الدرس 102 الجزء الثالث : ليس الجهادللدفاع فقط

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 8 شهر رمضان 1445هـ | عدد الزيارات: 97 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخيرته من خلقه، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين، ونسأله عز وجل التوفيق لإصابة الحق إنه على كل شيء قدير.
أما بعد:

إن الله عز وجل وله الحمد والمنة بعث الرسل وأنزل الكتب لهداية الثقلين من الجن والإنس، ولإخراجهم من الظلمات إلى النور، ولما كانت رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رسالة عامة إلى جميع أهل الأرض من جن وإنس، أرسله الله عز وجل بشريعة صالحة لجميع أهل الأرض في زمانه، وبعد زمانه إلى يوم القيامة، عليه الصلاة والسلام.

هكذا اقتضت حكمة الله عز وجل، واجتمعت الرسل على الأصول والأسس عليهم الصلاة والسلام، وتنوعت الشرائع على حسب ظروف الأمم وأحوالهم وبيئاتهم، على ما تقتضيه حكمة الخالق العليم، ورحمته عز وجل، وإحسانه إليهم ولطفه بهم جل وعلا.
أما جنس التوحيد الذي هو أصل الأصول، فقد اجتمعت الرسل عليه، وهكذا بقية الأصول كوجوب الصدق والعدل وتحريم الكذب والظلم والأمر بمكارم الأخلاق، ومحاسن الأعمال، والنهي عن ضدها فهذه الأصول اجتمعت عليها الرسل عليهم الصلاة والسلام كما قال عز وجل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} (النحل 36)
ومن الأصول الأساسية: الإيمان بالله ورسوله وتوحيده، والإخلاص له، والإيمان باليوم الآخر، وبالجنة والنار، والإيمان بجميع الرسل، وعدم التفريق بينهم، وما أشبه هذه الأصول هذا كله مما اجتمعت عليه الرسل جميعا، وقد جاءت الكتب الإلهية كلها يصدق بعضها بعضا، ويؤيد بعضها بعضا.
أما جنس الفروع فقد تنوعت بها الشرائع، فقد يباح في شريعة من المسائل الفرعية ما يحرم في الشريعة الأخرى، وقد يحرم في شريعة سابقة ما يباح في شريعة لاحقة، ومن هذا أن الله جل وعلا بعث عيسى عليه الصلاة والسلام بشريعة التوراة مع التخفيف والتيسير لبعض ما فيها، وإخبارهم ببعض ما اختلفوا فيه، وإحلال بعض ما حرم عليهم في التوراة، كل هذا من لطفه وتيسيره جل وعلا، كما قال سبحانه وتعالى لما ذكر التوراة والإنجيل والقرآن قال بعد هذا كله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة 48) وهو سبحانه حكيم في شرعه عليم بما يصلح عباده وما يستطيعون، كما أنه حكيم في أقداره سبحانه وتعالى.

ثم قال عز وجل: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} (المائدة 48) هكذا قال لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وأنزل كتابه القرآن بالحق لأن الله أنزله بالحق وللحق، فهو جاء مشتملا على الحق ومؤيدا للحق، وشارعا للحق ومصدقا لما بين يديه من الكتب الماضية، والرسل الماضين فيما جاءوا به. فكتاب الله العظيم القرآن مصدق للرسل الماضين، ومصدق للكتب الماضية، وشاهد أنها من عند الله عز وجل: التوراة والإنجيل والزبور وصحف موسى وإبراهيم وغيرها من الكتب التي أنزلها الله على الرسل عليهم الصلاة والسلام، ثم بين الله جل وعلا أن لكل منهم شرعة ومنهاجا، فدل ذلك على أن الشرائع التي جاء بها الأنبياء والرسل متنوعة الأسس من الإيمان بالله ورسله والملائكة والكتب والإيمان باليوم الآخر، والإيمان بالجنة والنار، وغير هذا من الأحكام العامة التي توجب العدل والصدق، وتحريم الظلم والكذب ونحو ذلك.
فهذه أصول عامة متبعة، وكان من حكمته عز وجل أن أرسل كل رسول بلسان قومه، حتى يفقههم ويفهمهم، ما بعث به إليهم بصورة واضحة، وبيان واضح، ولهذا قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} (إبراهيم 4) الآية.
ولما كان محمد صلى الله عليه وسلم من العرب، وكان العرب هم أول الناس يستمعون دعوته، ويواجههم بدعوته، أرسله الله بلسانهم، وإن كان رسولا للجميع عليه الصلاة والسلام، ولكن الله أرسله بلسان قومه، وجعل قومه مبلغين ودعاة إلى من وراءهم من الأمم، وأمر الناس جميعا باتباع هذا النبي عليه الصلاة والسلام والسير على منهاجه، فوجب عليهم أن يتبعوه، وأن يعرفوا لغته ولغة كتاب الله العظيم، وهذا النبي العظيم هو محمد عليه الصلاة والسلام بعثه الله رحمة للعالمين جميعا، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (الأنبياء 107) فكما أرسل الرسل قبله رحمة لمن أرسلوا إليه ليواجهوهم وليزيلوا عنهم الظلم، والفساد وأحكام الطواغيت، وليحلوا مكان ذلك النظم الصالحة والأحكام العادلة، وهكذا أرسل الله محمدا صلى الله عليه وسلم أيضا، ليقضي على النظم الفاسدة في المجتمع الإنساني، والأخلاق المنحرفة، والظلم والجور، وليحل محلها نظما صالحة، وأحكاما عادلة، فبعثه ربُّه ليزيل ما في الأرض من الظلم والطغيان، وليقضي على الفساد، وليزيح النظم الفاسدة والطواغيت المستبدة، الذين يتحكمون في الناس بالباطل، ويظلمونهم ويتعدون على حقوقهم، ويستعبدونهم. فبعث الله هذا النبي عليه الصلاة والسلام، ليزيل هذه النظم الفاسدة، والأخلاق الظالمة، وليقضي على الطغاة المتجبرين، والقادة المفسدين، وليحل محل ذلك قادة مصلحين، ونظما عادلة مستقيمة، وشرائع حكيمة عادلة، توقف الناس عند حدهم، ولا تفرق بين أبيض وأسود، ولا بين أحمر وغيره، ولا بين غني وففير، ولا بين شريف عند الناس، ووضيع عندهم، بل جعل شريعته لا تفرق بين الناس، بل توجههم جميعا وتأمرهم وتنهاهم جميعا، وبين الله سبحانه وتعالى أن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم،

هكذا بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بدين شامل ونظام عادل وشرائع مستقيمة تكسح نظم الفساد وتزيل أحكام الطغاة وتقضي على طرق الفساد وأخلاق المفسدين، وتوجب على المسلمين اتباع هذا النظام المنزل في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما توجب عليهم هذه الشريعة أن يتخلقوا بالعدل والإنصاف وأن يستقيموا على ما شرعه الله لهم وأن يحافظوا على ذلك، وأن ينصف بعضهم بعضا وأن يؤدي الأمانة بعضهم لبعض، وأن يحكموا فيما بينهم بشرع الله وأن يحاربوا الفساد والضلال وطرق الغي والغواية.
فلما هاجر عليه الصلاة والسلام واستقر به القرار في المدينة المنورة أمره الله بالتقوى وتطهيرها من الفساد وأهل الفساد وعمارتها بالمصلحين والصالحين، فلما استقر به القرار في هذه البلاد المقدسة وحوله الأنصار والمهاجرون، استمر في الدعوة عليه الصلاة والسلام ونشر ما بعثه الله به من الهدى، وأذن الله له ولأصحابه في القتال والجهاد، وأنزل في ذلك قوله سبحانه: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} (الحج 39) ففي هذه الآية أذن لهم في الجهاد لأنهم مظلومون، والمقصود أن الله جل وعلا أذن لهم بالقتال والجهاد ثم فرض الله ذلك سبحانه وتعالى وأوجبه بقوله جل وعلا: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} ( البقرة: 216) الآية، وأوجب عليهم سبحانه وتعالى الجهاد والقتال وأنزل فيه الآيات الكثيرات وحرض عليه سبحانه وتعالى وأمر به في كتابه العظيم وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم فكان أولا مباحا مأذونا فيه ثم فريضة على الكفاية كما قاله أهل العلم.
وقد يجب على الأعيان إذا اقتضت الأسباب ذلك كما لو حضر الصف، أو حصر بلده أو استنفره الإمام، ففي هذه المسائل الثلاث يتعين القتال، إذا حضر الصفين ليس له أن ينصرف ولا أن يفر، وكذلك إذا حاصر بلده العدو وجب عليه وعلى أهل البلد أن يقاتلوا ويدافعوا بكل ما يستطيعون من قوة، وكذلك إذا استنفره الإمام وجب النفير كما هو معروف في محله، فالمقصود أن الله فرض الجهاد وجعله فرضا على المسلمين وهو فرض كفاية إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين، وصار في حقهم سنة مؤكدة. وقد يجب على الأعيان للأسباب التي تقتضي ذلك كما سبق، فكان عليه الصلاة والسلام أولا يقاتل إذا رأى المصلحة في ذلك ويكف إذا رأى المصلحة في الترك، ثم أمره الله سبحانه بقتال من قاتله وبالكف عمن كف عنه، كما قال الله جل وعلا: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (البقرة 190) قال بعض السلف في هذه الآية: إنه أمر في هذه الآية بقتال من قاتله والكف عمن كف عنه، وقال آخرون في هذه الآية: إن هذه الآية ليس فيها ما يدل على هذا المعنى وإنما فيها أنه أمر بالقتال للذين يقاتلون أي من شأنهم أن يقاتلوا. إلخ. ويصدوا عن سبيل الله وهم الرجال المكلفون القادرون على القتال بخلاف الذين ليس من شأنهم القتال كالنساء والصبيان والرهبان والعميان وأشباههم فهؤلاء لا يقاتلون لأنهم ليسوا من أهل القتال. ولهذا قال بعدها بقليل: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} (البقرة 193) فعلم بذلك أنه أراد قتال الكفار لا من قاتل فقط بل أراد قتال الكفار جميعا حتى يكون الدين كله لله وحتى لا تكون فتنة والفتنة الشرك، وأن يفتن الناس بعضهم بعضا عن دينهم فتطلق الفتنة على الشرك كما قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة 191) يعني الشرك.

وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا جميعا للفقه في دينه والاستقامة عليه وأن يهدينا صراطه المستقيم، وأن يعلمنا ما ينفعنا ويهدينا لما فيه السعادة والنجاة وأن يوفق المسلمين جميعا للاستقامة على دينه والجهاد في سبيله، والحذر من مكائد الأعداء إنه على كل شيء قدير. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين

٧ رمضان ١٤٤٥ هـ


التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 4 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر