الحمد لله رب العالمين، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، "وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ"الشورى:28.وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفي الشرك بجميع أنواعه وتثبت التوحيد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله رحمة للعالمين وقدوة للعاملين، وحجة على المعاندين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً
أما بعد
أيها الناس: اتقوا الله واشكروه، فقد كنتم في الأيام الماضية في ضيق وشدة من تأخر نزول المطر الذي منه تشربون وتسقون حروثكم وأشجاركم وتتوفر به المراعي لأنعامكم، ثم فرج الله شدتكم ورحم ضعفكم فأنزل الله عليكم الغيث بفضله ورحمته فارتوت الأرض وسالت الأودية وامتلأت السدود
فاحمدوا الله واشكروه على هذه النعمة العظيمة قال تعالى "وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً"النبأ:14-16. وقال تعالى "أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ"الواقعة:68-70.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو ليعم بسقيه وهادها وتلولها وظرابها وآكامها ومنخفضها ومرتفعها ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها لما أتى الماء على الناحية المرتفعة إلا إذا اجتمع في السفلى وكثر، وفي ذلك فساد، فاقتضت حكمته أن سقاها من فوقها، فينشئ سبحانه السحاب وهي روايا الأرض، ثم يرسل الرياح فتلقحها كما يلقح الفحل الأنثى، ثم ينزل منه على الأرض ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة حتى إذا أخذت الأرض حاجتها وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع عنها وأعقبه بالصحو
عباد الله: اشكروا الله على هذه النعمة العظيمة بالتحدث بها، وإضافتها إليه، والثناء على الله، واعتقاد أنها منه وحده، والاستعانة بها على طاعته؛ فإن كثيراً من الناس لا يشكرون الله على هذه النعمة كما أنهم لا يشكرونه على غيرها من النعم فبعضهم لا ينسب نزول المطر إلى الله، وإنما ينسبه إلى الطبيعة ويقول هذا يرجع إلى المناخ فبلاد أوروبا مثلاً كثيرة الأمطار؛ نظراً لمناخها وموقعها الجغرافي، وبلادنا قليلة الأمطار؛ نظراً لمناخها وموقعها الجغرافي، فينسى هذا الجاهل أو الملحد أن هذا راجع إلى قدرة الله وحكمته، وأنه هو الذي ينزله ويحبسه كما يشاء ولم ير هذا الجاهل أن كثيراً من بلاد أوروبا وأفريقيا الآن تشكو من الجفاف وقلة الأمطار، ولم ينفعها مناخها وموقعها الجغرافي؛ لأن الله حبس المطر عنها؛ قال تعالى "وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا"الفرقان:50. وبعض الناس ينسب نزول المطر إلى النجوم والطوالع أو الانخفاض الجوي كما يسمونه، وينشرون في بعض الصحف أن هذا العام ستكثر الأمطار أو تقل؛ نظراً لكذا وكذا، وهذا من الجرأة على الله وادعاء علم الغيب والتشويش على العوام الذين لا يعرفون كذبهم وتخرصهم وفي مثل هؤلاء يقول الله تعالى "وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ"الواقعة:82. أي بدل أن تشكروا الله تعالى على إنزاله المطر عليكم "تُكَذِّبُونَ" فتنسبون ذلك إلى غيره من الكواكب والمخلوقات
وفي الصحيحين عن زيد بن خالد الجهني قال "صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على أثر سماء" أي نزول مطر "كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس قال "أتدرون ماذا قال ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب" ومعنى الحديث أن من نسب المطر إلى الله واعتقد أنه أنزله بفضله ورحمته من غير استحقاق من العبد على ربه وأثنى على الله بذلك فقال مطرنا بفضل الله ورحمته فهذا مؤمن بالله شاكراً لنعمته كافر بما سواه، وأما من نسب نزول المطر إلى غير الله من الكواكب أو الطبيعة وتغير المناخ؛ فذلك كافر بالله تعالى مؤمن بغيره
فإذا اعتقد أن لغير الله تأثيراً في إنزال المطر فهذا كفر أكبر؛ لأنه شرك في الربوبية والمشرك كافر، وإن لم يعتقد ذلك وأضاف المطر إلى السبب فهو من الشرك الأصغر والكفر الأصغر؛ لأنه نسب نعمة الله إلى غيره حيث نسب المطر إلى السبب، فالواجب أن ينسب نزول المطر وجميع النعم إلى الله تعالى، قال تعالى "وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ"النحل:53. وإنزال الغيث من أعظم نعم الله وإحسانه إلى عباده؛ لِما اشتمل عليه من منافعهم، فلا يستغنون عنه أبداً
فيجب عليهم أن يشكروه عليه؛ ومن شكره أن يضيفوه إليه وحده ويحمدوه عليه؛ فإن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها، والله جل وعلا هو المحسن المطلق الذي يجب أن تضاف إليه النعم كلها ويشكر عليها وحده لا شريك له في ذلك
اللهم كما أنزلت الغيث فأنبت الكلأ وكما أغثت الأرض أغث القلوب وأستغفر الله لي ولكم
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا
أما بعد
عباد الله: من الناس في هذا الزمان من يستغل وقت نزول الأمطار للنزهة والترفيه عن النفس فيخرجون إلى البراري والأودية بعوائلهم ونسائهم فيسرفون في المآكل ويضيعون الصلوات ويزاولون أنواعاً من الملاهي بالأغاني والدفوف والمزامير، وربما يشربون المسكرات ويتعاطون المخدرات، ويختلط الرجال بالنساء، وتحصل أنواع من المفاسد والمعاصي والفسوق، ويقابلون نعمة الله بكفرها، ويستغلونها في معاصيه
فاتقوا الله عباد الله فإن الخروج إلى البر للفسحة ومشاهدة السيول مع المحافظة على طاعة الله والابتعاد عن فعل المحرمات أمر لا بأس به ولكن قليل من الناس من يتقيد بذلك، فاتقوا الله في أنفسكم واحذروا أن تكونوا ممن قال الله فيهم "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ"إبراهيم:28-29.
هذا وصلوا على نبيكم كما أمركم الله بذلك في محكم كتابه بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"الأحزاب:56. وقال عليه الصلاة والسلام من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا.رواه مسلم. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين اللهم تقبل من الحجاج حجهم وأوصلهم إلى الديار المقدسة سالمين وأعدهم إلى ديارهم غانمين وأقبل من المضحين أضاحيهم وحرر بلاد الأحواز من أيدي الرافضة الغاصبين وانصرهم على أعداء الإسلام المعتدين من الفرس الإيرانيين واجمع شمل المسلمين على كلمة التوحيد وأوقف نزيف دمائهم اللهم كن لإخواننا المستضعفين في كل مكان اللهم من أرادنا أو أراد المسلمين بسوء فجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً له اللهم ول على المسلمين خيارهم واكفف عنهم شرارهم اللهم فك أسر المأسورين واغفر ذنب المذنبين واقبل توبة التائبين اللهم لا تدع لنا في هذا المقام من ذنب إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته ولا كرباً إلا نفسته ولا ديناً إلا قضيته ولا مريضاً إلا شفيته ولا أيما إلا زوجته ولا ضالاً إلا هديته ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضا ولنا صلاح إلا اعنتنا على قضائها ويسرتها لنا واغفر اللهم لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم
عباد الله: أذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.العنكبوت:45.
1434-12-15هـ