الاعتراض على شرع الله

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 25 رجب 1437هـ | عدد الزيارات: 3590 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله الخلاق العليم، أحمده حمدًا يليق به، وأشكره شكرًا يزيد به نعمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وأمينه على وحيه، وخاتم رسله؛ صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين

أما بعد اتقوا الله تعالى وأطيعوه، فما أعظم الله تعالى وما أكفر الإنسان، وما أحلم الله سبحانه وما أضعف الإنسان، وما أكرم الله عز وجل وما أجحد الإنسان

أحبتي في الله تلمسوا عظمته سبحانه في خلقه وآياته فكم أوجد في هذا الكون من بشر وحيوان وطير وجماد؟ تأملوا آياته في تقلب القلوب وتبدل الأحوال، فكم من جبار قصمه؟ وكم من عزيز أذله؟ وكم من غني أفقره؟ وكم من دول سادت ثم بادت، وله سبحانه في كل يوم أفعال ومقادير وأقضية لا يحصيها غيره، ولا يقدرها سواه " يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ " الرَّحمن29

تلكم هي أفعال الرب سبحانه "إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ" هود107 لا يحيط بها علمًا سواه "وَيَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا"الأنعام 59

هذه الأفعال الربانية التي تحار فيها العقول، وتذهل من كثرتها ودقتها وتنوعها النفوس؛ قد ضل فيها بعض من البشر بالاعتراض على أفعال الرب سبحانه وعلى أوامره، يغتر الواحد من هؤلاء المفتونين بذكائه وحدة عقله، ويعتقد أن التسليم بأفعال الله تعالى دون معارضة مخالف للعقل، وأن إيمانا هذا طريقه ليس إلا إيمان العوام، وهكذا يعترض على حكم الله تعالى وينفي حكمته، إلى أن يصل إلى إنكار قدره وقدرته، ثم إنكار وجوده إنها خطوات يتبعها الشيطان مع من يحاولون ولوج هذه الأبواب الموصدة

وكان الجهم بن صفوان يخرج إلى المبتلين من الجُذمى، وغيرهم فيقول أرحم الراحمين يفعل هذا؟ يريد أن ينفي رحمة الله تعالى، يقول لو كان فيه رحمة ما فعل هذا، وهذا من جهله، لم يعرف ما في الابتلاء من الحكمة والرحمة والمصلحة

إن من تأمل قول الله تعالى "فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" النور63 علم خطورة الأمر، ولم يأمن على نفسه الزيغ، وأمسك لسانه وقلمه عن الاعتراض على شيء من أوامر الله تعالى وكم من شخص اعترض على حكم شرعي رآه صغيرًا انتهى به المطاف إلى الزندقة وكم من مؤمنة اعترضت على الحجاب فانتهت إلى الإلحاد

إن من اجترأ على محرم فأباحه، أو واجب فأسقطه، أو اعترض على شيء من الدين فقد كسر هيبة الشريعة في قلبه، وهان الله في نفسه، فانتقل في اعتراضه من الجزئي إلى الكلي، وصار مع اعتراضه على الشريعة يعترض على أفعال الله تعالى وقضائه في عباده

إن الاعتراض على حكم الله تعالى، وطلب العلة لأفعاله سرى في بعض الناس، حتى سرت فيهم ألفاظ وأمثال يقولونها، فيها قلة أدب مع الله تعالى، وسوء ظن به سبحانه، ولاسيما إذا رأوا الرزق يصب على من يظنونه لا يستحقه، أو رأوا حرمان من يظنون أنهم مستحقون، وكم من قائل لماذا يسلط الله تعالى الطغاة على الشعوب فيسومونهم سوء العذاب، وهو قادر على أخذهم؟ وكم من قائل هذه الأيام ما ذنب أطفال سوريا يذبحون ولا ينتصر الله تعالى لهم؟ وما ذنب نسائها الصالحات تغتصب وتهان ولا ينتقم الله تعالى من المجرمين؟ بل سرت عند بعض الناس مقولة لماذا يموت المجرم الظالم الذي عذب ملايين البشر موتًا طبيعيًّا، ولماذا لم يعذبه الله في الدنيا ونرى عذابه

نسأل الله تعالى أن يحفظنا من الزيغ، ويعصمنا من الفتنة، ويرزقنا التصديق بخبره، والانقياد لشرعه، والتسليم بعلمه وحكمته، والرضا بفعله وقدره "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ" آل عمران8

هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدًا طيبًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين

أما بعد فاتقوا الله ربكم، واحفظوا قلوبكم من الزيغ بالاستجابة لأمره "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ"الأنفال24

أيها المسلمون إن مقتضى إيمان العبد بأن الله تعالى خلق الكون وأحكمه، وأنه لا يمكن للكون وما فيه أن يسير بهذا الانتظام إلا بمدبر عليم قدير يجب أن يقوده إلى التسليم والإقرار بأنه سبحانه لا يخلق ولا يفعل إلا لحكمة، ولو خفيت هذه الحكمة على العباد كلهم وهذا أمر كلي كبير، فإذا ورد على قلبه من الأفعال الجزئية ما لا يدرك حكمته فلا يعلق قلبه بهذا الشيء الجزئي الصغير، بل يرده إلى الله، فيقضي به على الشبهة

وليعلم العبد أن الحكمة تابعة للعلم والقدرة، فمن كان أعلم وأقدر؛ كانت أفعاله أحكم وأكمل، والرب سبحانه منفرد بكمال العلم والقدرة، فأنى للعبد العاجز الجاهل أن يدرك حكمة العليم القدير إن حجبها عنه

ومن ابتُلي بكثرة الوارد من الشبهات على قلبه فليلجأ إلى الله تعالى بالضراعة، وليكثر من ذكره سبحانه؛ ليطرد وساوس الشيطان، وليردد الدعاء القرآني المبارك الذي جاء عقب ذكر الشبهات التي تزيغ بها القلوب "رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ"آل عمران8 وليدمن على القرآن، ففيه من البراهين العقلية ما يدحض الشبهات، وفيه من صفات الله تعالى ما يملأ القلب إيمانًا وتعظيمًا لربه سبحانه وما حال المعترض على أفعال الله تعالى لجهله بحكمتها إلا كحال من وصفهم الله تعالى بقوله "بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ" يونس39 نعم والله لم يحيطوا بعلمه فكذبوه، ولو أعملوا عقولهم فيما خلقت له، ولم يقحموها فيما لا علم لها به لسلمت وسلموا

تأملوا أدب الخليل عليه السلام مع الله تعالى حين عرَّف به فقال "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ" الشعراء80 فلم ينسب المرض إلى الله تعالى، ونسب الشفاء إليه سبحانه

وانظروا أدب الصالحين من الجن حين قالوا "وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا" الجنّ10 فحكوا الشر بصيغة المجهول لئلا ينسب لله تعالى، ونسبوا الرشد إليه سبحانه

فالشر لا ينسب لله تعالى وإن كان داخلاً في عموم خلقه "وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" الأنعام101

وتعلموا من أدب النبي صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى حين كان يقول في دعاء صلاة الليل «لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ وَالشَّرُّ ليس إِلَيْكَ» رواه مسلم

ما أحوجنا في هذا الزمن الذي تلاطمت فيه الفتن، وجهر أهل الإلحاد بكفرهم، وأظهر المنافقون نفاقهم إلى تقوية القلوب بالإيمان والتقوى، وتحصين الناشئة من بنين وبنات ضد الأفكار المنحرفة، وذلك بغرس تعظيم الله تعالى في قلوبهم، والاستسلام لأمره، والرضا بقدره

ما أحوجنا إلى تدارس أسماء الله تعالى وصفاته، وعرض سير المعظمين لله تعالى من الرسل والصحابة والتابعين وأئمة الهدى والدين للتأسي بهم، وعرض سير المنحرفين من السابقين للاعتبار بما آلت بهم مقولاتهم من الشك والريب والجحود والإلحاد، كما عرض الله تعالى قصة فرعون وجحوده ثم نهايته الأليمة، وفي ذلك عبرة للمعتبرين

اللَّهُمَّ صلِّ وسلِّم وبارك على عبدِك ورسولِك محمد، وارضَ اللَّهُمَّ عن خُلفائِه الراشدين أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، وعليٍّ؛ وعَن سائرِ أصحابِ نبيِّك أجمعين، وعن التابِعين، وتابِعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعنَّا معهم بعفوِك، وكرمِك، وجودِك، وإحسانك، يا أرحمَ الراحمين

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشرِكين، ودمِّرْ أعداءَ الدين، وانصُرْ عبادَك المُوَحِّدين، واجعلِ اللَّهُمَّ هذا البلدَ آمنًا مُطمئِنًا، وسائرَ بلاد المسلمين يا ربَّ العالمين؛ اللَّهمَّ آمِنَّا في أوطانِنا، وأصلح أئمتنا ووُلاةَ أمرِنا، اللهم وفِّقْهُم لما فيه صلاح الإسلامِ والمُسلمين

اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم صن أعراضهم، واجمع كلمتهم على الحق، ووفقهم للصواب، إنك على كل شيء قدير

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

1437-7-25 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 8 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي