حقيقة التوكل

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأربعاء 28 ربيع الأول 1435هـ | عدد الزيارات: 1768 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله مدبر الملك والملكوت المنفرد بالعزة والجبروت بيده مقاليد السموات والأرض ومصاير الخلق كافة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إتقى الله فوقاه وتوكل عليه فكفاه واعتمد عليه فآواه وأيده بنصره

اللهم صل وسلم وبارك على محمد وعلى آله وأصحابه الذين توكلوا على مدبر أمرهم ومالك ناصيتهم فأحاطهم بعونه في الحياة ونعيمه بعد الممات أولئك هم المفلحون

أما بعد

عباد الله: إن من الإيمان تفويض الأمر لله والاعتماد عليه في السعي في الحياة، واستمداد العون منه في الشدة والرخاء، والاعتقاد بأنه الإله المدبر للملك الفعال لما يشاء، وأنه بيده وحده العطاء والمنع والرزق والحرمان والنصر والهزيمة والتقدم والتأخر والتوكل على الله زاد المؤمنين يثبتهم عند الفزع، ويدفعهم إلى الإقدام، ويملأ قلوبهم بالعزة عند السؤال والمؤمنون يجدون في توكلهم على الله راحة نفسية وطمأنينة قلبيه، فإذا أصابهم خير علموا أن الله المدبر هو الذي ساقه إليهم، فحمدوه وشكروا له وإن أصابتهم شدة أيقنوا أن الله هو الذي أصابهم بها اختباراً لهم أو لمصلحة تعود عليهم " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ " التوبة:51 ، وقد أرشد الله المؤمنين إلى التوكل عليه، ووصل قلوبهم به إذا سعوا في الحياة لتحقيق مطلب أو لاستدفاع ضر حتى تكون يد الله فوق أيديهم، وعنايته فوق تصرفهم " وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً " الطلاق:3.

وإذا تخلى الله عن الإنسان فلن تغني عنه قوته، ومهارته ولا ذكاؤه واستعداده والمؤمنون في أشد الساعات يوم تشتد الأهوال، ويحزب الأمر، وتكفهر الحياة لا يلتمسون إلا عون الله وفضله، ولا يطلبون إلا رعاية الله ومدده، وسرعان ما تزول عنهم بذلك الشدائد وتفرج عنهم الكربات "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ"آل عمران:173. وقد كان هذا الزاد عماد الأنبياء في جهادهم الشاق مع أعداء الله، وكان قولهم عندما يتألب الخصوم "وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا"ابراهيم:12. والله عز وجل قد حذر من الاعتماد على غيره في طلب الرزق ليعيش الإنسان عزيز النفس، مرفوع الرأس، عالي الهمة وبين أن ما سوى الله عبد مسخر لا ينبغي الاعتماد عليه "إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ"الأعراف:194. كما حذر من الاغترار بالقوة أو الكثرة أو السلاح عند مواجهة الخطوب فإن كل ذلك لا يجدي ما لم يكن معه من الله ظهير ومعين ولقد لقن الله المؤمنين درساً يوم حنين حينما أعجبوا بكثرتهم وظنوا أنها كافيتهم في النصر على الأعداء "ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئاً"التوبة:25. والإسلام وهو يرشد أتباعه إلى الاعتزاز بالله والثقة فيه والاعتماد عليه يدعوهم إلى اتخاذ الأسباب والسعي لتحقيق المطالب والأغراض

والتوكل على الله عمل جاد في الحياة وثقة في الله لا تواكل وكسل ولذلك يقول تعالى: نعم أجر العاملين الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون.العنكبوت:58.

وقد جاء إرشاد الإسلام واضحاً في اتخاذ أسباب الوقاية من الأمراض وذلك لا يتنافى مع التوكل على الله يقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا سمعتم الطاعون بأرض فلا تدخلوها وإذا وقع بأرض وأنتم فيها فلا تخرجوا منها"رواه مسلم. وهذا هو الحجر الصحي الذي تنادي به الأمم في هذا العصر قد سبق إليه الإسلام منذ قرون وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من إهمال الأسباب في ترك أواني الطعام والشراب مكشوفة خشية من سقوط الحشرات الضارة التي تسبب الأمراض فقال: أطفئوا المصابيح بالليل إذا رقدتم وأوكئوا الأسقية وخمروا الطعام والشراب.رواه البخاري.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعي وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم

الخطبة الثانية

الحمد لله وكفى والصلاة على المصطفى

أما بعد

عباد الله: اتقوا الله وتوكلوا عليه حق التوكل وافقهوا معنى التوكل واعلموا أن المسلمين الأوائل كانوا عاملين ومتوكلين يخوضون ميادين الحياة في التجارة والصناعة والزراعة والأبحاث الفكرية والعلمية أخذاً بالأسباب التي أرشدهم إليها الله وبذلك انفردوا بالسيادة والتقدم

وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم رائد العاملين والآخذين بالأسباب ويحث الناس على العمل ويتعوذ بربه من العجز والكسل

عباد الله: لقد بلي الإسلام في العهود الأخيرة بطائفة من الكسالى والمتواكلين ظنوا القعود عن طلب الرزق توكلاً وعاشوا عالة على العاملين وهم قادرون على العمل

وقد تكاسل رجل عن العمل وقعد عن أسباب الرزق في عهد أحمد بن حنبل ولما سأله عن سبب كسله وخموله قال: نظرت في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يقول "لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدوا خماصاً وتروح بطاناً"صححه الألباني. فتوكلت على الذي يرزق الطير فقال له الإمام: إنك لم تفقه الحديث فقد ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم أن للطير غدواً ورواحاً في سبيل الرزق ولو قعدت الطير في وكناتها ولم تطلب الرزق ما كان يأتيها

وتعاليم الإسلام تحذر من إهمال السبب فقد أهمل أعرابي بعيره من غير قيد أمام مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال توكلت على الله فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعقلها وتوكل.حسنه الألباني.

عباد الله: لقد اتجه الناس إلى الأعمال الوظيفية الحكومية والتجارية واهملوا الأعمال الحرفية المهنية مستعيبين العمل بها والعيب هو فيما حرم الله

اللهم اجعلنا من المتوكلين على الله حق توكله وممن فقه دينه

وصلى الله على نبينا محمد

1435-3-28هـ

ملحوظة : ألقيت هذه الخطبة لأول مرة عام 1408هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 4 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي