وحدة الصف

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 18 رجب 1436هـ | عدد الزيارات: 1697 القسم: خطب الجمعة

الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ.فاطر:1.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، خاتمُ الأنبياء والمرسلين، والمبعوثُ رحمةً للعالمين، وسيد ولد آدم أجمعين، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصَحَ الأمة، وجاهدَ في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغُرِّ الميامين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين

أما بعد

عباد الله اتقوى الله فهي الأُنس والسعة بعد الضيق

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ.الطلاق:2-3.

أيها المسلمون

يقول الله تعالى في مُحكم التنزيل"لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ"آل عمران:164

لقد كان الناس قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- في جاهليةٍ جهلاء، وفتنٍ وشر، القويُّ فيها يقهَر الضعيف، إذا سرقَ فيهم الشريف ترَكوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ظلمٌ وقهرٌ وقتلٌ ونهب، ظلماتٌ بعضها فوق بعض

حتى بعث الله رسوله بالهدى ودين الحق، فدعا إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وأخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فأقرَّ التوحيدَ الخالص، ونهى عن الشرك بالله، ومنعَ الظلم والبطشَ والعدوان، وأكرمَ المرأةَ المسلمةَ أيَّما إكرام، فجعل النساء شقائق الرجال، وقال مُؤكِّدًا "استوصُوا بالنساء خيرًا"رواه مسلم.

وأبطَل فوارق الجاهلية؛ فلم يُفرِّق بين أبيض وأسود، ولا بين شريفٍ وحقير، وإنما قال " وكونوا عباد الله إخوانًا " رواه مسلم

فصار داعيًا إلى ما أوحى إليه ربُّه ومولاه بقوله: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.الحجرات:13.

إنه الإسلام الذي جمع الناس بعد فُرقة، وأعزَّهم بعد ذِلَّة، ونصرهم بعد هزيمة، وألَّف بينهم بعد تنافُر، كما قال سبحانه: وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.الأنفال:68.

إنها الوحدة الإسلامية بكل ما تعنيه هذه الكلمة، الوحدة التي جمعتهم على إلهٍ واحد، ورسولٍ واحد، وكتابٍ واحد، حتى صارَت أمة الإسلام كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تدَاعَى له سائرُ الجسد بالحُمَّى والسهر، كما صحَّ بذلكم الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم-

ولم تكن هذه الوحدة يومًا ما مبنيةً على اللغة؛ لأن اللغة وحدها قد يتجاذبُها كافرٌ ومسلم، إضافةً إلى أن اللسان وحده لم يكن يومًا ما سبيلاً للوحدة، ولم تكن الوحدة يومًا ما قائمةً على الإقليمية والجنس، فالإسلام لا يُقيم للجنس وزنًا؛ لأن الناس كلهم لآدم، وآدم من تراب

وإنما قامت هذه الوحدة على أساسٍ جَمَعَ أرواح الناس قبل أن يجمع أجسادهم، وأقنع العقول بعد أن سيطر على القلوب، هذا الأساس كله هو عقيدةُ الإيمان التي أرادها الله للبشر عامة"صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ"البقرة:138، فصارت معايير الوحدة في رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- في توحيد الخالص سبحانه"وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا"النساء:36، وفي وحدة الرسول -صلى الله عليه وسلم-"فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ"الأعراف:15.، وفي وحدة الدين"وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ"آل عمران:85، وفي وحدة الكتاب"إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ"الإسراء:9، وفي وحدة القبلة"فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ"البقرة:144، وفي وحدة الأمة"وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ"المؤمنون:52

إن الأمة الإسلامية لن ترتقِي بنفسها إلا بالإسلام، ولن يكتمِل إسلامُها إلا بوحدتها، ولن يتحقَّق نصرُها إلا باجتماعها، وليس لانتصارها وهزيمتها علاقةٌ بقوة العدو أو ضعفه، بقدر ما هو لتفرُّقها وتنافُرها، فإذا وحَّدَت ربَّها، ثم وحَّدت صفَّها، فإنها منصورةٌ -بإذن الله- لا محالة"إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"محمد:7

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه

أما بعد

فيا أيها الناس لقد ميَّز الله أمة الإسلام وجعلهم عدولاً خيارًا بين سائر الأمم، كما قال تعالى "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا"البقرة:143، ولذا كانت شريعة الإسلام هي شريعة العدل والقسط والإنصاف، العدل مع النفس ومع الزوجات ومع الأولاد، ومع الأصدقاء، ومع الأعداء

وقد أمر الله سبحانه بالعدل ونهى عن الظلم في كتابه في أكثر من ثلاثمائة وخمسين آية، فالعدل هو ميزان الأرض، عملاً بقول الله تعالى في حق الآخرين "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ"النساء:135، وأما في حق الخصوم مسلمين كانوا أو غير مسلمين فإن الحد الأدنى في معاملتهم هو ما أمر الله به في قوله"وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى"المائدة:8.

ولذلك امتازت مرحلة الفتوح الإسلامية عبر التاريخ بسلوك العدل وقيمته السامية في جيوش المسلمين؛ فقد كانوا يفتحون البلاد تلو البلاد، لم ينهبوا فيها مالاً، ولم يقتلوا فيها شيخًا ولا امرأةً ولا طفلاً

وبهذا -عباد الله- نُوقِن أن المسلمين ضربوا أروع الأمثلة في الرحمة من دون ضعف، وفي القوة بغير عنف، فلم تكن فتوحاتهم بطشيةً ولا استكبارية، ولم يُمارِسوا ظلمًا سياسيًّا ولا عسكريًّا ولا اقتصاديًّا، ولم يكن للأنانية وإهلاك الحرث والنسل سبيلٌ فيها؛ إنما هي الدعوة إلى دين الله، ولإعلاء كلمة الله، ممزوجةً بالرحمة والعدل

عباد الله: إن امتلاك ما يُعدُّ دمارًا شاملاً أفرز حروبًا عالميةً كان ضحيتها الملايين من البشر

فلا مناص لنا من دين الرحمة والتراحُم، دين السلام والوحدة والأمن، دين العدل والقسط والإنصاف، ولا يكون ذلكم إلا برجوعنا إلى كتاب ربنا وسنة نبينا -صلى الله عليه وسلم-، والدعوة إليهما بكل صدقٍ وثبات على الوجه الذي أراده ربُّنا لنا

هذا؛ وصلُّوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بذلك في قوله"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا"الأحزاب:56

وقال -صلوات الله وسلامه عليه: " من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشرًا " رواه مسلم

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة أبي بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٍّ، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك يا أرحم الراحمين

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، واخذُل الشرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين

اللهم فرِّج همَّ المهمومين ونفِّس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين

اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم اجمع كلمتهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلِح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ألبِسه الصحة والعافية، واجعلهما عونًا له على طاعتك يا حي يا قيوم

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.البقرة:201.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

17 - 7 - 1436هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 6 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي