الدرس 89 موقف المؤمن من الفتن 1

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 15 شعبان 1442هـ | عدد الزيارات: 709 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

الفتنة كلمة مشتركة تقع على معانٍ كثيرة ، تقع على الشرك وهو أعظم الفتن كما قال الله عز وجل " وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ " الأنفال 39 ، أي حتى لا يكون شرك ، وقال جل وعلا " يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل " البقرة 217 ، وتقع الفتنة أيضاً على التعذيب والتحريق كما قال جل وعلا " ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون " الذاريات 14 ، وقال جل وعلا " إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق " البروج 10 ، والمراد هنا العذاب والتحريق ، فتنوهم يعني عذبوهم.

وتطلق الفتنة أيضاً على الاختبار والامتحان كما قال جل وعلا " ونبلوكم بالشر والخير فتنة " الأنبياء 35 ، يعني اختباراً وامتحاناً ، وقال جل وعلا " إنما أموالكم وأولادكم فتنة " التغابن 15 ، يعني اختباراً وامتحاناً حتى يتبين من يستعين بالأموال والأولاد في طاعة الله ومن يقوم بحق الله ويتجنب محارم الله ويقف عند حدود الله ومن ينحرف عن ذلك ويتبع هواه ، وتقع أيضاً على المصائب والعقوبات كما قال تعالى " وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً" الأنفال 25 ، يعني : بل تعم .

جاء عن الزبير بن العوام رضي الله عنه وجماعة من السلف في هذه الفتنة أنهم قالوا : ما كنا نظن أنها فينا حتى وقعت ،(قلتُ: جاء هذا الأثرفي :الصحيح المسند في أسباب النزول للوادعي بهذا اللفظ "قالَ الزُّبَيْرُ: إنَّا قرَأناها على عَهْدِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ وأبي بَكْرٍ، وعمرَ، وعثمانَ: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خاصَّةً لم نَكُن نحسَبُ أنَّا أَهْلُها حتَّى وقَعَت منَّا حيثُ وقَعَت)" وكانت بسبب مقتل عثمان رضي الله عنه؛ فإن قوماً جهلة وظلمة وفيهم من هو متأول خَفي عليه الحقُّ واشتبهت عليه الأمورُ فتابعهم حتى قتلوا عثمان رضي الله عنه بالشبه الباطلة والتأويلات الفاسدة ثم عمت هذه الفتنة وعظمت وأصابت قوماً ليس لهم بها صلة وليسوا في زمرة الظالمين وجرى بسببها ما جرى بين علي رضي الله عنه ومعاوية رضي الله عنه وما حصل يوم الجمل ويوم صفين كلها بأسباب الفتنة التي وقعت بسبب ما فعله جماعة من الظلمة بعثمان رضي الله عنه فقام قوم وعلى رأسهم معاوية بالمطالبة بدم القتيل عثمان رضي الله عنه وطلبوا من علي رضي الله عنه -وقد بايعه المسلمون خليفةً رابعاً وخليفة راشداً تسليمَهم القتلة ، وعليٌّ رضي الله عنه أخبرهم أن المقام لا يُتمكن معه من تسليمُ القتلة ووعدهم خيراً وأن النظر في هذا الأمر سيتم بعد ذلك وأنه لا يتمكن من قَتْلهم الآن وجرى من الفتنة والحرب يوم الجمل ويوم صفين ما هو معلوم حتى قال جمع من السلف رضي الله عنهم منهم الزبير رضي الله عنه : إن الآية نزلت في ذلك ، لأنها تعم هذا المعنى وهذه أول فتنة دخلت في الآية في هذه الأمة " واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب " الأنفال 25 ، فأصابت جمَّاً غفيراً من الصحابة وغيرِ الصحابة وقُتِلَ فيها عمَّارُ بنُ ياسر وطلحةُ بن عبيد الله وهو من العشرة المبشرين بالجنة والزبير وهو من العشرة أيضاً وقُتِلَ فيها جمٌّ غفيرٌ من الصحابة وغيرهم في الجمل وفي صفين بأسباب هذه الفتنة .

وتقع الفتنة أيضاً بأسباب الشبهات والشهوات فكم فُتِنَ كثير من الناس بشبهات لا أساس لها كما جرى للجهمية والمعتزلة والشيعة والمرجئة وغيرهم من طوائف أهل البدع فُتِنوا بشبهات أضلتهم عن السبيل وخرجوا عن طريق أهل السنة والجماعة بأسبابها وصارت فتنة لهم ولغيرهم إلا من رحم الله.
وطريق النجاة من صنوف الفتن هو التمسك بكتاب الله وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام كما رُوي ذلك عن علي مرفوعاً " تكون فتن ، قيل : ما المخرج منها يا رسول الله ؟ قال : كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وفصل ما بينكم " الحديث .

(قلت الحديث لا يصح مرفوعا فقد رواه الترمذي باب ما جاء في فضل القرآن قال :حدثنا عبد بن حميد حدثنا حسين بن علي الجعفي قال سمعت حمزة الزيات عن أبي المختار الطائي عن ابن أخي الحارث الأعور عن الحارث قال مررت في المسجد فإذا الناس يخوضون في الأحاديث فدخلت على علي فقلت يا أمير المؤمنين ألا ترى أن الناس قد خاضوا في الأحاديث قال وقد فعلوها قلت نعم قال أما إني قد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ألا إنها ستكون فتنة فقلت ما المخرج منها يا رسول الله قال: كتاب الله فيه نبأ ما كان قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم وهو الفصل ليس بالهزل الحديث " قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه وإسناده مجهول وفي الحارث مقال" ) والمقصود أن الفتن ، ( فتن الشهوات والشبهات والقتال ، وفتن البدع ) كل أنواع الفتن لا تخلص منها ولا نجاة منها إلا بالتفقه في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ومعرفة منهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم ومن سلك سبيلهم من أئمة الإسلام ودعاة الهدى .
وجميع ما يقول الناس وما يتشبث به الناس وما يتعلق به الناس في سلمهم وحربهم وفي جميع أمورهم يجب أن يُعرض على كتاب الله وعلى سنة رسوله عليه الصلاة والسلام ، قال جل وعلا في كتابه الكريم " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً " النساء 59 ، يعني أحسن عاقبة ، هذا هو الطريق وهذا هو السبيل فالرد إلى كتاب الله هو الرد إلى القرآن الكريم والرد إلى الرسول هو الرد إليه في حياته عليه الصلاة والسلام وإلى سنته الصحيحة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام .

وهكذا يقول جل وعلا " فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً " النساء 65 ، وتحكيم الرسول هو تحكيم الكتاب والسنة قال تعالى " أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون " المائدة 50 ، فما عدا حكم الله فهو من حكم الجاهلية قال جل وعلا " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " المائدة 44 ، وقال تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون " المائدة 45 ، وقال تعالى " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون " المائدة 47 .
فالمُخلِّص من الفتن والمنجي منها بتوفيق الله هو بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وذلك بالرجوع إلى أهل السنة وعلماء السنة الذين حصل لهم الفقه بكتاب الله والفقه بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ودرسوها غاية الدراسة وعرفوا أحكامها وساروا عليها فجميع الأمة من إنس ومن جن وعجم وعرب ومن رجال ونساء يجب عليهم أن يحكموا بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وأن يسيروا على نهج سلف الأمة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان في السلم والحرب في العبادات والمعاملات فيما افترق فيه الناس في أسماء الله وصفاته في أمر البعث والنشور وفي الجنة والنار وفي كل شيء ، ومن ذلك الحروب التي يثيرها بعض الناس يجب أن يحكم فيها شرع الله.

وهكذا الإعداد للحرب ومن يستعان به في الحرب ومن لا يستعان به كله يجب أن يعرض على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام .

ومعلوم عن حزب البعث والشيوعية وجميع النحل الملحدة المنابذة للإسلام كالعلمانية وغيرها كلها ضد الإسلام وأهلها أكفر من اليهود والنصارى ، لأن اليهود والنصارى تباح ذبائحهم ويباح طعامهم ونساؤهم المحصنات والملاحدة لا يحل طعامهم ولا نساؤهم وهكذا عباد الأوثان من جنسهم لا تباح نساؤهم ولا يباح طعامهم ، فكل ملحد لا يؤمن بالإسلام هو شر من اليهود والنصارى ، فالبعثيون والعلمانيون الذين ينبذون الإسلام وراء الظهر ويريدون غير الإسلام وهكذا من يسمون بالشيوعيين ويسمون بالاشتراكيين كل النحل الملحدة التي لا تؤمن بالله ولا باليوم الآخر يكون كفرهم وشرهم أكفر من اليهود والنصارى وهكذا عباد الأوثان وعباد القبور وعباد الأشجار والأحجار أكفر من اليهود والنصارى ولهذا ميَّز الله أحكامهم وإن اجتمعوا في الكفر والضلال ومصيرهم النار جميعاً لكنهم متفاوتون في الكفر والضلال وإن جمعهم الكفر والضلال فمصيرهم إلى النار إذا ماتوا على ذلك ، لكنهم أقسام متفاوتون ، فإذا أراد البعثي أن يدعي الإسلام فلينبذ البعثية أو الاشتراكية والشيوعية ويتبرأ منها ويتوب إلى الله من كل ما يخالف الإسلام حتى يعلم صدقه .

أما ما يتعلق بالاستعانة بغير المسلمين فهذا حكمه معروف عند أهل العلم والأدلة فيه كثيرة والصواب ما تضمنه قرار هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية أنه يجوز الاستعانة بغير المسلمين للضرورة إذا دعت إلى ذلك لرد العدو الغاشم والقضاء عليه وحماية البلاد من شره إذا كانت القوة المسلمة لا تكفي لردعه جاز الاستعانة بمن يظن فيهم أنهم يعينون ويساعدون على كف شره وردع عدوانه سواء كان المستعان به يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً أو غير ذلك إذا رأت الدولة الإسلامية أن عنده نجدة ومساعدة لصد عدوان العدو المشترك .
وقد وقع من النبي صلى الله عليه وسلم هذا ، وذلك في مكة استعان بمطعم بن عدي لما رجع من الطائف وخاف من أهل مكة بعد موت عمه أبي طالب فاستجار بغيره فلم يستجيبوا فاستجار بالمطعم وهو من كبارهم في الكفر وحماه لمَّا دعت الضرورة إلى ذلك وكان يعرض نفسه عليه الصلاة والسلام على المشركين في منازلهم في منى يطلب منهم أن يجيروه حتى يبلغ رسالة ربه عليه الصلاة والسلام على تنوع كفرهم واستعان بعبد الله بن أريقط في سفره وهجرته إلى المدينة - وهو كافر - لما عرف أنه صالح لهذا الشيء وأن لا خطر منه في الدلالة وقال يوم بدر لا أستعين بمشرك ولم يقل لا تستعينوا بل قال : لا أستعين لأنه ذلك الوقت غير محتاج لهم والحمد لله معه جماعة مسلمون وكان ذلك من أسباب هداية الذي رده حتى أسلم .
وفي يوم الفتح استعان بدروع من صفوان بن أمية وكان على دين قومه فقال : أغصباً يا محمد فقال : لا ولكن عارية مضمونة .
واستعان باليهود في خيبر لما شُغل المسلمون عن الحرث بالجهاد وتعاقد معهم على النصف في خيبر حتى يقوموا على نخيلها وزروعها بالنصف للمسلمين والنصف لهم وهم يهود لما رأى المصلحة في ذلك ، فاستعان بهم لذلك وأقرهم في خيبر حتى تفرَّغ المسلمون لأموالهم في خيبر في عهد عمر فأجلاهم عمر رضي الله عنه .

ثم القاعدة المعروفة يقول الله جل وعلا " وقد فصَّل لكم ما حرَّم عليكم إلا ما اضطررتم إليه " الأنعام 119 ، والمسلمون إذا اضطروا لعدو شره دون العدو الآخر وأمكن الاستعانة به على عدو آخر أشر منه فلا بأس .
نسأل الله أن يولي على جميع المسلمين من يُحكِّم فيهم شرع الله ويقودهم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وأن يكفي المسلمين شر ولاتهم الذين يخالفون شرع الله وأن يصلح ولاة المسلمين وقادتهم ويهديهم صراطه المستقيم وأن يولي على المسلمين جميعاً في كل مكان خيارهم وأن يصلح أحوالهم في كل مكان وأن يكفيهم شر الأعداء أينما كانوا وأن يبطل كيد الأعداء ويكفينا شرهم وأن يكفينا شر ذنوبنا جميعاً وأن يمنَّ علينا بالتوبة النصوح وأن يصلح أحوال المسلمين جميعاً في كل مكان وأن يجمع كلمتنا جميعاً معشر المسلمين على الحق والهدى أينما كنا وأن يكفينا شر أعدائنا أينما كانوا إنه جواد كريم .

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان .

15 - 8 - 1442هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر