الدرس 120 الجزء الثالث ‌‌حكم الإسلام في إحياء الآثار

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 13 شوال 1445هـ | عدد الزيارات: 38 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وصحبه وبعد:

إن العناية بالآثار يؤدي إلى الشرك بالله جل وعلا؛ لأن النفوس ضعيفة ومجبولة على التعلق بما تظن أنه يفيدها، والشرك بالله أنواعه كثيرة غالب الناس لا يدركها، والذي يقف عند هذه الآثار سواء كانت حقيقة أو مزعومة بلا حجة يتضح له كيف يتمسح الجهلة بترابها، وما فيها من أشجار أو أحجار، ويصلي عندها ويدعو من نسبت إليه ظنا منهم أن ذلك قربة إلى الله سبحانه ولحصول الشفاعة، وكشف الكربة ويعين على هذا كثرة دعاة الضلال الذين تربت الوثنية في نفوسهم والذين يستغلون مثل هذه الآثار لتضليل الناس وتزيين زيارتها لهم حتى يحصل بسبب ذلك على بعض الكسب المادي، وليس هناك غالبا من يخبر زوارها بأن المقصود العبرة فقط بل الغالب العكس ويشاهد العاقل ذلك واضحا في بعض البلاد التي بليت بالتعلق بالأضرحة وأصبحوا يعبدونها من دون الله، ويطوفون بها كما يطاف بالكعبة باسم أن أهلها أولياء فكيف إذا قيل لهم إن هذه آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الشيطان لا يفتر في تحين الأوقات المناسبة لإضلال الناس، قال الله تعالى عن الشيطان إنه قال: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} (ص 82) {إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (ص 83) وقد أغوى آدم فأخرجه من الجنة مع أن الله سبحانه وتعالى حذره منه وبين له أنه عدوه كما قال تعالى: في سورة طه {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} (طه 121) {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} (طه 121)
ومن ذلك قصة بني إسرائيل مع السامري حينما وضع لهم من حليهم عجلا ليعبدوه من دون الله فزين لهم الشيطان عبادته مع ظهور بطلانها، وثبت في جامع الترمذي وغيره بإسناد صحيح عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه قال « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حنين ونحن حدثاء عهد بكفر وللمشركين سدرة يعكفون عندها وينوطون بها أسلحتهم يقال لها ذات أنواط فمررنا بسدرة فقلنا يا رسول الله اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط فقال صلى الله عليه وسلم: الله أكبر إنها السنن قلتم والذي نفسي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة؛ لتركبن سنن من كان قبلكم » (قلت حسنه الألباني في كتاب تخريج السنة بلفظ: "خرَجنا معَ رسولِ اللَّهِ إلى حُنينٍ، ونَحنُ حَديثو عَهْدٍ بِكُفرٍ، وَكانوا أسلَموا يومَ الفتحِ قالَ: فمَرَرنا بشجَرةٍ فقُلنا: يا رسولَ اللَّهِ اجعَلْ لنا ذاتَ أنواطٍ كما لَهُم ذاتُ أنواطٍ، وَكانَ للكفَّارِ سِدرةٌ يعكُفونَ حولَها ويعلِّقونَ بِها أسلحتَهُم، يدعونَها ذاتَ أنواطٍ، فلمَّا قلنا ذلِك للنَّبي - قالَ: اللَّهُ أَكْبرُ وقلتُمْ والَّذي نَفسي بيدِهِ كما قالَت بنو إسرائيلَ لموسَى اجعَل لَنا إلَهًا كما لَهُم آلِهَةٌ قالَ إنَّكُم قَومٌ تجهَلونَ لتركبُنَّ سُننَ مَن كانَ قبلَكُم")شبه قولهم اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط بقول بني إسرائيل اجعل لنا إلها كما لهم آلهة فدل ذلك على أن الاعتبار بالمعاني والمقاصد لا بمجرد الألفاظ، ولعظم جريمة الشرك وخطره في إحباط العمل نرى الخليل عليه السلام يدعو الله له ولبنيه السلامة منه قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} (إبراهيم 34) {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} (إبراهيم 35) الآية فإذا خافه الأنبياء والرسل - وهم أشرف الخلق وأعلمهم بالله وأتقاهم له - فغيرهم أولى وأحرى بأن يخاف عليه ذلك ويجب تحذيره منه كما يجب سد الذرائع الموصلة إليه.

ومهما عمل أهل الحق من احتياط أو تحفظ فلن يحول ذلك بين الجهال وبين المفاسد المترتبة على تعظيم الآثار؛ لأن الناس يختلفون من حيث الفهم والتأثر والبحث عن الحق اختلافا كثيرا ولذلك عبد قوم نوح عليه السلام ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا مع أن الأصل في تصويرهم هو التذكير بأعمالهم الصالحة للتأسي والاقتداء بهم لا للغلو فيهم وعبادتهم من دون الله ولكن الشيطان أنسى من جاء بعد من صورهم هذا المقصد وزين لهم عبادتهم من دون الله وكان ذلك هو سبب الشرك في بني آدم روى ذلك البخاري رحمه الله في صحيحه،عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى {وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} (نوح 23) قال: هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا وسموها بأسمائهم؛ ففعلوا، فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت...

وقد دلت الشريعة الإسلامية الكاملة على وجوب سد الذرائع القولية والفعلية، واحتج العلماء على ذلك بأدلة لا تحصى كثرة، وذكر منها العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه [إعلام الموقعين] تسعة وتسعين دليلا كلها تدل على وجوب سد الذرائع المفضية إلى الشرك والمعاصي وذكر منها قول الله تعالى {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} (الأنعام 108) الآية وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس " (قلت: الحديث فيه رجاء بن الحارث أبو سعيد المكي ضعفه ابن معين) » سدا لذريعة عبادة الشمس من دون الله.
ومنعا للتشبه بمن فعل ذلك كما ذكر منها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بناء المساجد على القبور ولعن من فعل ذلك ونهى عن تجصيص القبور وتشريفها واتخاذها مساجد وعن الصلاة إليها وعندها وعن إيقاد المصابيح عليها وأمر بتسويتها ونهى عن اتخاذها عيدا وعن شد الرحال إليها لئلا يكون ذلك ذريعة إلى اتخاذها أوثانا والإشراك بها وحرم ذلك على من قصده ومن لم يقصده بل قصد خلافه سدا للذريعة.
فالواجب على علماء المسلمين وعلى ولاة أمرهم أن يسلكوا مسلك نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم في هذا الباب وغيره، وأن ينهوا عما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يسدوا الذرائع والوسائل المفضية إلى الشرك والمعاصي والغلو في الأنبياء والأولياء حماية لجناب التوحيد وسدا لطرق الشرك ووسائله والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين وأن يفقههم في الدين وأن يوفق علماءهم وولاة أمرهم لما فيه صلاحهم ونجاتهم في الدنيا والآخرة وأن يوفق قادة المسلمين لتحكيم شريعة الله والحكم بها في كل شئونهم وأن يسلك بالجميع صراطه المستقيم، إنه ولي ذلك والقادر عليه وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.

١٢ شوال ١٤٤٥ هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر