التوبة

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 8 ربيع الثاني 1435هـ | عدد الزيارات: 1812 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله رب العالمين غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب وأشهد أن لا إله إلا الله " يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات " الشورى 25 فضلا منه ونعمة وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله إمام العابدين وسيد التائبين اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه المقتدين به المتبعين لسنته أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون

أما بعد

فيقول الله تعالى: فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون.الزخرف:43.

أيها المسلمون: إن الإسلام يدعوا إلى الاستمساك بالحق والاعتصام به وفعل الخير والحرص عليه وعلى كل ما يصون المبادئ المثلى ويحفظ المثل العليا معلناً أن ذلك ضمان الكمال للإنسان وبلوغه الذروة، وكثيراً ما يضل الإنسان الطريق وينحرف عنه بوازع من الجهل أو استجابة لإغراء عابث أو شهوة جامحة الأمر الذي يهبط بمستواه الإنساني ويحول بينه وبين التطهر والتسامي فتسقط قيمته وينحط إلى الدرك الذي يعوقه عن النهوض بتبعات الحق والخير وتتجه قواه كلها إلى تحقيق ذاتيته وإشباع غرائزه وإيثاره مصالحه الخاصة وتنكره للمصالح العامة ويوم تخلو الدنيا من الضمائر والمثل تتحول الحياة إلى صراع يكون أشد هولاً وأبعد أثراً من صراع الحيوانات المفترسة في الغابات والإنسان قد تمر به ساعة تنام فيه قواه الروحية ويغفوا فيها ضميره وتستيقظ غرائزه ويسقط صريع الهوى والشهوة وفي خلال هذه المحنة فإن عليه أن يذكر أنه لم يخلق ملكا كريماً ولا بشراً معصوماً وإنما هو إنسان تتنازعه قوى الخير والشر فتارة تتغلب عليه طبيعة الخير الروحية فيسموا ويرتفع وتارة أخرى تتغلب طبيعة الشر فيخلد إلى الأرض ويتردى في حمأة الرذيلة وإن على الإنسان في هذه الحالة أن يصحح أخطاءه ويعالج أمراضه ويغسل نفسه مما يكون قد ران عليها ويستأنف العمل في الحياة في ثوب نقي نظيف قال تعالى " وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون " النور 31 ، والتوبة واجبة من جميع الذنوب ما ظهر منها وما بطن يقول صلى الله عليه وسلم " كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون " أخرجه الترمذي وصححه الألباني ، والتائب عبد رجع عما نهى الله عنه إلى ما أمر به وطلبه، وعن معصيته إلى طاعته وطلب وده وعما يكرهه إلى ما رضيه وأحبه، والتوبة تنظم الشعور بالألم الذي يقض على الإنسان مضجعه ويؤرق منه منامه ويزرع في قلبه الحسرة والندامة ويدفعه إلى الإقلاع عما تورط فيه من الرذيلة والعزم الأكيد على استئناف حياة صالحة فيما يستقبل من عمره فإن كانت حقوق للعباد ردها أو تحلل منها ومن ثم يقبل الله توبته ويغفر زلته ويكون من الصالحين من خليقته قال تعالى "يا أيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً " التحريم 8 ، توبة خالصة لوجه الله تعالى ليست لغرض أبداً ، توبة يرد صاحبها الحق وتنأى به عن الباطل توبة مخلصة تخلع على صاحبها العافية في دينه وتمزق الحجب بينه وبين خالقه ويقول سبحانه " وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفوا عن السيئات ويعلم ما تفعلون" الشورى 25 ، وعن أنس أنه صلى الله عليه وسلم قال " لله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط من على بعيره وقد أضله بأرض فلاة " رواه البخاري ، أي وجد بعيره بعد أن فقده في صحراء وذلك يعني المزيد من رضوان الله يوجبه للتائبين قال تعالى " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين " البقرة 222 ، ومن رحمة الله سبحانه أن فتح باب الأمل والرجاء أمام المخطئين ليتوب مسيئهم ويثوب إلى رشده شاردهم ويغفر لهم ما اقترفوا من إثم أو معصية قال تعالى" قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم " الزمر 53 ، وفي الحديث القدسي قال الله تعالى " يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة " رواه الترمذي وصححه الألباني .

أيها المسلمون إن فضل الله على عباده عظيم ورحمته بهم واسعه وأبوابه بين أيديهم مفتحة فهو يبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار

عباد الله: ليست التوبة بالأمر الذي يشق على الإنسان أو يتعذر عليه فعله فإن يقظت الضمير والشعور بالانحراف عن المنهج السوي ومحاولة العودة إليه والثبات عليه في نظر الإسلام توبة كما أن ذكر الله عز وجل والإحساس بالتقصير في حقه والتفريط في جنبه والإسراع إلى الإنابة والاستغفار والرجوع إلى إصلاح الخطأ من قريب والعمل على صلاح النفس وحياة القلب وبعث الضمير كل هذه توبة فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " مثل المؤمن مثل الإيمان كمثل الفرس في آخيته يجول ثم يرجع إلى آخيته وإن المؤمن يسهو ثم يرجع فاطعموا طعامكم الاتقياء وأولوا معروفكم المؤمنين " أخرجه أحمد وصححه المنذري ، (الآخية: العروة في الأرض أو العود في الحائط تشد إليه الدابة) ، أما أولئك الذين يصرون على الإثم ويتمادون فيه فإنهم قلما يشعرون بالألم الباعث على الندم مما يعيشون فيه من فراغ روحي وموت أدبي أورثهم الهوان وسلكهم في جحيم الحرمان قال تعالى: " والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوه وهم يعلمون أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين " آل عمران 135 ، 136 .

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله

أما بعد

عباد الله: إن التوبة لا تعني الضراعة باللسان فحسب أو التذلل والتخشع الظاهر من غير دليل أو برهان فحتى تكون التوبة صادقة فإنه لا بد معها من العمل الصالح المقترن بعمق الإخلاص وقوة اليقين قال تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى" طه 82 ، والعمل الصالح لا يقف عند لون معين من صلاة أو حج أو زكاة فحسب، فحسن الخلق يكفر الخطايا والجهاد في سبيل الله يمحو الذنوب ويرفع الدرجات والصبر على الشدائد مذهب للسيئات وكثرة الاستغفار وذكر الله عز وجل من أعظم ما يدفع الله به الشر ويحقق به الخير ويطهر به القلوب من دنس الرذيلة واجتناب الكبائر وحسن الظن بالله كل أولئك يكرم الله به العبد وينفى دنسه ويرفع به قدره ويذهب عنه به رجسه ويطهره تطهيراً قال تعالى " وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين واصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين " هود 114 ، 115 ، وعن أبي ذر ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسة تمحها وخالق الناس بخلق حسن " أخرجه الترمذي وصححه الألباني ، وما أجمل هذا التصوير لانسلاخ الإنسان المسلم من ذنوبه حتى يأتي الخير ويفعل المعروف فعن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال قال صلى الله عليه وسلم: " إن مثل الذي يعمل السيئات ثم يعمل الحسنات كمثل رجل كانت عليه درع ضيقة قد خنقته ثم عمل حسنة فانفكت حلقة ثم عمل حسنة أخرى فانفكت أخرى حتى يخرج إلى الأرض " أخرجه أحمد وصححه الألباني

أيها المسلمون: إنه لعجيب أن يبارز العبد مولاه بالعصيان وخيره إليه نازل وأن يستخدم نعمه فيما يغضبه وهو يؤمن بأنه على حبسها عنه قادر ويغفل عن مولاه ونعماؤه تذكره به في كل شأنه وينسى نظره إليه وهو أقرب إليه من نفسه فليتق الله امرؤ خالطة بشاشة الإيمان قلبه وليذكر أن الناقد بصير وأنه " ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هم سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا " المجادلة 7 ، ولتعلم أيها المسلم أن ذلك وحده عنوان إيمانك وأمارة الخشية لله عز وجل خالقك قال سبحانه " إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم " الأنفال 2-4 .

إن ذكر الله عز وجل يعني ألا ينساه العبد في شأن من شئونه فحركته وسكونه ويقظته ومنامه وفراغه وشغله كل ذلك لا بد أن يكون المؤمن فيه ذاكراً لمولاه موقناً برقابته الدائمة عليه في كل ما يأتي ويذر فحيث يكون المؤمن لا بد أن يكون هذا شأنه وبذلك يصبح أهلاً لعون الله في الشدة والرخاء والعسر واليسر ويمنحه من الصبر ما به يقهر عوامل الشر في نفسه ويصير أهلاً لعفو الله عنه وتقبله صالح عمله فإنما يتقبل الله من المتقين، اذكروا دائماً أيها المؤمنون أن اليوم عمل بلا حساب وغداً حساب ولا عمل وأنه إذا كانت نظرة الخلق إليك تحجزك عن المعصية فإن الله أولى بذلك منك فأصلح ما بينك وبينه وتقرب إليه بطاعتك عسى أن تكون ممن قال الله فيهم " إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً " الفرقان 70 ، قال صلى الله عليه وسلم : " يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب إليه في اليوم مائة مرة " أخرجه أحمد وصححه الألباني

اللهم اجعلنا من التوابين اللهم اطلق سراح المعتقلين في كل مكان واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين

هذا وصلوا على نبيكم وقوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله

ملحوظة : ألقيت هذه الخطبة عام 1427هـ

1435-4-8هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 3 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي