الهجرة 5

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 1 صفر 1439هـ | عدد الزيارات: 1448 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله صاحب الفضل والإحسان، شرع لعباده الهجرة، وجعلها باقية على مر الزمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على سائر الأديان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين هاجروا وفتحوا البلدان، ونشروا العدل والإيمان، وسلم تسليما.

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، وليكن لكم في سيرة نبيكم صلى الله عليه وسلم خير أسوة، وذلك بترسم خطاه والسير على نهجه والاقتداء به في أقواله وأفعاله وأخلاقه كما أمركم الله بذلك فقال (لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الأخر وذكر الله كثيرا) الأحزاب: 21

الهجرة لغة: مأخوذة من الهجر وهو الترك

وشرعا: الانتقال من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام

وهي من ملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال (إني ذاهبٌ إلى ربي سيهدين) الصافات: 99

أي: مهاجر من أرض الشرك إلى أرض الإيمان، وقد هاجر عليه الصلاة والسلام ببعض ذريته من العراق إلى الشام حيث البلاد المقدسة والمسجد الأقصى، والبعض الآخر إلى بلاد الحجاز حيث البلد الحرام والبيت العتيق، كما جاء في دعائه لربه (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم) إبراهيم: 37

والهجرة من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم حيث أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة لما اشتد عليهم الأذى من المشركين في مكة فخرجوا إلى أرض الحبشة مرتين فرارا بدينهم، وبقى النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يدعو إلى الله ويلاقي من الناس أشد الأذى، وهو يقول (رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا) الإسراء: 80

فأذن الله له ولأصحابه بالهجرة إلى المدينة، فبادروا إلى ذلك فرارا بدينهم وقد تركوا ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله، وقد أثنى الله عليهم بذلك ومدحهم ووعدهم جزيل الأجر والثواب، وصارت الهجرة قرينة الجهاد في كتاب الله عز وجل، وصار المهاجرون أفضل الصحابة حيث فروا بدينهم وتركوا أعز ما يملكون من الديار والأموال والأقارب والعشيرة، وباعوا ذلك لله عز وجل وفي سبيله وابتغاء مرضاته، وصار ذلك شريعة ثابتة إلى أن تقوم الساعة فقد جاء في الحديث (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها) أخرجه أبو داود وصححه الألباني . فكل من لم يستطع إظهار دينه في بلد فإنه يجب عليه أن ينتقل منها إلى بلد يستطيع فيه إظهار دينه إن أمكنه ذلك

وإظهار الدين معناه: القيام بالدعوة وإعلان البراءة من الكفار والمشركين، وبيان بطلان ما هم عليه، وليس معنى إظهار الدين هو تمكينه من القيام بالشعائر التعبدية فحسب دون القيام بالدعوة إلى الله ومعاداة الكفار وإعلان البراءة منهم ومن دينهم وبيان بطلان ما هم عليه

وقد توعد الله من قدر على الهجرة فلم يهاجر قال تعالى (إن الذين توفاهم الملآئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا) النساء: 97-99

فهذا وعيد شديد لمن ترك الهجرة بدون عذر، وهذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما بالإجماع بنص هذه الآية حيث يقول تعالى (إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) أي بترك الهجرة (قالوا كنا مستضعفين في الأرض) أي: لا نقدر على الخروج من البلد ولا الذهاب في الأرض، وهذا اعتذار منهم غير صحيح لأنهم كانوا يقدرون على الهجرة فتركوها، ولهذا قالت لهم الملائكة توبيخا لهم (ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها)

فمن لم يستطع إظهار دينه في بلد وجب عليه الخروج إلى بلد يستطيع فيها ذلك إن تيسر له ذلك، قال تعالى (ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة) النساء: 100

أي: مكانا يتحصن فيه من أذى الكفار، وسعة في الرزق، يعوضه الله بها عما ترك في بلده من المال، كما قال تعالى (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الأخرة أكبر لو كانوا يعلمون الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون) النحل: 41-42

عباد الله: من أنواع الهجرة هجر الشرك قال تعالى لنبيه (والرجز فاهجر) المدثر: 5

الرجز: الأصنام، وهجرتها: تركها والبراءة منها ومن أهلها

وقال النبي صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)رواه البخاري. أي: ترك ما نهى الله عنه من الأعمال والأخلاق والأقوال والمآكل المحرمة، والمشارب، والنظر المحرم والسماع المحرم، كل هذه الأمور يجب هجرها والابتعاد عنها

ومن أنواع الهجرة هجر العصاة من الكفار والمشركين والمنافقين والفساق وذلك بالابتعاد عنهم، قال الله تعالى (واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا) المزمل: 10

أي: اصبر على ما يقوله من كذبك من سفهاء قومك (واهجرهم هجرا جميلا) أي: اتركهم تركا لا عتاب معه

فتبين من هذا أن الهجرة أنواع هي: هجر أمكنة الكفر، وهجر الأشخاص الضالين

فاتقوا الله عباد الله، واقتبسوا من الهجرة وغيرها من أحداث السيرة النبوية دروسا تنهجونها في حياتكم

قال تعالى (والذين ءامنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولـئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرةٌ ورزقٌ كريمٌ) الأنفال: 74

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، أنجز وعده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده وسوله خاتم النبيين، فلا نبي بعده، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .

أما بعد، عباد الله

اتقوا الله، واعلموا أن الهجرة من أعظم مقامات الدين، بها يحصل اعتزاز المسلم بدينه وشخصيته، وبها يحصل الولاء للمؤمنين والبراءة من الكافرين

وقد كانت هجرة النبي صلى الله عليه وسلم حدثا عظيما فرق الله به بين أوليائه وأعدائه، وجعلها مبدأ لإعزاز دينه ونصر عبده ورسوله وميزة تميز بها المهاجرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيرهم، فكان المهاجرون أفضل الصحابة وأسبقهم ذكرا في القرآن الكريم

وقد جعل صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الهجرة بداية لتأريخهم، فصاروا يؤرخون بها، وذلك أن عمر رضي الله عنه استشار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في البداية الذي يؤرخون به خطاباتهم ومعاملاتهم، فأشاروا عليه أن يكون التأريخ بهجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي) صححه الألباني. تجنبا لمشابهة الكفار في تأريخهم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (من تشبه بقوم فهو منهم) أخرجه أبو داود وصححه الألباني .

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه، قال تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما) الأحزاب: 56

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة الأكرمين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا دينا إلا قضيته، ولا مريضا إلا شفيته، ولا ميتا إلا رحمته، ولا حاجة من حوائج الدنيا هي لك رضا ولنا صلاح إلا أعنتنا على قضائها ويسرتها ،" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة، وقنا عذاب النار" (البقرة 201). اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل . اللهم وفق ولي أمرنا، وأدم عليه موفور الصحة والعافية، واجعله يا ربنا في حفظك وعنايتك اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات

عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " النحل 90 ، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم

"وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون"العنكبوت45

1439-2-1 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي