الاتجار بالبشر

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 2 جمادى الأولى 1441هـ | عدد الزيارات: 1231 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله الأخيار وأصحابه الأبرار والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليما .

أما بعد عباد الله :

إن الناظر إلى هذه الجزيرة وإلى عهد قريب وقبل عقود قليلة من الزمن كان الناس يعيشون حالا من الفقر والجوع وشظف العيش وقلة ذات اليد مما حدا ببعضهم إلى السفر إلى بعض البلدان المجاورة أو البعيدة بحثا عن لقمة العيش وبحثا عن مصدر قوت تستقيم به حياتهم ويسدون به رمقهم وينفقونه على من يعولون وكانوا يتكبدون من أجل ذلك المشاق والمصاعب وفي أسفارهم التعب عبر البراري والبحار يواصلون فيه المسير الليل بالنهار ثم بعد أن منَّ الله على هذه البلاد بنعمة التوحيد والسنة وقيام هذه الدولة المباركة وفتحت عليها أبواب الأرزاق والخيرات وأنعم الله عليها بأنعم عجزنا عن إحصائها " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " النحل 18 .

فأصبحت ترد إلى هذه البلاد فواكه الصيف والشتاء طوال العام فضلا عما أخرجه الله من أرض هذه البلاد من الكنوز والخيرات ما انتعش بها اقتصادها وتحسنت به أوضاعها وأصبحت تحاذي به كبار الدول وتنافس به أرقى الأمم والمجتمعات مما جعل الأنظار تلتفت إلى هذه البلاد وجعل القلوب تتهافت إليها فسعوا إلى الحصول على تأشيرات للعيش على هذه الأرض المباركة والاستفادة من خيراتها ، قال تعالى " أولم نمكن لهم حرما آمنا يُجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا " القصص 57 .

عباد الله

أصبحت بلادنا ولله الحمد هي مأوى أفئدة كثير من العالم طلبا للرزق وامتلأت بيوتنا بالسائقين والخادمات ومصانعنا ومؤسساتنا بأهل المهن والعمال من مختلف الدول والجنسيات ولكن بعض الناس لم يقدروا لهذه النعمة قدرها ولم يشكروها حق شكرها فتجبروا وتكبروا وتعاملوا مع تلك الأيدي العاملة بأخلاق ومعاملات لا تليق ببني البشر فضلا عن كونه مسلما ينتمي إلى هذا الدين العظيم .

إن بعضا من العمالة هم ممن باع ما يملك وربما رهن داره إن بقي له دار من أجل الحصول على تأشيرة سفر إلى هذه البلاد وربما ودَّع أهله وهو يعدهم ويمنيهم بأنه سيرسل إليهم الأموال والهدايا وجزيل الهبات والعطايا وستُسدد ديونهم وتتحسن معيشتهم وما إن يصل إلى هذه البلاد ليبدأ العمل وإذا به يتفاجأ أن تلك الأحلام قد تبخرت وتلك الآمال قد تحطمت على صخرة كفيل ظالم معاند لا يرقب في عامل أو خادم إلاً ولا ذمة ولكم أن تتخيلوا تلك الأسر التي يعولها ذلك العامل المستَقدم أو تلك الخادمة كيف سيكون حالهم عندما ينتظرون كل شهر مصروفهم فلا يُحول لهم لعدم صرف مستحقاته وكم مرة ستتردد تلك الأسر على عتبات وأبواب البنوك علَّها أن تجد حوالة تفك بها أسرها من الجوع أو تنقذ بها نفسها من الهلاك ، والعيش في العراء وتحت ضلال الجسور وظلمات الأنفاق ودهاليز الخَرِبَات .

ألم تعلم أيها الكفيل بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال " الظلم ظلمات يوم القيامة " رواه البخاري من حديث ابن عمر .

ألم تعلم أيها المسلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنه عندما أرسله إلى اليمن " واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب " رواه البخاري ، ويقول عليه الصلاة والسلام " اتقوا دعوة المظلوم فإنها تُحمل على الغمام يقول الله وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين " صحيح الجامع .

أما تخشى أن يرفع هذا المظلوم يديه إلى الواحد الأحد بدعوة يكون بها ما يسوؤك .

أهكذا يكون شكر النعم وقد منَّ الله عليك بأن جعلك تُخدَمَ بدل أن تَخْدِمَ وتَأْمر بدل أن تُؤمر .

ألم تعلم أنه إن خفيَت على الدولة أفعالك فإن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء والله تعالى يتولى الدفاع عنهم ، قال عليه الصلاة والسلام : قال الله تعالى في الحديث القدسي " ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أُعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يعطه أجرته " رواه البخاري .

أيها المسلمون

إن بعض الكفلاء يتعامل مع خادمه أو خادمته أو عامله معاملة تفتقر إلى أدنى مقومات التقدير والاحترام لحقوقه أو مشاعره التي كفلها الإسلام فضلا عن النظر إليه بنظرة التنقص والازدراء والاحتقار ، ولا يبعد أن يكون هذا العمل المشين من الكبر الذي يحرم صاحبه من دخول الجنة عافانا الله وإياكم كما جاء في الحديث الشريف " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر - قال رجل : إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة - قال : إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس " رواه مسلم من حديث ابن مسعود ، وبطر الحق أي : رده ، وغمط الناس أي : احتقارهم .

أين أنت أيها المسلم من خلق رسول الله عليه الصلاة والسلام كما يقول أنس رضي الله عنه خدمت رسول الله في السفر والحضر عشر سنين من مَقْدمه المدينة حتى توفي ما قال لي عن شيء صنعته : لِمَ صنعت هذا كذا ولا قال لي لشيء لم أصنعه : ألا صنعت هذا كذا ، وكان رسول الله من أحسن الناس خلقا ، ولا مسست خزا ولا حريرا ولا شيئا ألين من كف رسول الله " رواه البخاري .

أيها المسلمون

لقد كفل الإسلام للخدم والأجراء حقوقهم وحسن معاملتهم وعدم تكليفهم ما لا يطيقون قال الرسول عليه الصلاة والسلام " إخوانكم خولكم ( أي يصلحون الأمور ) جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم " رواه البخاري ومسلم .

وقال عليه الصلاة والسلام " للمملوك طعامه وكسوته ولا يُكلف من العمل ما لا يطيق " رواه مسلم .

فإياك أخي المسلم أن تحملهم فوق طاقتهم سواء في نوع العمل أو في ساعات العمل .

ومن زيادة عناية الإسلام بحسن التعامل معهم ما رواه البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال " إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يُجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أُكلة أو أُكلتين فإنه وَلِيَ حرَّه وعلاجه " أي : حرَّ طبخه وصنعه وإعداده .

أخي الكريم

إن إعطاء الأجير أجره وحقه ليس خلقا كريما فحسب بل هو عمل صالح يُتقرب به إلى الله تعالى وهو من الأعمال الصالحة التي يتوسل بها في الدعاء خاصة في تفريج الكرب كما فعل الثلاثة الذين انطبقت عليهم الصخرة في حديث الغار حيث قال أحدهم " اللهم إن كنت تعلم أنه كان لي أجير عمل لي على فَرَقٍ من أرز فذهب وتركه وإني عمدت إلى ذلك الفرق فزرعته فصار من أمره أني اشتريت منه بقرا وأنه أتاني يطلب أجره فقلت اعمد إلى تلك البقر فسُقْها فقال لي : إنما لي عندك فرق من أرز ، فقلت له : اعمد إلى تلك البقر فإنها من ذلك الفرق ، فساقها ، فإن كنت تعلم أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا ، فانساحت عنهم الصخرة " رواه البخاري من حديث ابن عمر .

أيها المسلمون

من سنن الله الكونية ما أخبر به الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام بأنه " من لا يرحم الناس لا يرحمه الله " رواه البخاري من حديث جرير بن عبد الله .

وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه قال : كنت أضرب غلاما لي فسمعت من خلفي صوتا : " اعلم أبا مسعود لله أقدر عليك منك عليه " فالتفتُّ فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله هو حر لوجه الله ، فقال : " أما لو لم تفعل للفحتك النار - أو قال - لمسَّتك النار " رواه مسلم .

وعن معقل بن يسار رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرَّم الله عليه الجنة " رواه مسلم .

هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .

الخطبة الثانية :

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأزواجه وأصحابه وسلم

أما بعد عباد الله

اتقوا الله فيمن ولاكم الله أمرهم من العمالة والخدم واحذروا من العمل القسري من التأخر في صرف حقوق العمالة وغير ذلك فإن هذا يخالف مقاصد الشريعة وقد أسهب العلماء في التحذير من الوقوع في ذلك وتذكروا قول الرسول صلى الله عليه وسلم " من لا يرحم لا يُرحم " متفق عليه .

ألا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة عليه إمام المتقين وقائد الغر المحجلين .

اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أرحم الراحمين ، اللهم وفق ولي أمرنا وسدد خطاه واحفظ جنودنا في الحد الجنوبي واغفر لنا ولجميع المسلمين والحمد لله رب العالمين .

1441-2-13هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 9 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي