قيمة الشكر

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 28 رجب 1437هـ | عدد الزيارات: 3647 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطان، وأشكره سبحانه على جزيل عطائه وإنعامه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكامل في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله


وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الشاكر لربه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليمًا كثيرًا


أما بعد، عباد الله

إن الشكر على النعم هو الغاية الذي من أجله خلق الله الخلق فهو أجلُّ المقامات وأعلاها، قال الله تبارك وتعالى (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) النّحل78؛ وحث على شكره فقال (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) البَقَرَة172


وأثنى –سبحانه- على خليله إبراهيم بشكر نعمه، فقال (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً، قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا، وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) النحل120-121، فأخبر أنه كان (أُمَّةً)، أي قدوة يؤتم به في الخير، وأنه كان (قَانِتًا لِلَّهِ)، أي مقيما على طاعته، (حَنِيفًا) أي مقبلا على الله معرضا عما سواه، ثم ختم له هذه الصفات بأنه كان (شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ)، فجعل الشكر غاية خليله


والشكرُ هو الاعتراف بالنعم باطنًا، والتحدث بها ظاهرًا، وصرفها فيما يحب مسديها وموليها،


وروى الترمذي عن ابن عباس -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "أربع من أعطيهن فقد أعطي خير الدنيا والآخرة قلبًا شاكرًا، ولسانًا ذاكرًا، وبدنًا على البلاء صابرًا، وزوجة لا تبغيه خونًا في نفسها ولا في ماله"، وروى الإمام أحمد بإسناده عن ثابت، قال كان داود -عليه السلام- قد جزَّأ ساعات الليل والنهار على أهله، فلم يكن ساعة من ليل أو نهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فيها، قال فعمهم الله تبارك وتعالى في هذه الآية (اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) سَبَأ13


ومن الشكر أن تَظهر على المرء آثار النعمة، فالله يحب من عبده أن يرى أثر نعمته عليه، فإن ذلك شكرها بلسان الحال، وفي صحيفة عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال "كلوا، واشربوا، وتصدقوا، في غير مخيلة ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده"


والشكر يشمل الأكل، والشرب، والكساء، والهداية، وغير ذلك؛ وقد بيَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- مواطن الشكر ومناسباته ففي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها، ويشرب الشربة فيحمده عليها


فعلى كل حاسَّةٍ وجارحةٍ شُكرُ ما أُعطِيَتْ من النِّعَم، قيل لأبي حازم ما شكر العينين يا أبا حازم؟ قال إنْ رأيتَ بهما خيرًا أعلنتَه، وإن رأيت بهما شرًا سترته قال فما شكر الأذنين؟ قال إن سمعت بهما خيرًا وعيته، وإن سمعت بهما شرًا دفعته قال فما شكر اليدين؟ قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقًا لله هو فيهما قال فما شكر البطن؟ قال أن يكون أسفله طعامًا، وأعلاه علمًا قال فما شكر الفرج؟ قال قال الله تعالى(وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) المؤمنون 5- 7 قال فما شكر الرجلين؟ قال إن علمتَ ميتًا تغبطه استعملت بهما عمله، وإن مقتَّه رغبت عن عمله وأنت تشكر الله


والرب -تعالى- يُحمد على إعطاء هذه الحواس وهذه الجوارح، من السمع والبصر، واليدين والرجلين، وإن قل ما في يد صاحبها من المال فهو غني بها


جاء رجل إلى يونس بن عبيد يشكو ضيق حاله، فقال له يونس أيسرُّك ببصرك هذه مائة ألف درهم؟ قال الرجل لا قال فبيديك مائة ألف؟ قال لا قال فبرجليك مائة ألف؟ قال لا قال فذكَّره نعم الله عليه فقال يونس أرى عندك مئين الألوف، وأنت تشكو الحاجة


وقد يزوي الله بعض الدنيا عن عبده ويكون ذلك نعمة قال أبو حازم نعمة الله فيما زوى عني من الدنيا أعظم من نعمته فيما أعطاني منها، إني رأيته أعطى أقوامًا فهلكوا، وكل نعمة لا تُقرب من الله فهي بلية، وإذا رأيت الله يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره وقال سفيان في قوله (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ) الأعرَاف 182، قال يُسبغ عليهم النعم، ويمنعهم الشكر

والرب تعالى يذكِّر عبده يوم القيامة بأنواع نِعَمه التي أنعم بها عليه، قال أبي بردة قدمت المدينة فلقيت عبدالله بن سلام -رضي الله عنه- فقال لي ألا تدخل بيتًا دخله النبي -صلى الله عليه وسلم- ونطعمك سويقًا وتمرًا؟ ثم قال إن الله إذا جمع الناس غدًا ذكَّرهم بما أنعم عليهم فيقول العبد ما آية ذلك؟ فيقول آية ذلك أنك كنت في كربة كذا وكذا فدعوتني فكشفتها، وآية ذلك أنك كنت في سفر كذا وكذا فاستصحبتني فصبحتك قال يذكره حتى يذكر فيقول آية ذلك أنك خطبت فلانة بنت فلان وخطبها معك خُطَّاب فزوجتُك ورددتهم يَقِفُ عَبْدَهُ بين يديه فيعدد عليه نعمه فبكى، ثم بكى ثم قال إني لأرجو الله أن لا يقعد الله عبدًا بين يديه فيعذبه


ولو يتقصَّى ربنا في المحاسبة على النعم لنفدت الحسنات بأقل نعمة في البدن؛ فإن أعمال العبد لا توافي نعمةً من نعم الله عليه، ولهذا جاء في الحديث الصحيح عند البخاري "لن ينجي أحدًا منكم عمله" قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال "ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل" وكان أبو المغيرة إذا قيل له كيف أصبحت يا أبا محمد؟ قال أصبحنا مغرقين بالنعم، عاجزين عن الشكر، يتحبب إلينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت إليه ونحن محتاجون


وروى الجريري عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتى على رجل وهو يقول اللهم إني أسألك تمام النعمة فقال "ابن آدم، هل تدري ما تمام النعمة؟" قال يا رسول الله! دعْوة دعوت أرجو بها الخير فقال: إن تمام النعمة فوز من النار، ودخول في الجنة

هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية


الحمد لله الذي وعد الشاكرين بالزيادة، فقال (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ، وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) إبراهيم7


وأشهد أن لا إله إلا الله الولي الحميد وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله القائل "إذا أحب أحدكم أن يرى قدر نعمة الله عليه، فلينظر إلى مَن تحته، ولا ينظر إلى من فوقه"متفق عليه. اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه الشاكرين في السراء والضراء


أما بعد عبد الله لقد كان للسلف الصالح النصيب الأوفر من الشكر والتقدير للنعم، ومعرفة أنواعها، كان الحسن البصري إذا ابتدأ حديثه يقول الحمد لله، اللهم ربنا لك الحمد بما خلقتنا، ورزقتنا، وهديتنا، وعلَّمتنا، وأنقذتنا، وفرَّجْت عنا؛ لك الحمد بالإسلام، والقرآن؛ ولك الحمد بالأهل، والمال، والمعافاة؛ كَبَتَّ عدونا، وبسطت رزقنا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، وأحسنت معافاتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا؛ فلك الحمد على ذلك حمدًا كثيرًا، لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا، في قديم أو حديث، أو سر أو علانية، أو خاصة أو عامة، أو حي أو ميت، أو شاهد أو غائب؛ لك الحمد حتى ترضى، ولك الشكر إذا رضيت

وثبت في المسند والترمذي عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال لمعاذ "إني أحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك"


فاقتدوا -عباد الله- بخيرة خلق الله من الأنبياء والصالحين، في الشكر عند النعماء، والصبر عند البلاء، وتدبروا ما في كتاب الله من الأمر بالشكر، والثناء على الشاكرين

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ؛ وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانك، يا أرحمَ الراحمين


اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمين؛ اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتنا ووُلاةَ أمرِنا، اللهم وفِّقْهُم لما فيه صلاح الإسلامِ والمُسلمين

اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم صن أعراضهم، واجمع كلمتهم على الحق، ووفقهم للصواب، إنك على كل شيء قدير

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

28-07-1437 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 7 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي