكل شيء قبل وجود سببه فهو ملغى

وما ذهب إليه المؤلف هو قول فقهائنا رحمهم الله أن الرهن لا يصح قبل ثبوت الحق

وقيل: إنه يصح قبل الحق، وكونه قبل السبب لا يضر، كما لو أن الإنسان اشترط في المبيع شرطا قبل العقد فإنه يصح، وهذا أيضا إذا اتفقا على الرهن قبل العقد فما المانع؟

فالصواب: أن الرهن جائز مع الحق وقبل الحق وبعد الحق، وأنه لا مانع، لأنه عقد توثقة

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

05-05-1439 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 122 ‌‌مكانة المرأة في الإسلام - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 121 الجزء الثالث عوامل النصر  . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 120 الجزء الثالث ‌‌حكم الإسلام في إحياء الآثار - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر