الإحسان

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 11 رجب 1436هـ | عدد الزيارات: 1629 القسم: خطب الجمعة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم .

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً. (الأحزاب:70-71)

عباد الله: إن تنشئة النفس المؤمنة على البر والتقوى والعفة والأمانة والخوف والمراقبة، هي وحدها الطريقة العملية الممكنة، لحل معضلة الشر والانحراف لدى المجتمع المسلم. أرأيتم الطفل، كيف يشب على الخُلق الكريم والنهج القويم، لو تعهده القيّم بالتوجيه والتقويم. وعلى العكس من ذلك، لو أهمل أمره، وتركه في مهب الريح، فإنه ينشأ شِرِّيرا، خطرا على نفسه ومجتمعه، ذلكم يا عباد الله أبرز مثل للنفس، حين ينشأ الفرد على مراقبة الله والخوف منه

عباد الله: روي عن أبي هريرة أن جبريل ـ عليه السلام ـ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، فقال له المصطفى صلى الله عليه وسلم: " أن تعبد الله، كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك" أخرجه البخاري.

الله أكبر إنه تعبير عجيب، تعبير يحمل في اختصاره حقيقة هائلة، إنها كلمات تحمل في طياتها قاعدة كبيرة، يقيم عليها الإسلام بناءه، هي أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك. قاعدة يقيم عليها نظمه كلها، وتشريعاته وتوجيهاته، نظام القضاء والاقتصاد والسياسة والأسرة نظام الحياة كلها، تعبد الله كأنك تراه، لأن الله "يَعْلَمُ خَائِنَةَ الاْعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ" (غافر:19)

وإنه لخير لك ، أيها المسلم ، أن تعبد الله كأنك تراه، خير لك أن تتوجه إلى حيث يرقبك خالقك فتأمن المفاجأة

أيها المسلمون، قول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الإحسان، يشير إلى أن العبد، يعبد الله على هذه الصفة وهي استحضار قربه، وأنه بين يديه كأنه يراه، لأنه يوجب الخشية والخوف والهيبة والتعظيم، وذلك أفضل الإيمان

وبه تفوز بوعد الله : لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ. (يونس:26)، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم عند مسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله ـ عز وجل ـ في الجنة ، فعن صهيب بن سنان الرومي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دَخَلَ أهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ، قالَ: يقولُ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالَى: تُرِيدُونَ شيئًا أزِيدُكُمْ؟ فيَقولونَ: ألَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ، وتُنَجِّنا مِنَ النَّارِ؟ قالَ: فَيَكْشِفُ الحِجابَ، فَما أُعْطُوا شيئًا أحَبَّ إليهِم مِنَ النَّظَرِ إلى رَبِّهِمْ عزَّ وجلَّ. وفي رواية: وزادَ ثُمَّ تَلا هذِه الآيَةَ: {لِلَّذِينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى وزِيادَةٌ} "، وهذا مناسب لجعله جزاء لأهل الإحسان؛ لأن الإحسان: هو أن يعبد المؤمن ربه في الدنيا، على وجه الحضور والمراقبة، كأنه يراه بقلبه وينظر إليه في حال عبادته، فكان جزاء ذلك، النظر إلى الله عيانا في الآخرة. وعكس هذا، ما أخبر به ـ تعالى ـ، عن جزاء الكفار في الآخرة: إِنَّهُمْ عَن رَّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ. المطففين:15 وجعل ذلك جزاء لحالهم في الدنيا، وهو تراكم الران على قلوبهم حتى حجبت عن معرفته ومراقبته في الدنيا، فكان جزاؤهم على ذلك أن حجبوا عن رؤيته في الآخرة

إن الإحسان على ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبغي أن يتجلى في الأمة بعامة، وفي كل شأن من شؤونها

أيها الناس: إن الإحسان بهذا المفهوم يُمكِّن للزوج وزوجته أن يتعاشرا بالمعروف وأن يصون كل واحد منهما عرضه في غيبة الآخر، ومطارق الخوف من الله ومراقبته تذكرهم بقوله ـ تعالى ـ عن يوسف ـ عليه السلام ـ: وَرَاوَدَتْهُ الَّتِى هُوَ فِى بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الاْبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ. (يوسف:23)

لقد اجتمع ليوسف ـ عليه السلام ـ من الدواعي لإتيان الفاحشة الشيء الكثير، فلقد كان شابا وفي الشباب ما فيه، وقد غلقت الأبواب وهي ربة الدار وتعلم بوقت الإمكان وعدم الإمكان، فكان ماذا؟ قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون. يوسف :23 استعاذة، وتنزه واستقباح لماذا؟ وما هو السبب؟ لأنه يعبد الله كأنه يراه، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ـ وذكر منهم ـ رجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله " .

والفرج يصدق ذلك أو يكذبه، يغيب الزوج عن زوجته اليوم واليومين والشهر والشهرين، فيحمل الإحسان المرأة، على صيانة عرض زوجها في غيبته، بعد أن فارقها مطمئنا إلى عرضه، وبيته وماله

إن أشرف ما تنافس فيه المتنافسون، وأفضل ما بذلت فيه الجهود، طلب العلم النافع؛ فهو الروح، يمد الجسد بالحيوية، وهو النور الوضاء، يبدد ظلمات الجهل، ويهدي إلى السبيل: أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَـاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِى النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَـاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مّنْهَ. الأنعام :122 وقال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء. فاطر:28

والعالم الرباني هو من تحقق فيه ذلك، وجمّل علمه بالعمل به، كما تتجمل المرأة بالحلة الحسناء، لأن العلم والعمل إنما يطلب به ما عند الله، من الدرجات العُلا، والنعيم المقيم، والقرب منه، والزلفى لديه، قال سفيان الثوري ـ رحمه الله ـ: "إنما فضل العلم لأنه يتقى به الله، وإلا كان كسائر الأشياء" فمن طلب بالعلم والعمل، سيادة على الخلق، وتعاظما عليهم، وإظهارا لزيادة علمه، ليعلو به على غيره، فهو متوعد بالنار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، : "مَنْ تعلَّمَ العلْمَ ليُباهِيَ بِهِ العلماءَ ، أوْ يُمارِيَ بِهِ السفهاءَ ، أوْ يصرِفَ بِهِ وجوهَ الناسِ إليه ، أدخَلَهُ اللهُ جهنَّمَ" صححه الألباني في صحيح الجامع .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا كما أمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاما لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وأصحابه

أما بعد :

عباد الله: إن من تأمل كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم عن الإحسان، علم أن جميع العلوم والمعارف، ترجع إلى هذا الحديث وتدخل تحته، وينتج عن هذا الإحسان الإحسان في العمل، بأن يؤدي الإنسان واجبه على أكمل وجه، بل الإحسان على كل شيء كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ اللَّهَ كَتَبَ الإحْسَانَ علَى كُلِّ شيءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فأحْسِنُوا القِتْلَةَ، وإذَا ذَبَحْتُمْ فأحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ." رواه مسلم

الله أكبر إنه يأمر بالإحسان حتى في ذبح الذبيحة: " فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ " إنه الحرص على إراحة الذبيحة، وهي تساق إلى الموت، وهنا تتجلى رحمة المسلم بالحيوانات، التي سخرها الله له، وجعلها في خدمته ومصلحته، فالإسلام دين الرحمة والرفق بالإنسان والحيوان، ففي الصحيحين أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: " بَيْنا رَجُلٌ يَمْشِي، فاشْتَدَّ عليه العَطَشُ، فَنَزَلَ بئْرًا، فَشَرِبَ مِنْها، ثُمَّ خَرَجَ فإذا هو بكَلْبٍ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ، فقالَ: لقَدْ بَلَغَ هذا مِثْلُ الذي بَلَغَ بي، فَمَلَأَ خُفَّهُ، ثُمَّ أمْسَكَهُ بفِيهِ، ثُمَّ رَقِيَ، فَسَقَى الكَلْبَ، فَشَكَرَ اللَّهُ له، فَغَفَرَ له، قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، وإنَّ لنا في البَهائِمِ أجْرًا؟ قالَ: في كُلِّ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أجْرٌ.

وفي مقابل جزاء من رحم الحيوان، نجد الرسول صلى الله عليه وسلم يقرر عقاب من أذى حيوانا وقسا عليه بقوله: "عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ في هِرَّةٍ سَجَنَتْها حتَّى ماتَتْ، فَدَخَلَتْ فيها النَّارَ، لا هي أطْعَمَتْها ولا سَقَتْها، إذْ حَبَسَتْها، ولا هي تَرَكَتْها تَأْكُلُ مِن خَشاشِ الأرْضِ." أخرجه البخاري ومسلم .

فاتقوا الله أيها المسلمون، وراقبوا ربكم، وتخلَّقوا بالإحسان تُفلحوا وتفوزوا بوعد الله لكم، إنه لا يخلف الميعاد

هذا، وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد بن عبد الله، الهادي البشير، والسراج المنير، رسول الله وخاتم أنبيائه، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن صحابة نبيك أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين

اللهم لا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا ولا بما فعل السفهاء منا، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وردهم إليك ردًّا جميلاً، اللهم انصر المستضعفين والمظلومين من المسلمين يا رب العالمين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين .

اللهم عليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم بأسك ورجزك إله الحق، اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين ووفقهم لما تحب وترضى، وخذ بنواصيهم للبر والتقوى، وانصر اللهم من نصر الدين، واخذل الطغاة والملاحدة والمفسدين

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(البقرة:201).

وصلِّ اللهمَّ على نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعينَ.

1436-7-10 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 9 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي