الإنفاق

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 3 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 1673 القسم: خطب الجمعة

نحمد الله على فضله وإحسانه ، خلقنا ورزقنا ، وأمرنا بالإنفاق مما أعطانا ليدخر ثوابه لنا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، شهادة نقولها سرا وعلنا، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ما ترك خيرا إلا بينه لنا، وحثنا عليه، ولا شرا إلا نهانا عنه وحذرنا، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى واشكروه على ما رزقكم، وأنفقوا مما آتاكم، واعلموا أنه ليس لكم إلا ما قدمتم لأخرتكم، قال صلى الله عليه وسلم (أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول الله، ما منا أحد إلا ماله أحب إليه، قال: فإن ماله ما قدم، ومال وارثه ما أخر) رواه البخاري

ومعناه: أن ما ينفقه الإنسان من ماله في حال حياته في وجوه البر والإحسان من صدقات، وإقامة المشاريع الخيرية، والأوقاف النافعة، وكفالة اليتامى، وإطعام الجائعين، وسد حاجة المحتاجين، وإعانة المعسرين، كل هذا يجد ثوابه مدخرا عند الله، فهو ماله الحقيقي الذي يبقى لديه، ويجري نفعه عليه، وما عداه فإن ملكيته له محدودةٌ بحال صحته، وسلامة فكره، لأنه إذا مرض مرض الموت، فإنه يحجر عليه، فلا يتصرف فيه بصدقة ولا هبة، بل ولا يصح في هذه الحالة إقراره بحق عليه لأحد

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجلٌ، فقال: يا رسول الله: أي الصدقة أفضل أو أعظم أجرا؟ قال: أن تصدق وأنت شحيح صحيح تخشى الفقر، وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان. رواه البخاري ومسلم

ففي هذه الحال يمنع الإنسان من التصرف في ماله الذي أتعب جسمه وفكره، وقضى عمره في جمعه، لأنه على وشك زوال ملكه، وانتقاله إلى غيره، وقد فرط في حال الصحة يوم أن كان ملكه عليه تاما، وتصرفه فيه نافذا، فينبغي أن يقدم منه شيئا لنفسه يبقى له، وينعم به في الدار الأخرة نعيما مؤبدا، فقد رخص الله له قبل الموت أن يوصي بشيء منه في وجوه البر بعد وفاته في حدود الثلث، فأقل لغير وارث

فينبغي للمسلم أن يستفيد من هذه الصدقة التي تصدق الله بها عليه فيما ينفعه، فيوصي بثلث ماله فأقل في وجوه البر والإحسان، ولا يضيع ذلك فيما لا يحل له، كأن يوصي به في الإعانة على إثم أو إحياء بدعة، أو يوصي به لأحد ورثته محاباة له

فيا من أنعم الله عليهم بالأموال قدموا لأنفسكم من أموالكم ما تشترون به منازل لكم في الجنة، قال تعالى (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) التوبة: 111

فبعض الناس يجمع المال، ويقول: أؤمن به مستقبلي، يعني مستقبله الدنيوي، وهو لا يدري هل يعيش مستقبلا يتمتع فيه بهذا المال أو يموت ويتركه لغيره، لكنه لا يفكر في تأمين مستقبله الذي لا بد له منه في الدار الأخرة، بأن يقدم من ماله ما يجده مدخرا

فانظروا يا عباد الله إلى كرم الله وفضله علينا، فإنه يشتري منكم ما تفضل به عليكم، ويأمركم بالإنفاق مما أعطاكم، ويقترض منكم مما آتاكم، فيقول سبحانه (أنفقوا مما رزقناكم) المنافقون: 10، ويقول سبحانه (وأقرضوا الله قرضا حسنا) الحديد: 18، ويقول سبحانه (من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة) البقرة: 245

عباد الله: ليس طلب التصدق خاصا بالأغنياء، بل إن الفقير مطلوب منه أن يتصدق بما يقدر عليه ولو كان قليلا، قال صلى الله عليه وسلم (اتقوا النار ولو بشق تمرة) رواه البخاري ومسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، فإن الله يقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه، حتى تكون مثل الجبل)رواه البخاري. وقد مدح سبحانه وتعالى الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة

ثم إن التصدق، سبب لحصول الرزق، والخلف من الله، قال تعالى (وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه وهو خير الرازقين) سبأ: 39

أي: يعطي بدله وخيرا منه في الدنيا والأخرة، ويعوض عنه أكثر منه

فالصدقة لا تنقص المال، قال صلى الله عليه وسلم (ما نقصت صدقة من مال) رواه مسلم، وقال صلى الله عليه وسلم (ثلاثة أقسم عليهن وأحدثكم حديثا فاحفظوه: ما نقص مال عبد من صدقة، ولا ظلم عبدٌ مظلمة فصبر عليها إلا زاده الله عزا، ولا فتح عبدٌ باب مسألة إلا فتح الله عليه باب فقر) الحديث . رواه الترمذي وصححه الألباني

فلا يتصور الإنسان أن ما يتصدق به من المال قد ذهب، بل يثق أنه هو الذي يبقى له، وما أمسك يذهب، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: أنهم ذبحوا شاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما بقي منها؟، قالت: ما بقي منها إلا كتفها، قال: بقي كلها غير كتفها. رواه الترمذي وصححه الألباني

ومعناه: أنهم لما تصدقوا بها كلها إلا كتفها، أخبر صلى الله عليه وسلم أنها بقيت لهم في الأخرة إلا كتفها الذي لم يتصدقوا به

ومنع الصدقة سبب لتلف المال، قال صلى الله عليه وسلم (ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الأخر: اللهم أعط ممسكا تلفا) متفق عليه

عباد الله: عليكم بالإنفاق من جيد المال لا من رديئه، قال تعالى (يا أيها الذين ءامنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه واعلموا أن الله غني حميد) البقرة: 267

يأمر تعالى بالإنفاق من جيد المال، وينهي عن الإنفاق من رديئه، ويقول: كما أنكم لا ترضون بالرديء لو دفعه إليكم غيركم، فلا تدفعوه إلى غيركم، فإنه لا يرضاه، فكيف ترضون للناس ما لا ترضونه لأنفسكم

ثم أخبر سبحانه أنه غني عن صدقاتكم، وإنما أمركم بالتصدق لأنفسكم، فلا تقدموا لها الرديء، فإنه لا ينفعكم، كما قال تعالى (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 92

أي: لن تكونوا من أهل الإحسان والتقوى، والمنازل العالية في الجنة، إلا إذا تصدقتم بأحب أموالكم إليكم

ولما نزلت هذه الآية بادر الصحابة رضي الله عنهم بتقديم أنفس أموالهم وأحبها إليهم تقربا إلى الله تعالى، فتصدق أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه بحائطه الذي هو أحب ماله إليه، وكان عند عمر جارية تعجبه، فأعتقها، وقال: إن الله عز وجل يقول (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون) آل عمران: 92

وكذلك ابنه عبد الله كان إذا أعجبه شيء من ماله تصدق به ابتغاء وجه الله

وقد وصف الله الأبرار بقوله (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) الإنسان: 8-9

فعليكم عباد الله بالإنفاق من الطيبات، فإن الله تعالى طيبٌ لا يقبل إلا طيبا، والطيب هو الحلال الجيد

واحذروا عباد الله من موانع قبول الصدقة، التي منها أن يتصدق الإنسان وهو كارهٌ، قال تعالى (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى ولا ينفقون إلا وهم كارهون) التوبة: 54

ومن موانع قبول الصدقة: المن بها: قال تعالى (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم * يا أيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) البقرة: 264

أخبر سبحانه أن الصدقة تبطل بالمن والأذى، وهي أن يفعل مع من تصدق عليه مكروها من الأقوال والأفعال، فهذا يحبط به ثواب صدقته، لأن إثم المن والأذى لا يغطيه ثواب الصدقة، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن بالصدقة، منها ما في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم، ولهم عذابٌ أليم: المنان بما أعطى، والمسبل إزاره، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب)

ومن موانع قبول الصدقة أن يقصد بها الرياء والسمعة، قال تعالى (كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابل فتركه صلدا) البقرة: 264

ورئاء الناس: مراءاتهم

والمرائي: هو الذي يحب أن يرى الناس عمله، ويريد مدحهم، وثناءهم عليه، ولا يريد ثواب الله، لأنه ليس في قلبه إيمان، وقد شبه الله قلبه بالحجر الأملس المغطى بالتراب، فيظن الرائي أنه إذا أصابه المطر أنبت كما تنبت الأرض الطيبة، ولكن المطر يزيل عنه التراب، ويظهره على حقيقته حجرا لا يقبل الإنبات، وهكذا قلب المرائي الذي لا إيمان فيه، فأعماله ونفقاته باطلة لا أصل لها

عباد الله: إن الشح والبخل آفتان نفسيتان يمنعان من التصدق والإنفاق في سبيل الله قال الله تعالى (ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) الحشر: 9، وقال تعالى (ولا يحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيرا لهم بل هو شر لهم سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة) آل عمران: 180

وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح، فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم) رواه مسلم

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الأيات والذكر والحكيم، هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وعد من أعطى واتقى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأخرة والأولى، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المخصوص من بين الرسل بالشفاعة العظمى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم لتكون كلمة الله هي العليا، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، عباد الله

اتقوا الله، وقدموا لأنفسهم من أموالكم، قبل مماتكم، واحرصوا على وضع الصدقات في مواضعها الصحيحة من إعطائها للمحتاجين من الفقراء واليتامى والمساكين والمعسرين

واعلموا أن إخفاء الصدقة أفضل من إظهارها، لما فيه من البعد عن الرياء، والستر على الفقير الذي يستحي من أخذ الصدقة

وإذا كان في إظهار الصدقة مصلحة شرعية، بأن يكون قدوة لغيره في التصدق، أو تكون في مشروع خيري ظاهر، فلا بأس بذلك، قال تعالى (إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون خبير) البقرة: 271

فتحروا عباد الله بصدقاتكم المحتاجين المتعففين عن السؤال، لأن هذا الصنف أفضل من وضعت فيه الصدقات، قال تعالى (للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافا) البقرة: 273

فهم لا يستطيعون الاكتساب، ولا يسألون الناس تعففا وحياء، يحسبهم من يجهل حالهم أغنياء من تسترهم، قال صلى الله عليه وسلم (ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يُفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس) متفق عليه

والسائل له حق على المسؤول، فإن كان صادقا في أنه محتاج فلا إثم عليه، وإن كان كاذبا فإنه آثمٌ، وما أخذه حرامٌ وسحت وجمر من جهنم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من سأل الناس تكثرا -أي: من غير حاجة، وإنما يسأل ليكثر ماله -فإنما يسأل جمرا، فليستقل أو ليستكثر) رواه مسلم

وقال صلى الله عليه وسلم (إن المسألة كد يكد بها الرجل وجهه، إلا أن يسأل الرجل سلطانا أو في أمر لا بد منه) رواه الترمذي وصححه الألباني

والكد: الخدش ونحوه

وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (لا تزال المسألة بأحدكم حتى يلقى الله تعالى وليس في وجهه مزعة لحم) متفق عليه

وعن أبي عبد الله الزبير بن العوام رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لئن يأخذ أحدكم حبله، ثم يأتي الجبل، فيأتي بحزمة من حطب على ظهره فيبيعها، فيكُف الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه) رواه البخاري

هذا وصلوا وسلموا على خير البرية نبينا محمد فقد أمركم بذلك ربكم فقال عز من قائل (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب: 56

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين

اللهم أيد بالحق إمامنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعز به دينك، وأعلِ به كلمتك، واجمع به كلمة المسلمين يا رب العالمين

اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمةً لشعوبهم المؤمنة، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين

اللهم أبرم لأمة الإسلام أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيء قدير

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله في نفسه واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين

" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار " البقرة 201

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.النحل:90.

فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.العنكبوت:45.

1439-2-3 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

5 + 6 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي