طلب العلم

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 24 محرم 1439هـ | عدد الزيارات: 1283 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله الذي رفع من شأن العلماء العاملين. فقال في كتابه المبين (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر:9

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له شهادة الحق واليقين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، واطلبوا من العلم ما تعرفون به ربَكم، ويستقيمُ به دينكم، وتستنيرُ به قلوبُكم، وتَصلحُ به دنياكم وآخرتُكم؛ لأن العلم نور يُخرج من الظلمات، وتزول به الشبهات، وتستقيم به الأعمال، وفضائل العلم كثيرة

أعظمها معرفة الرب سبحانه بأسمائه وصفاته ومنها أن العلم طريق إلى الله وإلى جنته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: من سلك طريقا يلتمس فيه علما سلك الله له به طريقا إلى الجنة، وإن الملائكة تضع أجنحتها لطالب العلم رضا بما يطلب، وإن العالم ليستغفر له من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، وإن العلماءَ ورثة الأنبياء، وإن الأنبياءَ لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر. رواه الإمام أحمد من حديث أبي الدرداء

وفيه: الحث على السعي في طلب العلم، وذلك بالسفر إلى أهله حيث كانوا، وبحفظه وكتابته وتدوينه، فقد كان السلف يرحلون المسافات الطويلة لطلب حديث واحد

فقد رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة يروي عنه حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده، ورحل جابر بن عبد الله الأنصاري كذلك، وكان أحدهم يرحل إلى من دونه في العلم والفضل لطلب شيء من العلم عنده لم يبلغه، ويكفي في هذا ما قصه الله تعالى من خبر موسى عليه الصلاة والسلام، ورحيله مع فتاه لطلب العلم، مع ما أعطاه الله من العلم، واختصه من التكليم، وكتب له في التوراة من كل شيء، وذلك حين أخبره الله عن الخضر، وأن عنده علما يختص به فسأل الله السبيل إلى لقائه، ورحل في طلبه، كما قال تعالى (وإذ قال موسى لفتاه لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا) الكهف:60، يعني: سنين عديدة، ثم إنه لما لقيه قال (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) الكهف:66

فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب العلم لاستغنى موسى عليه السلام، وقد أمر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد من العلم، قال تعالى (وقل رب زدني علما) طه:114، فلم يسأل ربه الزيادة من شيء إلا من العلم

ومهما بلغ الإنسان من العلم، فهناك من هو أعلم منه، قال تعالى (وفوق كلِ ذي علم عليم) يوسف:76

قال الحسن البصري رحمه الله: ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عز وجل، وفي حديث أبي الدرداء: دليل على أن الجنة لا يوصل إليها إلا بالعلم النافع، والعمل الصالح، فمن طلب الجنة بذلك فقد طلبها من أيسر الطرق وأسهلها، ومن سلك طريقا يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يصل إلى مقصوده مع تحمله المشاق، فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بقربه، ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يهتدى في ظلمات الجهل والشبهات والشكوك، وقد سمى الله كتابه نورا يهتدى به في الظلمات، قال الله تعالى (قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين * يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم) المائدة:15-16

وفي حديث أبي الدرداء أيضا: أن العلم الذي يُمدح أهله، ويُسمون العلماء حقيقة، هو العلم الشرعي الذي جاءت به الرسل، حيث قال صلى الله عليه وسلم (وإن العلماءَ ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر) فكل مدح وثناء جاء في الكتاب والسنة للعلم والعلماء، فالمراد به علم الأنبياء وحملته من المؤمنين العاملين به، قال تعالى (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) آل عمران:18، وقال تعالى (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فاطر:28، وقال تعالى (قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون) الزمر:9، وقال تعالى (يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة:11

وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم من حمل العلم الذي جاء به بالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات، فقال صلى الله عليه وسلم (إن مثل العلماءِ في الأرض كمثل النجومِ في السماء يُهتدى بها ظلمات البر والبحر، فإذا طُمست النجوم أوشك أن تضل الهداة) رواه الإمام أحمد في المسند

قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله: وهذا مثلُ في غاية المطابقة، لأن طريق التوحيد والعلم بالله وأحكامه وثوابه وعقابه، لا يدرك بالحس، إنما يعرف بالدليل، وقد بين الله ذلك كلَه في كتابه وعلى لسان رسوله، فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فقدوا ضل السالك، وقد شُبه العلماء بالنجوم، والنجومُ فيها ثلاثُ فوائد: يهتدى بها في الظلمات، وهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين الذين يسترقون السمع

والعلماءُ في الأرض تجتمع فيهم هذه الأوصاف الثلاثة: بهم يهتدى في الظلمات، وهم زينة للأرض، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل، ويُدخلون في الدين ما ليس منه

وما دام العلم باقيا في الأرض، فالناس في هدى، وبقاء العلم ببقاء حملتِه، فإذا ذهب حملتُه وقع الناس في الضلال، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يذهب العلماءَ، فإذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) فتبين بهذ: أن الذين يستحقون أن يسموا بالعلماء هم علماءُ الشريعة؛ لأن العلم الحقيقي هو العلم الذي جاءت به الرسل، لقوله صلى الله عليه وسلم (والعلماءُ هم ورثة الأنبياء) فهم الذين في بقائهم في الأرض مصلحة العباد والبلاد، وبفقدهم تفقد الأرض زينتها، وبفقد أهل الأرض من يهتدون به في ظلماء الجهل والشبه والشكوك، يتسلط شياطين الإنس والجن على إغواء الناس، ولا يجدون من يرجُمهم بثواقب الحُجج العلمية التي تبطل كيدهم، وتدحض حجتهم

وتفسير القرآن الكريم له قواعد معروفة لدى علماء الشريعة، لا يجوز تجاوزها، وتفسير القرآن بغير مقتضاها، وهذه القواعد هي

الأول: أن يفسر القرآنُ بالقرآن، فما أُجمل في موضع منه فصل في موضع آخر، وما أطلق في موضع قيد في موضع آخر

الثاني: ما لم يوجد في القرآن تفسيره، فإنه يفسر بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن السنة شارحة للقرآن ومبينة له، قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون) النحل:44

الثالث: ما لم يوجد تفسيره في السنة، فإنه يُرجع فيه إلى تفسير الصحابة؛ لأنهم أدرى بذلك لمصاحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلمهم على يديه، وتلقيهم القرآن وتفسيره منه، حتى قال عبد الله بن مسعود: ما كنا نتجاوز عشر آيات حتى نعرف معانيهن والعمل بهن

الرابع: ما لم يوجد له تفسير عن الصحابة، فكثير من الأئمة يرجع فيه إلى أقوال التابعين لتلقيهم العلم عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلمهم القرآن ومعانيه على أيديهم، فما أجمعوا عليه فهو حجة، وما اختلفوا فيه فإنه يرجع فيه إلى لغة العرب التي نزل بها القرآن

وتفسير القرآن بغير هذه الأنواع الأربعة لا يجوز، فلنحذر يا عباد الله من تفسير كلام الله بغير علم، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه (أي أرض تقلني، وأي سماء تظلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)، وقال تعالى (ولا تقف ما ليس لك به علم) الإسراء:36

فلنتق الله عز وجل ولا نفسر كلامه العظيم بما لا علم لنا به

قال تعالى (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) الأعراف:33

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، هذا واستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى وأنزل عليه آيات بينات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وإلهيته وما له من الأسماء والصفات، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المؤيد بالمعجزات الباهرات، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ذوي المناقب الظاهرة والكرامات، وسلم تسليما كثيرا

أما بعد، أيها الناس

اتقوا الله تعالى، وتعلموا من العلم ما يستقيم به دينكم، قال صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين) رواه البخاري ومسلم

فقد دل هذا الحديث على أن الذي لا يفقه أمور دينه، فإن ذلك دليل على أن الله لم يرد به خيرا، ولو تعلم العلوم الدنيوية وتبحر فيها؛ لأنها علوم معاشية فقط لا تستحق مدحا ولا ذما، وقد وصف الله سبحانه أصحابها بأنهم لا يعلمون، فقال (ولكن أكثر الناس لا يعلمون * يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون) الروم:6-7

فأكثرهم ليس لهم علم إلا بالدنيا وشؤونها، فهم فيها حذاق أذكياء غافلون عن أمور الدين وما ينفعهم في الآخرة

قال الحسن البصري: والله ليبلغ أحدهم بدنياه أنه يُقلِبُ الدرهم على ظُفره، فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي. وقد نفى الله عنهم العلم، مع أنهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، فدل على أن ذلك لا يستحق اسم العلم ولا يستحقُ صاحبُه أن يسمى عالما؛ لأن العلم إذا أطلق، فالمراد به علم الشرع، وإذا مدح العلم فالمراد به علم الشرع

فأين هذا من الذين عكسوا الأمر، وجعلوا العلم الدنيوي هو العلم عند الإطلاق، وخلعوا على أصحابه ألقاب المديح والإكبار؟ مع أنهم في الغالب أجهل الخلق بأمور دينهم وآخرتهم، وقد حملهم علمهم هذا على الغرور والاستكبار في الأرض، وإنكار وجود الخالق، فها هي العلمانية تستكبر بعلومها على عباد الله، وتخترع آلات الدمار، ومن الأمم الكافرة من أنكر علم الرسل واغتر بما عندهم من علم الدنيا، كما قال تعالى (فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) غافر:83

قال ابن كثير: وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسلُ بالبينات، والحُجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل

إن العلم الشرعي الذي جاءت به الرسلُ فيه صلاحُ العباد والبلاد، أما علومُ البشر ومخترعاتهم، فالغالبُ أن فيها الدمار وإهلاك الحرث والنسل، كما هو الواقع اليوم من الأسلحة الفتاكة، والقنابل المدمرة، وعلوم الشرع تُعَرِفُ بالله والدار الآخرة، وعلوم البشر وتقنياتُهم يغلب أنها تبعث على الغرور، والجهل بالله، وسننه الكونية، وتنسى الآخرة

ونحن لا ننكر ما فيها من نفع إذا استغلت في الخير، وكانت بأيد مؤمنة، ولكن ننكر أن تحاط بهالة التقديس والإكبار، ويطلق عليها وعلى أصحابها العلم والعلماء، ويفسر بها كتاب الله وسنة رسوله

حتى لقد بلغ الأمر ببعضهم أن يُخضِع لها نصوص الشرع، فلا يقبل من نصوص الشرع إلا ما يؤيده العلم الحديث بزعمه، كما فعل علماء الكلام من قبل، حيث أخضعوا نصوص الشرع لقضايا العقل، وقالوا: قضايا العقل يقينية، ونصوص الشرع ظنية (كذلك قال الذين من قبلهم مثلَ قولهم تشابهت قلوبُهم) البقرة:118

فالواجب على المسلم ألا ينخدع بهذه الدعايات، وأن يعظم كتاب الله وسنة رسوله؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: إن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم

هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير، والرحمة المهداة للعالمين، نبينا محمد سيد المرسلين، وخاتم النبيين، فقد أمركم بذلك فاطر السماوات والأرضين، فقال في الكتاب المبين (إن اللّه وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً) الأحزاب: 56

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحب الخلق الأكمل، وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا، واجعل عمله في رضاك، اللهم أيده بالبطانة الصالحة الناصحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، وجنبه بطانة السوء، اللهم اجعله حرباً لأعدائك، سلماً لأوليائك

اللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام عليك بالمنافقين والكفار المعتدين، من العلمانيين، والرافضة المرتدين، الذين يناصبونك العداء، ويكنون لأوليائك البغضاء، واجعل الخوف لباسهم

اللهم يا قوي يا عزيز يا جبار السماوات والأرض انصر عبادك الموحدين في كل مكان، اللهم كن لهم مؤيداً ونصيراً، وعوناً ومعيناً، يا رب العالمين

اللهم إنا نسألك الجنة ونعيمها، ونعوذ بك من النار ولهيبها، واغفر لنا ذنوبنا

اللهم لا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ربنا إنك رءوف رحيم

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء، والمنكر، والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون

24-01-1439 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي