حكمة الثواب والعقاب

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 27 ربيع الأول 1438هـ | عدد الزيارات: 2569 القسم: خطب الجمعة

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيْرٌ.فاطر:1.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه الله بالحنيفية السمحة، فما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه، وجعلها على المحجَّة البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا

أما بعد، أيها الناس

أوصيكم بتقوى الله سبحانه، والاعتصام به، والعضِّ بالنواجذ على كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فبهما النجاة من الضلالة، والدليل إلى الهداية

وإن في ماضي دنيانا وحاضرها وجودٌ محسوس للشيء ونقيضه، والشيء وضدِّه، والشيء ومثيله، والشيء وخلافه، ولو نظرنا بأنفسنا إلى كثيرٍ مما نعلمه بالحسِّ والمشاهدة والعقل لوجَدنا الخير والشر، والكفر والإيمان، والطاعة والمعصية، والحسن والقبيح، والحلال والحرام، والعدل والظلم، وهلُمَّ جرًّا

ولو دقَّقنا النظر لرأينا أن مردَّ تلكم الأمور راجعٌ إلى أصلٍ عظيمٍ لا بد منه لإقرار التوازن، والتوسُّط المنشود الذي يقف بين الإفراط والتفريط، ولا تكمُن حقيقة هذا الأصل إلا في الثواب والعقاب

والثواب بسبب الإيمان والخير والحسن والحلال والعدل والطاعة

والعقاب بسبب الكفر والقبيح والحرام والظلم والمعصية

إن ديننا الحنيف قام على العقاب في كل أمرٍ محرمٍ، والثواب في كل واجبٍ، والآيات في هذا المقام كثيرٌة؛ فمنها قوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ)فصلت: 46، وقوله (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ) فصلت:34، وقوله (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ) يونس:26، وقوله "وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ"يونس27، وقوله مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ.النمل: 89،90، وقوله (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) الزلزلة: 7، 8

فهذه الآيات دالَّةً على التفريق بين الحسنة والسيئة؛ وهنا آيات دالة على التفريق بين فاعل الحسنة ومُرتكب السيئة، كما قال تعالى (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) ص: 28

كل ذلك فيه دلالةٌ واضحة على حث المسلم على فعل الخير ونهيه عن فعل الشر

وما كانت بعثتُه صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الباب؛ فقد قال صلوات الله وسلامه عليه (إنما بُعِثتُ لأُتمِّمَ صالح الأخلاق) رواه البخاري في الأدب المفردوصححه الألباني.

وقال عليه الصلاة والسلام (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبَى) قالوا ومن يأبى يا رسول الله؟! قال (من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبَى) رواه البخاري

فلا يمكن لأي مجتمع مسلم أن يقوم مستقرًّا إلا بتحقيق الثواب والعقاب في أوساطه؛ في العبادات والمعاملات والتربية والفكر والأسرة والبيئة والاقتصاد والإعلام والحقوق على الذكر والأنثى، والشريف والوضيع، والغني والفقير، فلن يُفلِح مجتمعٌ لا يعرف إلا الثواب دون العقاب

ولأجل هذا يا رعاكم االله وصف الله أمة الإسلام بأنها الأمة الوسط، وما جعلهم خير أمةٍ أُخرِجت للناس إلا بتحقيقها الثواب والعقاب؛ كما قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) آل عمران: 110، وهذا هو سر تفضيل هذه الأمة؛ لأنها وحدها التي تملك هذا التوازن وتُمسِك به مع الوسط حتى لا يغلبَ طرفٌ طرفًا، ولا يبغي جانبٌ على جانب، ولولا هذا لتساوى المُحسِن والمُسيء، والمؤمن والكافر، والعادل والظالم، والصادق والكاذب، والله جل وعلا يقول (وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ) غافر: 58

عباد الله: اعلموا أن الله شديد العقاب، وأن الله غفورٌ رحيمٌ، وأن الاستقامة الحقَّة والنجاح والفلاح في قولنا للمُحسِن أحسنتَ، وللمُسيء أسأتَ، دون نفاقٍ أو شقاق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول (إذا رأيتَ أمتي تهاب فلا تقول للظالم يا ظالم؛ فقد تُودِّع منهم) رواه أحمد وصححه الحاكم ووافقه الذهبي

وعلينا ألا نُهمِل الثواب؛ لأن الله جل وعلا يقول (وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ) الأعراف: 85، ويقول صلوات الله وسلامه عليه من صنع إليكم معروفًا فكافِئوه

وأن لا نغُضَّ الطرف في الوقت نفسه عن العقاب؛ لأن من أَمِنَ العقوبة أساء الأدب، والله جل وعلا يقول (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) الأعراف: 99

فإذا ما عمَّ الثواب والعقاب مجتمعا فلن يكون بين ذويه إلا الاتحاد والالتئام (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) هود: 117، وما اختلَّ في مجتمعٍ إلا صار بأسُهم بينهم شديدًا (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى) الحشر: 14، أعِزَّةً على بعضهم، أذِلَّةً على عدوهم، يخفِضون لعدوهم جناح الذلِّ من التبَعيَّة، ويرون الحسن من المخلصين قبيحًا، حتى يضمحِلَّ المجتمع، فيذوب في أمةٍ ليست منه ولا هو منها (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ) القصص: 59

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا

الخطبة الثانية

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أما بعد، عباد الله

اتقوا الله، واقدروا الثواب والعقاب حق قدره، وإياكم والاستحياء من الأخذ به سرًّا وجهرًا، فما المعرَّة إلا في تركه، أو تطبيقه على استحياءٍ أو تخوُّف، أو الكيل فيه بمكيالَيْن! وماذا بعد الحق إلا الضلال

هذا وصلُّوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى فيه بملائكته المُسبِّحة بقُدسه، وأيَّه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) الأحزاب:56، وقال صلوات الله وسلامه عليه: من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا.رواه مسلم.

اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأئمة الأربعة أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين

اللهم فرِّج همَّ المهمومين من المسلمين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألبِسه الصحة والعافية، واجعلهما عونًا له على طاعتك يا حي يا قيوم

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. البقرة:201

سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين والحمد لله رب العالمين.الصافات:180-182.

1438-03-27 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 7 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي