الشورى

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 28 ربيع الأول 1435هـ | عدد الزيارات: 1509 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله القائم على كل نفس بما كسبت والعالم بما قدمت وأخرت وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تفرد بأمر الخلق ودعاهم إلى أن يتعاونوا على البر والتقوى وأن يكون أمرهم فيما بينهم شورى وأشهد أن محمداً عبده ورسوله لم ينفرد دون أصحابه برأي ولا اتبع في حياته حكم الهوى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه الذين أخلصوا مع النبي صلى الله عليه وسلم جهادهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين

أما بعد

عباد الله: فيقول الله سبحانه مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين.آل عمران:159.

أيها المسلمون: تكشف هذه الآية الكريمة عن سر من أسرار وحدة المسلمين واجتماع كلمتهم حول النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما اتصفت به شخصية النبي صلى الله عليه وسلم من رحمة ورقة قلب وحدب على كل فرد فيهم ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف ذلك فظاً غليظ القلب لا نفضوا من حوله ولانهار بناء الأمة المحمدية من أول لحظة ولما قامت للإسلام قائمة وذلكم هو ما عناه الحق سبحانه في قوله "لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم"التوبة:128. ثم إن الله سبحانه بواسع حكمته يوجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يحفظ هذا الاجتماع الشامل ويبقى على الوحدة بين أبناء الأمة يوجهه إلى أن يشاور أصحابه في الأمر فإذا تمت له المشورة واطمأن قلبه إلى حل معين توكل على الله ومضى وأهم ما في هذه العبارة القرآنية "وشاورهم في الأمر"آلعمران:159. هو كلمة "الأمر" التي تشمل كل صغيرة وكبيرة من شئون المجتمع وهو تعبير تكرر في آية أخرى تقرر أن الشورى من صفات المجتمع المؤمن قال تعالى "وأمرهم شورى بينهم"الشورى:38. وهذه ملاحظة جديرة باهتمامنا فإن الله جلت قدرته وهو العليم بما يصلح حال الأمة لم يقصر الشورى على شئون الحرب أو على شئون الحكم أو على شئون الاقتصاد أو شئون الأسرة أو شئون القضاء بل جعل ذك كله داخلاً في مفهوم "الأمر" وأوجب فيه كله الشورى بين المؤمنين

والعجيب أن القرآن يمهد لإيجاب الشورى على المؤمنين تمهيداً خاصاً حين يصفهم أولاً بأنهم يستجيبون لله وبأنهم لا يقصرون في أداء فرائضه وأولها الصلاة فإذا تم لهم ذلك فهم جديرون أن يجعلوا الشورى قاعدة حياتهم وقانون أمرهم

ولو أهملوا الشورى فيما بينهم لاختل شرط من شروط صلتهم بالله وانهدم ركن عظيم من أركان مجتمعهم الإلهي فكان الشورى من عناصر الإيمان وهي من آيات الاستجابة لله

وقد استقر إجماع المسلمين على أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام وأجمعوا على أن الوالي الذي لا يستشير أهل العلم والدين واجب عزله وعلى أن الشورى تجري في إطار قوله تعالى "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"النحل:43. فواجب الحاكم أن يشاور العلماء فيما لا يعلم من أمور الدين والدنيا ويشاور القادة فيما يتعلق بالحرب ورجال الإدارة والاقتصاد فيما يتصل بتدبير مصالح البلاد وضرورة تطويرها ونهضتها فالأمر كله شورى فنظام المجتمع المسلم يوجب على الحاكم أو الولي أن يستشير ويوجب على المستشار أن يكون أميناً فيما يصدر من مشورة ، وعلى هذا كان نهج النبي صلى الله عليه وسلم وسننه لم يواجه مشكلة من مشكلات المجتمع الإسلامي الأول إلا لجأ إلى أصحابه يضع الأمر بين أيديهم ويطلب منهم آراءهم فعل ذلك في أخطر المواقف التي واجهها مع المشركين في غزوة بدر حين أتاه الخبر بمسير قريش فأخبر أصحابه واستشارهم فقال له المقداد وهو من المهارجرين والذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك حتى ننتهي إليه ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي يريد الأنصار فقام سعد بن معاذ وكان من الأنصار فقال أنا أجيب عن الأنصار كأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال أجل قال فامض يا رسول الله لما أردت فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت هذا البحر فخضته لخضناه معك ما بقي منا رجل واحد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سيروا على بركة الله فها هو ذا القائد محمد صلوات الله عليه لا يقرر مبدأ خوض المعركة إلا بعد أن يستشير كل الناس مهاجرين وأنصار لأنهم هم الذين سيقاتلون ولا بد أن يكونوا مقتنعين بخوض المعركة ولا بد أن يطمئن النبي والقائد إلى صدق عزائمهم وفي مرحلة الاستعداد لخوضها يبدوا لأحد الصحابة أن موقع معسكر المسلمين أضعف مما ينبغي وهو الحباب بن المنذر فيمضي إلى النبي ويقول له يا رسول الله إن هذا المكان الذي أنت به ليس بمنزل انطلق بنا إلى أدنى ماء من القوم ثم نبني عليه حوضاً فنشرب ونقاتل فيقتنع الرسول بالعرض ويقول: الرأي ما أشار به الحباب ويأخذ بمشورته لقد كانت حصيلة هذا الموقف واستشاراته كلها نصراً مؤزراً لجند الحق وأصحاب محمد القائد الذي لا ينفرد دون صحابته برأي ولا يستبد بموقف

ولقد وصفه الله بقوله "وما أنت عليهم بجبار"ق:45. وفي نهاية الغزوة وبعد أن وقع من المشركين أسرى كثيرون نجد النبي صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في مصيرهم على الوجه الذي ذكره القرآن الكريم في آخر سورة الأنفال، لقد بدأت الغزوة بالشورى وانتهت بها أيضاً

أيها المسلمون: اذكروا أن مبدأ الشورى قد نال في الإسلام أرحب مدى في تطبيقه حتى ألزم الله به المعصوم فقال له سبحانه "وشاورهم في الأمر"آل عمران:159. مع أنه كان يوحى إليه حكم الله في كل موقف وذلك ليسرى الإلزام إلى كل مسلم مسئول عن عمله وعن رعيته ما دام الدين لم يستثن حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن هنا قال خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم تولى أمر الناس: أيها الناس إني وليت عليكم ولست بخيركم فإن أحسنت فأعينوني وإن أخطأت فقوموني.صححه الأرناؤوط.

فإذا علمتم أن الشورى أساس من أسس الإيمان بالله وأنها قوام حياة الأمة فالتمسوها كما أمركم رسول الله عند أصحاب العقل وذوي العلم والدين وانتصروا بها للإسلام يعز بكم وتعزوا به فعن عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزيراً صدق إن نسى ذكره وإن ذكر أعانه وإذا أراد به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسى لم يذكره وإن ذكر لم يعينه.صححه الألباني.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيما لشأنه وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم

أما بعد

عباد الله: لكل منا مشكلات وكل منا لا يعدم في طريقه أن يجد أخاً يهديه إلى الخير ويشير عليه بالصالح من الأمر كما أنه قد يصادق رجلاً لا يخلص له في القول ولا يصدقه النصح وواجب الإنسان حين يحتاج إلى مشورة أن يتخير أصحاب الدين وذوي الخلق القويم والضمير الحي والقلب الطاهر وأن يتجنب أصحاب الهوى وذوي الأخلاق الفاسدة والضمير الميت والقلب المظلم ومن الناس من إذا استشرته أمرك بالمعروف ونهاك عن المنكر وحذرك من ظلم العباد ومن الناس شياطين أخبث من شياطين الجن يأمرون الناس بالمنكر وينهونهم عن المعروف ويدفعونهم إلى ظلم الضعفاء من عباد الله ويلبسون لهم مسوح الأتقياء لتضليلهم والله مطلع على كل شيء فإذا ظلمت عبداً من العباد فاعلم أنك سوف تحاسب حساباً عسيراً أنت ومستشارك الظالم "ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون"إبراهيم:42. وإذا انصفت عبداً من العباد من نفسك وأعطيته حقه فاعلم أن الله قد ادخر لك مثوبته ورضوانه أنت ومن أشار عليك بالعدل والإنصاف

وهذا الموقف ينطبق على كل فرد حاكماً كان أو محكوماً فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: كلكم راع ومسئول عن رعيته.رواه البخاري. ويقول أيضاً: ما بعث الله من نبي ولا كان بعده من خليفة إلا له بطانتان بطانة تأمره بالمعروف وتنهاه عن المنكر وبطانة لا تألوه خبالاً فمن وقي شرها فقد وقي.رواه النسائي وصححه الألباني.

أيها المسلمون: هذا هو دينكم الذي أراده الله لكم شرعة ومنهاجاً دستوراً تسير عليه حياتكم ويلتزم به كل مسئول فيكم حتى لو كان خادماً حتى لو كان أميراً فكلنا عباد الله، والله وحده هو صاحب الأمر ، ألا له الخلق والأمر

عباد الله: اعلموا أن الله يأمركم بالصلاة على نبيه فصلوا عليه اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين وتابعي التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين وأعلِ بفضلك كلمة الحق والدين وانصر المجاهدين في كل مكان وانصر من نصرهم واخذل من خذلهم وعادِ من عاداهم ووالِ من والاهم اللهم فك أسر المأسورين واغفر ذنب المذنبين واقبل توبة التائبين واغفر لنا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

1435-3-28هـ

ملحوظة : ألقيت هذه الخطبة لأول مرة عام 1407هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 5 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي