الإبتلاء (1)

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 18 ربيع الأول 1435هـ | عدد الزيارات: 1829 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله على قضائه وبلائه ونعمائه، أحمده تعالى لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأتوكل على الحي الذي لا يموت وأسبح بحمده وكفى به بذنوب عباده خبيراً.الفرقان:58.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بلغ رسالة ربه خير بلاغ، وقام بها خير قيام، إلى أن وافاه ما كتب عليه بقوله تعالى "ِإنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ* ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ"الزمر:30-31. صلوات الله وسلامه عليه، وعلى كل من ثبت على ما كان عليه نبيه إلى يوم الدين

أما بعد

عباد الله: لقد خلق الله الدنيا مليئة بالرزايا والبلايا، وخلق فيها الإنسان، وجعله معرضاً لأنواع الآلام والأحزان، فما من أحد إلا ويبتلى فيها بخير أو بشر، أو بهما معاً "وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً"الأنبياء:35.وقال تعالى "لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً"الملك:2. وأكثر الناس فيها بلاء الأنبياء ثم الصالحون، الأمثل فالأمثل يبتلى الإنسان على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتد بلاؤه، وليس ذلكم للمؤمن تعذيب أو دليل بغض فحاشاً حكمة الله وعدله، ولكنه ابتلاء واختبار يصقل قلب المؤمن، ويمحص نفسه ويعده إعداداً كاملاً لمواجهة الخطوب بصبر وثبات واحتساب، ليعظم بذلك أجره، ويضاعف ثوابه، ويطيب ويخلد ذكره "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا"السجدة:24. وليميز تعالى بالابتلاء الآخذين لدين الله بقوة وصدق، ويمحق به الكافرين ويفضح به المدّعين

والابتلاء في الدنيا ألوان وأشكال، وأهمها الابتلاء بالتكاليف الشرعية التي جاء بها الإسلام من أمر ونهي وتصديق، وغير ذلك، والابتلاء بالدنيا وما فيها من فتن المناصب والشهوات والشبهات، والابتلاء بانتعاش الباطل في بعض الأحيان، وتسلط الأعداء، وقلة النصير، والابتلاء بشيء من الخوف والجوع، ونقص في الأموال والأنفس والثمرات، وما إلى ذلك مما يبتلى به العباد في الدنيا

وإن أعظم وأقوى ما يتدرع به المؤمن لمجابهة ما قد يبتلى به في هذه الدنيا الصاخبة، هو الصبر الجميل الذي وجه تعالى العباد إليه وأمرهم به، يقول سبحانه "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ"البقرة:153.ويقول تعالى"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ"آل عمران:200.

عباد الله: هذا نداء ربكم، نداء الحق ووعد ذي الصدق الذي لا يخلف الميعاد، نداء ووعد للمؤمنين حقاً ولا سيما المصطفين منهم؛ لمتابعة تطبيق رسالة الله في أرضه ببصيرة واحتساب، نداء لهم بأن يصبروا على طاعة الله لا يصدهم عنها صاد مهما كانت الأحوال، أو ضاقت الأمور "رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ"النور:37. وأن يصبروا عن محارم الله؛ فيقصرون النفس الأمارة بالسوء، ويحبسونها عن متابعة الأهواء والميل للشهوات المحرمة، وأن يصبروا على أقدار الله المؤلمة، فإذا اشتد بهم خطب، أو نزلت بهم نازلة في نفس أو مال أو غير ذلك؛ صبروا محتسبين قائلين ما يقول الصابرون "إنا لله وإنا إليه راجعون، اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها"رواه مسلم. والصبر النافع ما كان عند الصدمة الأولى، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال مرَّ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بامرأةٍ تبكي عند قبرٍ فقال اتَّق اللهَ واصبر قالت إليكَ عَنِّي فإنكَ لم تُصَبْ بمصيبتي ولم تعرفْهُ فقيل لها : إنَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ، فأتت باب النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فلم تجد عندَهْ بوَّابِينَ فقالت لم أعرفْكَ فقال إنما الصبرُ عند الصدمةِ الأولى.رواه البخاري.

فاتّقوا الله، عباد الله: وأطيعوا الله فيما أمركم به من لزوم الصبر عند البلاء بأي نوع من أنواعه خيراً أو شراً؛ فإن الخير قد يُطغي، والشر قد يضعف، فاتّقوا الله، واصبروا صبر محتسب بصبره يبتغي به وجه الله والدار الآخرة.

وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله كتب على نفسه الرحمة يقيل العثرات ويعفوا عن الزلات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه.

أما بعد.

عباد الله: الشكر على النعماء والصبر على مر البلاء ديدن المؤمن وطابعه الذي يتسم به ولا تبطره النعم فيطغى ولا تضجره البلوى فيتصرف تصرف الحمقى.

رسم السلف رضوان الله عليهم أروع الأمثال في الشكر والصبر فكانوا بذلك خير قدوة للأجيال يسير على منهاجهم فيحرز الخلف ما أحرزه السلف من الخير والأجر جزاء الشكر والصبر.

ومن أمثلة ذلك ما مني به المسلمون في صدر الإسلام من التعذيب والتنكيل من الجاهليين فلم يزدهم ذلك إلا صبرا وإصرارا على الثبات وكان الرسول العظيم من قبله يحفز هممهم للزوم طريق الحق مهما صادفهم من محن ومهما اعترضهم من بلاء حتى لقد سأله أحدهم أن يدعوا الله في تخفيف ما ينالهم من المشركين ويستنصر لهم، فعن خباب بن الأرت رضي الله عنه قال شكونا إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهو متوسِّدٌ بُردةً له في ظلِّ الكعبةِ، فقلنا ألا تستنصرُ لنا ألا تدعو لنا فقال قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجلُ فيحفرُ له في الأرضِ، فيجعل فيها، فيجاء بالمنشارِ فيوضع على رأسِه فيجعلُ نصفين، ويمشط بأمشاطِ الحديدِ ما دون لحمه وعظمه، فما يصدُّه ذلك عن دينه، واللهِ لَيُتمَّنَّ هذا الأمرَ، حتى يسير الراكبُ من صنعاءَ إلى حضرمَوت، لا يخاف إلا اللهَ، والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تستعجِلون.رواه البخاري. وكانت نتائج هذا الصبر الجميل أن دانت لهم الدنيا وتهاوت تحت أقدامهم عروش الفرس والروم وعاشوا أعزة في دنياهم وشكروا الله على ما خولهم وأولاهم ثم خلف من بعدهم خلوف تعرف من أمرهم وتنكر ينتسبون إلى الإسلام ولا يطبقون تعاليم الإسلام تفت في عضدهم فتن الزمان ومحن الأيام وهم أبعد الناس عن شكر لقاء نعمه وعن صبر إزاء محنه إنهم ممن عناهم رب العزة بقوله "وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ"الحج:11. ومنهم من يتهم الله في عدله ويجوز عليه الظلم في حكمه عياذاً بالله ومن ذلك حديثه على الدوام الاعتراض على الملك العلام كيف أغنى هذا وأفقر ذلك وكيف رفع من شأن هذا ووضع من شأن ذلك كأنه لم يطرق سمعه يوماً قول ربه "لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ"الأنبياء:23. وقوله "نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات"الزخرف:32. ومن هذا شأنه لا يعرف قلبه إلى الشكر والصبر سبيلاً ومنهم من فقد سلطان الدين على نفسه واستولى عليه اليأس في حياته فعندما تعرض له أزمة أو يزعجه مطلب من مطالب الحياة أو يركبه الدين أو يحكم عليه بحكم قاس أو يمنى بالفشل في حياته الزوجية يغدوا ليضع حداً لشقائه ومتاعبه على زعمه ويستجيب لتزيين الشيطان ويقابل هذا الابتلاء بعدم الصبر فيخسر الدنيا والآخرة

اللهم لا تفتنا في ديننا وثبت المبتلى منا واغفر اللهم لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم وفق ولي أمرنا واحفظ جنودنا على حدودنا.

وصلى الله على نبينا محمد

1435-3-18

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 3 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي