الحرمين الشريفين

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 29 محرم 1439هـ | عدد الزيارات: 1267 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابة للناس وأمنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي من نطق بها وحقق مدلولها مبنى ومعنى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عُرج به فوق السموات العلى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه نجوم الهدى ومصابيح الدجى، وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي لا تحصى، ومن أعظمها أن جعل لكم هذا البيت الشريف، يتجه المسلمون إليه في صلواتهم، ويفدون إليه حاجين ومعتمرين (ليشهدوا منافع لهم) الحج: 28

إن هذا البيت أُسس على التوحيد حين أمر الله إبراهيم وإسماعيل ببنائه، فقال تعالى (وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود) البقرة: 125، وقال تعالى (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود) الحج: 26

فمن حاول أن يجلب الوثنية إلى هذا البيت، ويقيمها حوله، أزاله الله من الوجود، وأذاقه العذاب الأليم، كما فعل بعمرو بن لحي الخزاعي الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يجر قصبه في النار جزاءً له على ما أحدث من تغيير دين إبراهيم وتسييب السوائب للأصنام

ومن أراد بهذا البيت وقاصديه والمتعبدين فيه سوءاً، أذاقه الله العذاب، قال تعالى (إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ) الحج: 25

ولما أراد أبرهة ملك الحبشة هدم هذا البيت وصرف الناس عنه وجهز لذلك جيشًا هائلاً، وفيه فيل عظيم ليهدم به الكعبة بأن يجعل السلاسل في أركانها ويربطها في عنق الفيل ليجرها ويلقي جدرانها جملة واحدة، وكان لا يمر في طريقه بقبيلة من قبائل العرب إلا دهمها، إلى أن وصل إلى أرض الحرم فخرج أهل مكة إلى رؤوس الجبال خوفاً منه، ولما تهيأ الجيش لدخول مكة وهيؤوا الفيل ووجهوا نحوها برك، فضربوه ليقوم فأبى، وإذا وجهوه إلى غير مكة قام يهرول، وبينما هم كذلك أرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجران في رجليه أمثال العدس، فحلقت فوقهم ورمتهم بتلك الحجارة فهلكوا، وأنزل الله في ذلك قوله تعالى (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ألم يجعل كيدهم في تضليلٍ وأرسل عليهم طيرًا أبابيل ترميهم بحجارةٍ من سجيلٍ فجعلهم كعصفٍ مأكولٍ) سورة الفيل

والمعنى أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم ودمرهم فأصبحوا ملقَين على الأرض كعصف مأكول، وهو التبن، وفي هذا أعظم عبرة وأكبر زاجر لمن يريد هذا البيت بسوء أن الله يهلكه ويجعله عبرة للمعتبرين

وهذا البيت الشريف له خصائص عظيمة منها

أنه أول بيت وضع للناس على وجه الأرض، قال تعالى (إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدًى للعالمين فيه آياتٌ بيناتٌ مقام إبراهيم ومن دخله كان آمناً ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين) آل عمران: 96-97

فأخبر سبحانه أنه أول المساجد في الأرض، فهو قبل بيت المقدس بأربعين سنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري، وهذا من أعظم الآيات البينات، حيث تعاقبت عليه آلاف السنين، وهو باق كما وضعه الله منارة للتوحيد ومثابة للناس، مع حرص الكفار على إزالته والقضاء عليه بكل وسيلة، ومع هذا بقي يتحدى كل عدو، ولهذا سماه الله بالبيت العتيق، لأنه أول بيت وضع للناس، وأنه مبارك، أي: ذو بركة لما جعل الله في حجه والطواف به من الأجر وتكفير السيئات، وأنه تضاعف فيه الحسنات، والبركة وكثرة الخير

(وهدًى للعالمين) أي: إليه اتجاههم في صلاتهم وتعبداتهم، فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً، فتحصل لهم بذلك أنواع الهداية من معرفة الحق وصلاح العقيدة، وغير ذلك، ولهذا يقول أحد المستشرقين لأصحابه لما اجتمعوا ليخططوا لإضلال المسلمين، قال لهم: لا تطمعوا في إضلالهم ما بقي لهم هذا المصحف وهذه الكعبة

وقوله تعالى (فيه آياتٌ بيناتٌ) يعني: دلالات واضحات على التوحيد، من: الركن والمقام، والصفا والمروة، والمشاعر كلها

وقوله تعالى (ومن دخله كان آمناً) يعني: أن الله جعل حول هذا البيت حرماً إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء حتى في وقت الجاهلية كان الرجل يلقى قاتل أبيه، فلا يمسه حتى يخرج من هذا الحرم، وقال تعالى (أولم يروا أنا جعلنا حرماً آمنًا ويتخطف الناس من حولهم) العنكبوت: 67

حتى إن الصيد فيه لا يقتل ولا ينفر من أوكاره، ولا يقطع شجره ولا يقلع حشيشه

ومن خصائص هذا البيت

أن لا يشرع الطواف بغيره، فلا يشرع أن يطاف بالقبور والأضرحة ولا بالأشجار والاحجار، فمن اعتقد أنه يشرع الطواف بغير البيت فهو كافر لأنه اعتقد ما لم يشرعه الله ولا رسوله

ومن خصائص هذا البيت

أن الله أوجب على الأمة الإسلامية حجه كل عام، وعلى الأفراد مرة في العمر مع الاستطاعة، قال تعالى (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا) آل عمران: 97

فحجه على المجموع فرض كفاية كل عام، وحجه على الأفراد فرض عين مرة في العمر مع الاستطاعة

ومن تركه جاحداً لوجوبه كفر، وإن مات قبل أن يحج أخرج من تركته قدر ما يحج به عنه

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صاحب الحوض المورود والشفاعة العظمى. صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد، عباد الله

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أول مسجد أُسس على التقوى وأن زيارته فيها فضل عظيم، فهو أحد المساجد الثلاثة التي يُسافَر إليها للصلاة فيها، كما ثبت ذلك في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (فضل الصلاة في المسجد الحرام على غيره مائة ألف صلاة، وفي مسجدي هذا ألف صلاة، وفي مسجد بيت المقدس خمسمائة صلاة) أخرجه البيهقي وصححه الألباني، وليس في المدينة مسجد يزار للصلاة فيه إلا مسجد قباء، فتستحب زيارته للصلاة فيه فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (الصلاة في مسجد قباء كعمرة) رواه الترمذي وصححه الألباني

وقد حرم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كما حرم إبراهيم عليه الصلاة والسلام مكة، وحرمها من الشمال إلى الجنوب ما بين عَيْر إلى ثور، وهما جبلان معروفان، ومن الشرق إلى الغرب ما بين الحرتين الشرقية والغربية، ففي الصحيحين عن علي رضي الله عنه مرفوعاً (المدينة حرام ما بين عَيْر إلى ثور من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً)

وروى البخاري ومسلم من حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (المدينة حرم من كذا إلى كذا ، لا يقطع شجرها ، ولا يُحدث فيها حدث ، من أحدث حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) فيحرم قتل صيد حرمها، ويحرم قطع شجره، ولا جزاء فيما حرم من صيدها وشجرها، وليس في الدنيا حرم غير هذين الحرمين الشريفين: حرم مكة وحرم المدينة، فعظموا هذين الحرمين واعرفوا أحكامهما، وما يحرم فيهما حتى تجتنبوه

واعلموا أن من زار مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يستحب له أن يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ولا يكرر ذلك في فترة زيارته، فيأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويقف قبل وجهه، ويقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، ثم يتقدم قليلاً من مقام سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم نحو ذراع عن يمينه، ويقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، ثم يتقدم نحو ذراع عن يمينه أيضاً، ويقول: السلام عليك يا عمر الفاروق

وإن زار مقبرة البقيع وقبور الشهداء عند أحد، وسلم على الأموات واستغفر لهم ودعا لهم فحسن

ثم اعلموا أن زيارة القبور تستحب للرجال دون النساء، فالنساء لا تجوز لهن زيارة القبور، لا قبر النبي صلى الله عليه وسلم ولا غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك

ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً)الأحزاب56

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد

اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين وانصر عبادك الموحدين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين

اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك المؤمنين

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين

اللهم وفق ولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام

اللهم آنس وحشتنا في القبور، وآمن فزعنا يوم البعث والنشور

اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع

" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الأخرة حسنة وقنا عذاب النار " البقرة 201

عباد الله: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون " النحل 90

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكره على نعمه يزدكم، " ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون " العنكبوت 45

1439-1-29 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

4 + 9 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي