علو الهمة

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 1 ذو القعدة 1436هـ | عدد الزيارات: 1860 القسم: خطب الجمعة

الحمدُ للهِ الذي لا يرَجِّي لجلبِ المنفعَةٍ سواه وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَّهُ لا شريكَ له ، وأشهدُ أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ ، صلى اللهُ وسَلَّمَ وبارَكَ عليه ، وعلى آله وصحبه وتابعيهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين .

أما بعد:

عباد الله: عَلَيْكم بتقوى اللهِ فلم يزل طولُ الأمدِ في أتونِ الغفلة عاملاً في تغييب معاني الإيمان من النفوس قال تعالى " فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ " الحديد: 16

فتعالوا نتَفَقَدُ آثارَ طُولِ الأمدِ في واقعنا مُستحضرين خطابَ الرحمنِ لأهلِ الإيمانِ على طولِ الزمان " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ " الحديد: 16

فما هو مِعيارُ الظفر؟ إنَّ معيار الظَفَرِ الذي جاءَ به الوحيُّ هو سَلامَةُ الدين وإن ذهبت الدنيا, قال تعالى " قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا " طه: 72، وقال تعالى " يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ " غافر: 39

ومع طولِ الأمد وغلبةِ العقلِ على الإهتمام المَعيشي على بعض من الناس أصبح معيارُ الظفرِ عندهم سلامةَ الدنيا وإن أضرَّ المرءُ بدينه

وسنة الله على خلقه تقضي بابتلائهِم؛ ليتميَّزَ الصادقُ مِن الكاذب قال تعالى " ألم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ " العنكبوت: 1-3

أظنَّ الذين آمنوا أن نتركهم بغير اختبار ولا ابتلاء امتحان، ، كلا لنختبرهم، ليتبين الصادق منهم من الكاذب.

فهؤلاء الصادقون الذين أرخَصُوا كُلَّ ما يملِكون في سبيل رِفعَةِ دينهم الذين زخرت نصوصُ الوحيين بإطراء صنيعهم كيف ننظُرُ إليهم كمجتمعٍ اليوم ؟ قد يكونُ بيننا مَن يَنظرُ إليهم نَظرَةَ إكبَار فيَرونهم مساكين قد ضَيّعُوا مستقبلَهُم بما أَتوا مِن خدمةٍ لدينِ الله أضرت بمصالحهم الدنيوية وقد كان بإمكانِهم - بِنَاءً على مفاهيم البعض - أن يَظفَرُوا بفُرصَةٍ لعيشٍ أفضلٍ في هذه الدنيا لو سَبحُوا مع التيار.

تَنَزَّلَ الوحيُّ على محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- أَوَّلَ مرة فعادَ مِن حِراءٍ فَزِعًا لِتعرِضَهُ زَوجتهُ خديجة رضي الله عنها على ورقة بنِ نوفل لِيُعلِمَهُ ما كان له كالتَوطِئة: هذا الناموس الذي أُنزِلَ على موسى أي الوحي ، يا ليتني فيها جَذعَاً إذ يخرجك قومُك ليأتِ السؤال: أومُخرِجِيَّ هم ؟ ليسمع: لم يأتِ أحدٌ بمثلِ ما جئتَ به إلا عُودِي ، قال الله تعالى " مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ " آل عمران: 179، وقال تعالى " أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ " آل عمران: 142 ، " أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ " البقرة: 214 ، " وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ " آل عمران: 143

وعند أبي داود مِن حديث سعد بن أبي وقاص " أَشَدُّ النَّاسِ بَلاءً الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصالحون ثم الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ " صححه الألباني ، وسأل رجلٌ الشافعي: أيُّمَا أفضلُ للرجل: يُمَكَّنُ أو يُبتَلَى؟ فقال الشافعي: لا يُمَكَّنُ حتى يُبتَلَى فإن الله ابتلى نوحاً وإبراهيمَ وموسى وعيسى ومحمداً - صلوات الله وسلامه عليهم - فلما صبروا مَكَّنَهُم فلا يَظنُّ أحدٌ أن يَخلُصَ من الألمِ البتة اهـ

وقال أبو سعيد الهروي: عُرِضْتُ على السيفِ خمسَ مرات لا يُقال لي : ارجع عن مذهبك وإنما يُقالُ لي : اُسكت عمَّن خالفك فأقولُ: لا أسكت اهـ

فيا رب الثباتَ على رضاك حتى نلقاك

هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله مُولي النعمة ودافعِ النقمة وواسعِ الرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

عباد الله؛

علينا أن نتأمَّل حالَ صحابةِ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- فمنهم مَن قُتِل ومنهم مَن عُذِّب وآخرُ حُوصِر ورابعُ عن بلده هُجِّر كُلُ هذا بسبب عدم تقديمهم التنازلاتِ حولَ دينهم

أحمدُ بنُ حنبل إمامُ أهلِ السُنَّةِ بلا مُنَازع سُجِنَ لسنتين وأربعةِ أشُهُر وجُلِدَ بالسوطِ حتى أُغمِيَ عليه وفُرِضت عليه الإقامةُ الجبريةُ رَدحَاً مِن الزمن كُلُّ هذا ؛ لأنَّهُ أصر على ما يعتقده من أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

وشيخُ الإسلامِ ابنُ تيمية -الذي يَتباهى الموافقُ والمُخالِفُ بنقل كلامه- سُجِنَ سبعَ مراتٍ لِمُدَدٍ مُتَفَاوتة زادت في مجموعها على خمس سنوات حتى ماتَ في السجن كُلُّ هذا ؛ لعدم مُداهَنتهِ فيَّما يَعتقِدُهُ مِن الحق

الشيخُ المجاهدُ عمرُ المختار أعدمه الاستعمار الإيطالي شنقاً بسبب قيامه بما وجب عليه مِن فرضيةِ جِهَادِهم

في قائمةٍ مِن التضحياتِ تَجِلُّ عن الحصر تَكشِفُ لَكَ في مجموعها علو الهمة وأنَّهُ سلامةُ الدين ولو ذهبت الدنيا هذا هو كما جاءَ في شرع الله.

أصلحَ اللهُ الحال وأجارنا مِن غَلَبَاتِ الهوى وميلِهِ إذا مَال.

اللهم وفق إمامنا وليَّ أمرِنا ووليَّ عهده لما تحب وترضى وارزقه البطانة الصالحة الناصحة واحفظ جنودنا على الحد الجنوبي وانصرهم على الحوثيين.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

1436-10-30 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي