فضيلة الحياء

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 27 محرم 1439هـ | عدد الزيارات: 1459 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله ذو الفضل والإحسان، جعل الحياء شعبة من شعب الإيمان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يسأله من في السماوات والأرض كُل يومٍ هو في شأن) الرحمن: 29

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث إلى الثقلين الإنس والجن، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين نشروا دينه، وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واستحيوا منه حق الحياء، واعلموا أنه رقيب عليكم أينما كنتم يسمع ويرى، فلا تبارزوه بالمعاصي وتظنوا أنكم تخفون عليه، فإنه يسمع السر والنجوى

عباد الله: إن الحياء فضيلة، تكف صاحبها عما لا يليق، قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الحياء لا يأتي إلا بخير) رواه مسلم، وأخبر أنه شعبة من شعب الإيمان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال (الإيمان بضع وسبعون شعبة أو بضع وستون شعبة. فأفضلها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان) رواه مسلم، وقد مر النبي صلى الله عليه وسلم برجل وهو يعظ أخاه في الحياء أي يلومه عليه فقال: (دعه، فإن الحياء من الإيمان) رواه البخاري، دلت هذه الأحاديث على فضيلة الحياء

قال الإمام ابن القيم رحمه الله: والحياء من الحياة ومنه الحيا للمطر، وعلى حسب حياة القلب يكون فيه قوة خلق الحياء وقلة الحياء من موت القلب والروح، فكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم، فحقيقة الحياء أنه خلق يبعث على ترك القبائح، ويمنع من التفريط في حق صاحب الحق. أ.هـ

والحياء يكون بين العبد وبين ربه عز وجل، فيستحي العبد من ربه أن يراه على معصيته ومخالفته، ويكون بين العبد وبين الناس، فالحياء الذي بين العبد وربه قد بينه صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي جاء في سنن الترمذي مرفوعاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (استحيوا من الله حق الحياء) قالوا: إنا نستحي يا رسول الله، قال (ليس ذلكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء) حسنه الألباني ، بيَّن صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث علامات الحياء من الله عز وجل: أنها تكون بحفظ الجوارح عن معاصي الله، وبتذكر الموت، وعدم الانشغال عن الآخرة بملاذ الشهوات والانسياق وراء الدنيا، وقد جاء في الحديث الآخر أن (من استحيا من الله استحيا الله تعالى منه) رواه مسلم

وعن حياء الرب من عبده قال ابن القيم: حياء كرم وبر وجود وجلال، فإنه تبارك وتعالى حيي كريم يستحيي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفراً ويستحي أن يعذب ذا شيبة شابت في الإسلام. أ.هـ

وأما الحياء الذي بين العبد وبين الناس، فهو الذي يكف العبد عن فعل ما لا يليق به، فيكره أن يطلع الناس منه على عيب ومذمة فيكفه الحياء عن ارتكاب القبائح ودناءة الأخلاق، فالذي يستحي من الله يجتنب ما نهاه عنه في كل حالاته: في حال حضوره مع الناس، وفي حال غيبته عنهم، وهذا حياء العبودية والخوف والخشية من الله عز وجل، وهو الحياء المكتسب من معرفة الله، ومعرفة عظمته، وقربه من عباده، وإطلاعه عليهم، وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، وهذا الحياء من أعلى درجات الإحسان، كما في الحديث (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) رواه البخاري ومسلم

والذي يستحي من الناس لا بد أن يكون مبتعداً عما يذم من قبيح الخصال وسيء الأعمال والأقوال، فلا يكون سباباً، ولا نماماً ولا مغتاباً، ولا فاحشاً ولا متفحشاً، ولا مجاهراً بمعصية، ولا متظاهراً بقبيح، حياؤه من الله يمنعه من فساد الباطن، وحياؤه من الناس يمنعه من فساد الظاهر، فيكون صالحاً في باطنه وظاهره، في سره وعلانيته، فلهذا صار الحياء من الإيمان، ومن سلب الحياء لم يبق له ما يمنعه من ارتكاب القبيح والأخلاق الدنيئة، وصار كأنه لا إيمان له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري

ومعناه: إن لم يستح صنع ما شاء من القبائح والنقائص، فإن المانع له من ذلك هو الحياء وهو غير موجود، ومن لم يكن له حياء انهمك في كل فحشاء ومنكر

فعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال: إن الله إذا أراد بعبده هلاكاً نزع منه الحياء، فإذا نزع منه الحياء لم تلقه إلا مقيتاً ممقتاً، فإذا كان مقيتاً ممقتاً نزعت منه الأمانة، فلم تلقه إلا خائناً مخوناً، فإذا كان خائناً مخوناً نزعت منه الرحمة، فلم تلقه إلا فظاً غليظاً، فإذا كان فظاً غليظاً نزعت ربقة الإيمان من عنقه، فإذا نزعت ربقة الإيمان من عنقه، لم تلقه إلا شيطاناً .

وعن ابن عباس قال: الحياء والإيمان في قرن، فإذا نزع الحياء تبعه الآخر

وقد دل الحديث وهذان الأثران على أن من فقد الحياء لم يبق ما يمنعه من فعل القبائح، فلا يتورع عن الحرام، ولا يخاف من الآثام، ولا يكف لسانه عن قبيح الكلام، ولهذا لما قل الحياء في هذا الزمان أو انعدم عند بعض الناس، كثرت المنكرات، وظهرت العورات، وجاهروا بالفضائح، واستحسنوا القبائح، وقلت الغيرة على المحارم، أو انعدمت عند بعض الناس، بل صارت القبائح والرذائل عند بعض الناس فضائل، وافتخروا بها، فمنهم الملحن والمغني الماجن

ومن ذهاب الحياء في النساء اليوم ما ظهر في بعضهن من عدم التستر والحجاب

ومن ذهاب الحياء من بعض الرجال أو النساء شغفهم باستماع الأغاني والمزامير

أين الحياء ممن ضيعوا أولادهم في الشوارع يخالطون من شاءوا من ذوي الأخلاق السيئة، أو يضايقون الناس في طرقاتهم ويقفون بسياراتهم في وسط الشارع؛ حتى يمنعوا المارة، أو يهددون حياتهم بالعبث بالسيارات وبما يسمونه بالتفحيط؟

أين الحياء من المدخن الذي ينفث الدخان الخبيث من فمه في وجود جلسائه ومن حوله، فيخنق أنفاسهم ويقزز نفوسهم ويملأ مشامهم من نتنه ورائحته الكريهة؟

أين الحياء من الموظف الذي يستهتر بالمسؤولية، ويتعب المراجعين بحبس معاملاتهم؟

أين الحياء من التاجر الذي يخدع الزبائن، ويغش السلع؟

إن الذي حمل هؤلاء على النزول إلى هذه المستويات الهابطة هو ذهاب الحياء كما قال صلى الله عليه وسلم (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) رواه البخاري .

فاتقوا الله عباد الله، وراقبوا الله في تصرفاتكم

قال تعالى (إن الذين يخشون ربهم بالغيب لهم مغفرة وأجر كبير وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) الملك: 12

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا وأستغفر الله العظيم الجليل، لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي يمن على من يشاء من عباده بالفضل العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحليم الكريم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه بالدين القويم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واعلموا أن الحياء الممدوح هو الحياء الذي يكف صاحبه عن مساوئ الأخلاق، ويحمله على فعل ما يجمله ويزينه، أما الحياء الذي يمنع صاحبه من السعي فيما ينفعه في دينه ودنياه، فإنه حياء مذموم، وهو ضعف وخَور وعجز ومهانة، فلا يستحي المؤمن أن يقول كلمة الحق، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يستحي المؤمن أن يسأل عن أمور دينه، فإن الحياء الذي يمنع من فعل الخير أو قول الحق إنما هو تخذيل من الشيطان

هذا، وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير البرايا نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب: 56

اللهم صل وسلم على سيد الأولين والأخرين، ورحمة الله للعالمين نبينا محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، والأئمة المهديين الذين قضوا بالحق وبه يعدلون أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأعل بفضلك كلمة الحق والدين يا رب العالمين

اللهم آمنا في أوطاننا، وأدم الأمن والاستقرار في ديارنا يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخُذ بناصيته للبر والتقوى، وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتُعينُه عليه، اللهم أسبغ عليه ثياب الصحة الضافية، وحُلل السلامة والعافية، اللهم فأدم عليه من حُلل العافية أضفاها، ومن ثياب الصحة أوفاها

اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لاتباع كتابك، وسنة رسولك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمةً على عبادك المؤمنين

اللهم وفق المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أصلح ذات بينهم، اللهم اهدهم سُبُل السلام، اللهم جنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن

اللهم اشف مرضانا، وارحم موتانا، وبلغنا فيما يُرضيك آمالنا يا ذا الجلال والإكرام

" ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الأخرة حسنةً وقنا عذاب النار " البقرة 201

" سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين " الصافات 180-182

1439-1-27 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 4 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي