الانتفاع بالوقت

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الأحد 14 محرم 1435هـ | عدد الزيارات: 2001 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله إلى العالمين بشيراً ونذيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله كان في الدنيا داعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً

أما بعد

عباد الله: إن الإحساس بالزمن يتفاوت من شخص إلى آخر، كما يختلف من أمة إلى أمة، ولم يعرف التاريخ أمة قدر دستورها الزمن، وعظم شأن الوقت كهذه الأمة المحمدية، التي حدثها الله سبحانه دائماً عن نفسه وعن خلقه حديثاً مقيساً بكل دقة، وذلك على سبيل التربية، كما هو من باب وصف نظام الكون "مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ" الملك: 3 لقد حدث الله عن خلق السموات والأرض، فذكر أنه كان في ستة أيام وحدث عن أمره وإرادته لما يوجد من مخلوقات فذكر أن ذلك يتم في غير زمان "إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ"يس:82 فأمره بعد الكاف والنون، وحدث عن علمه سبحانه بالخلق وأحوالهم، فذكر أن ذلك يتناول أدق الأمور، وأنه يتم على قياس دقيق بالغ الدقة، شامل لكل موجود "اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ" الرعد: 8 والمقدار هنا كما يكون وزنًا، يكون زمانًا أيضًا، وحدث سبحانه عن تسجيل أعمال الخلائق فذكر أن ذلك يتناول كل جزئية من أعمارهم، حتى ما لا يتصورون أنه يدخل في حساب "وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا" الكهف :49 وحدث سبحانه عن حسابه للخلق فذكر أنه لا تفته الخردلة ولا تسقط منه الذرة "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" الأنبياء: بل لقد حدثنا حديث عن طريق الحساب على الزمن الماضي والعمر الضائع في آيات بينات تتصدع لسماعها القلوب "قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ" المؤمنين:116 هذه هي الدقة الإلهية، التي حكاها لله سبحانه لعباده كما يتعلمون منها دروس الحساب الذي يضبط حياتهم ويرفع شأنهم ويدعم وجودهم ويجعلهم بحق أمة وسطا شهداء على الناس

عباد الله: إن الدقائق والثواني في أعمار الأمم، وفي حياة الأفراد لها وزن وحساب، فالساعات الطوال ليست في حقيقتها سوى دقائق وثوان، وضياع الثواني هو في حقيقته ضياع لتلك الساعات التي ينقضي بمرورها عمر الإنسان، وينتهي بها كفاحه من أجل الحياة ومن أجل التقدم ومن أجل الآخرة

والواقع أن الثروة التي يجمعها أي إنسان مكافح ليست سوى كمية من الزمن تحولت إلى ذهب وكان من الممكن أن تتحول إلى دخان ينبعث من نرجيلة كما كان من الممكن أن تتحول إلى شخير ينطلق من صدر نائم خامل، أو شهوة خاطفة تمضي وتخلف لصاحبها حسرة العمر على الضياع والغفلة وعذاب الضمير وحساب الآخرة.

نحن المسلمون مأمورون أن نحافظ على الوقت وأن نعمل حساب المستقبل في نصوص عقيدتنا وفي سلوك أسلافنا وفي شعائر ديننا الحنيف، فلقد أمرنا بالصلاة خمس مرات في أوقات معلومة ، وشرع الله الأذان إعلانًا لحلول الوقت، وإيذانًا ببدء تكليف جديد متجدد دائماً وحذر الله سبحانه المؤمنين أن يغفلوا عن إقام الصلاة ووعد الطائعين بثوابه إذ هم حافظوا عليها

كما جعل الإسلام من آدابه ألا يضيع وقت المؤمن في لغو الحديث، فلا وقت لدى المؤمن للغو، بل كل وقته للعمل الجاد المثمر "وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ" القصص: 55 بل لقد بالغ الدين في تحديد معالم الحلال والحرام في فريضة الصيام فجعلها مرتبطة بالفرق بين خط الضوء وخط الظلام وهو أمر دقيق القياس "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ" البقرة : 187 بهذه التربية الحكيمة وبهذا الحساب الدقيق حافظ المسلمون الأوائل على دينهم وأقاموا أحكام شريعتهم وأسسوا للدنيا حضارة شامخة دونها كل حضارة وقدموا لنا نماذج صالحة وقدوات لم يعرفها تاريخ الإنسان ففازوا بالحسنيين عزة الدنيا وسعادة الآخرة

كان المؤمن بالتزامه أوامر دينه وإحساسه بقيمة الزمن من حوله نموذجاً ممتازاً في صحته وفي قوله وفي تربيته لأهله وفي علاقاته بإخوانه وفي أدائه لواجبه وفي صدقه في معاملته وفي اطمئنانه المرتسم على وجهه وفي رضا نفسه الذي يشع من عينيه ويفيض على من حوله

وأنتم أيها المسلمون مدعون إلى أن تكونوا كأسلافكم فهماً للدين وتطبيقاً لأحكامه أنت أيها الفرد المسلم مدعو لتكون نموذجاً تتمثل فيه أوامر دينه أنت لست أقل من أي فرد في صفوف أعدائك بل إنك خير منه بالعقيدة والإيمان وهو أقل منك بالكفر والطغيان فحاول أن تحول وقتك إلى عمل صالح وإلى إنتاج مثمر وإلى نظام ناجح يعود عليك وعلى أمتك بالخير والتوفيق وأنتم أيها المسلمون على أبواب كفاح طويل تحاولون به أن تؤكدوا وجودكم في العالم في مواجهة قوى الشر والعدوان ولا سلاح لكم إلا الوقت الذي هو أمضى سلاح تستطيعون أن تحولوه إلى مصانع وإلى معامل وإلى مصادر للقوة وللثروة وللسلاح الذي تحاربون به عدو الله وعدوكم

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم

الخطبة الثانية

الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق وأمده بالمعجزات اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه

أما بعد

عباد الله: إذا كانت النعم فيضاً من المولى الكريم لا يقف تتابعه وغيثاً لا يكف هطوله كما قال تعالى "وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها"النحل:18 فإن من بين هذا الفيض نعمتين يغبن فيهما الكثير من الناس روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال "نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ"رواه البخاري. فالكثير ممن حفظ الله له الصحة ومتعه بالسمع والبصر والقوة ممن هو في ميعة الصبا ملأ السمع والبصر نضارة وبهاء وصحة وفتوة

الكثير من هؤلاء مغبون في صحته إذا لم يستعملها في طاعة الله وبلوغ مرضاته وإذا لم يوقفها للعمل على ما فيه سعادته وفلاحه في دنياه وآخرته فإن آفة النعم يا عباد الله الزوال بما في ذلك الصحة فكم من صحيح الجسم ممتلئ الإهاب ذهبت نضارة عافيته وسعى إلى الشيخوخة في خطوات سريعة فإذا لم يكن قد تغانم ماضي صحته وأيام نشاطه وزهرة شبابه واتخذ إلى ربه سبيلا وادخر عملاً صالحاً بل كان على العكس من ذلك أضاع الفرصة في اتباع الهوى وصرف صحته في النزوات الطائشة والشهوات المحرمة غُبن في صحته غبناً أعقبه حسرة وندامة وهيهات أن تجدي الحسرة والندامة بعد فوات الفرصة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من أصحابه فقال: أغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك.رواه الحاكم وصححه

والفراغ نعمة من نعم الله على عباده وهو خلو الوقت من الشواغل وخلو القلب من متاعب الحياة ومشاكلها فإذا من الله على العبد بالراحة من ذلك وصفا له الزمن أفلا يجدر به أن يؤدي شكر هذه النعمة بصرف أوقات فراغه في الأصلح والأمثل والأنفع بالنسبة له ولمجتمعه فيكرس جهوده في كل مجالات الخير مما يكسبه أجراً أو يرفع له في العالمين ذكرا ومجالات الخير ميدان لاستباق الفضائل وهو كفيل باشتغال الفراغ فمن قعد عن استباقه فقد غبن لإضاعة الفرصة والتقصير عن شكر النعمة أما من يقطع الوقت لهواً ولعباً ويشغل أوقات الفراغ بالعبث والمجون والتهريج أو في العكوف على كتب الأساطير والقصص نسيجة الخيال أو القصص الخليعة وأحاديث الغرام التي تستثير الغرائز الكامنة وتحرض على الرذيلة كل أولئك ممن اشتغل بالخسيس الأدنى وأضاع الوقت الثمين سدى وغبن غبناً فاحشاً وكان ممن عظمت مسئوليته أمام مسدي النعم ونوقش الحساب كما جاء في الحديث "لا تزول قدما ابن آدم يوم القيامة حتى يسأل عن خمس عن عمره فيما أفناه وعن شبابه فيما أبلاه وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وماذا عمل فيما علم"حسنه الألباني. وأقبح من هذا الفريق مسلكاً وأسوأ عاقبة وأكثر غبناً من قطع الفراغ في القيل والقال والتجسس لفلان على فلان طمعاً في جر مغنم لنفسه ومشي بالنميمة وأذاع الأراجيف وروج الأخبار الكاذبة وأشاع الفاحشة أو اشتغل بالمهاترات الفاضحة والهمز واللمز والسخرية والنيل من المسلمين والتشهير بهم أولئك يا عباد الله من "ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"الكهف:104. وهم ممن توعدهم الله بقوله "والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا"الأحزاب:58. وإن في امتداد آجالهم واتساع أوقات فراغهم وبالاً عليهم ومضاعفة لأوزارهم وفساداً لمجتمعهم

هذا وصلوا على نبيكم كما أمركم الله بذلك في محكم كتابه بقوله "إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين ءامنوا صلوا عليه وسلموا تسليما"الأحزاب56 وقال عليه الصلاة والسلام من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا رواه مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين وانصر عبادك الموحدين وأعل بفضلك كلمة الحق والدين اللهم اجعلنا من المنشغلين بإصلاح أنفسنا ومن تحت أيدينا ومن المساهمين في إصلاح المجتمع بأقوالنا وأفعالنا اللهم اسلل سخائم صدورنا ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين ءامنوا ولا تجعلنا حاسدين ولا محسودين واجعلنا صالحين مصلحين محسنين غير مفسدين وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر اللهم طهر قلوبنا من النفاق والرياء والسمعة اللهم عليك بالرافضة والصفويين وجميع المنافقين اللهم طهر الأقصى من دنس اليهود اللهم أعنا على مجاهدة أنفسنا ومن تحت أيدينا اللهم اجعلنا من المنتفعين بأوقاتنا والمستغلين لها فيما يقربنا إلى ربنا

اللهم وفق ولي امرنا وسدده واحفظ جنودنا على حدودنا

"ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار "البقرة:201وأدخلنا الجنة مع الأبرار واغفر لنا ولوالدينا ووالدي والدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين

عباد الله:" إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون"النحل:90 فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون " العنكبوت :45

1435-1-14

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

7 + 1 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي