الحمد لله وكفى والصلاة على المصطفى وبعد؛
(باب الاستنجاء).
الاستنجاء: استفعال في النجو وهو في اللغة القطع يقال: نجوت الشجرة أي قطعتها، وهو إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر وفي ذلك قطع لهذا النجس.
وفي الاصطلاح: إزالة خارج من سبيل بماء أو حجر، فآداب التخلي الاستنجاء والاستطابة والاستجمار، فالاستجمار والاستطابة يكونان بالماء والحجر، والاستجمار لا يكون إلا بالحجارة، والاستطابة سميت بذلك لأنها تطيب نفسه بإزالة الخبث والاستنقاء طلب النقاوة، قال ابن القيم في زاد المعاد عند سياق هديه صلى الله عليه وسلم عند قضاء الحاجة وكان يستنجى بالماء تارة ويستجمر بالأحجار تارة، ويمنع أهل الذمة من دخول بيت الخلاء إن حصل منهم تضييق أو فساد ماء أو تنجيس.
(حكم الاستنجاء):
قال الجمهور غير الحنفية وهو الصواب يجب الاستنجاء أو الاستجمار من كل خارج معتاد من السبيلين كالبول، أو الغائط، أو المذي، أو الودي، أو المني .
والاستجمار بالماء هو الأصل في إزالة النجاسة لقوله عليه السلام " ولا يستنجى أحدكم بدون ثلاثة أحجار " رواه مسلم، وهذا أمر والأمر يقتضي الوجوب، وليس على من نام أو خرجت منه ريح استنجاء باتفاق العلماء .
والاستبراء: طلب البراءة من الخارج حتى يتيقن من زوال الأثر و طلب براءة المخرج من أثر الرشح من البول ودليل طلب الاستبراء حديث ابن عباس " مَرَّ النبيُّ بحَائِطٍ مِن حِيطَانِ المَدِينَةِ، أوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: يُعَذَّبَانِ، وما يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ: بَلَى، كانَ أحَدُهُما لا يَسْتَتِرُ مِن بَوْلِهِ، وكانَ الآخَرُ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ." صحيح البخاري.
ويستحب عند دخول الخلاء قول : بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث".
قول: بسم الله، قبل الدخول سنة ؛ لما رواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال " سَتْرُ ما بينَ أَعْيُنِ الجِنِّ و عَوْرَاتِ بَنِي آدمَ إذا دخلَ أحدُهُمْ الخلاء أنْ يقولَ : بسمِ اللهِ " [صحيح الجامع للألباني]
و قول : اللهم إني أغوذ بك من الخبث والخبائث؛ لحديث أنس رضي الله عنه " كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ الخَلَاءَ قالَ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ. " [صحيح البخاري]، الخبث: الشر والخبائث: النفوس الشريرة وفائدة البسملة أنها ستر وفائدة هذه الاستعاذة: الإلتجاء إلى الله عز وجل من الخبث والخبائث لأن هذا المكان خبيث، والخبيث مأوى الخبثاء فهو مؤى الشياطين فصار من المناسب إذا أراد دخول الخلاء أن يقول :أعوذ بالله من الخبث والخبائث، حتى لا يصيبه الخبث وهو الشر ولا الخبائث وهي النفوس الشريرة وهذا القول يقوله قبل الدخول وإن كان في البر استعاذ عند الجلوس.، والخلاء: أصله المكان الخالي، وقوله أعوذ بالله: أي أعتصم والتجئ بالله عز وجل من الخبث والخبائث.
ويسن بعد الخروج من الخلاء قول "غفرانك" لحديث أم المؤمنين عائشة " أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ علَيهِ وسلَّمَ كان إذا خرجَ من الغائطِ قال غُفرانَكَ " صحيح أبي داود للألباني.
وغفرانك: غفران مصدر غفر يغفر غفراً وغفرانا كشكر يشكر شكراً وشكران، والمغفرة هي ستر الذنب والتجاوز عنه فالمعنى اغفر لي أي استر ذنوبي وتجاوز عني حتى أسلم من عقوبتها ومن الفضيحة بها.
ومناسبة قول غفرانك هنا: أن الإنسان لما تخفف من أذية الجسم تذكر أذية الإثم فدعا الله أن يخفف عنه أذية الإثم كما من عليه بتخفيف أذية الجسم وهذا معنى مناسب من باب تذكر الشيء بالشيء.
ويسن أن يقدم رجله اليسرى عند دخول الخلاء ويقدم اليمنى إذا خرج وهذه مسألة قياسية فاليمنى تقدم عند دخول المسجد كما جاءت السنة بذلك واليسرى عند الخروج منه فدخول الخلاء عكس دخول المسجد، كذلك الفعل ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أمر لابس النعل أن يبدأ باليمنى عند اللبس وباليسرى عند الخلع لقوله صلى الله عليه وسلم :" إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ باليَمِينِ، وإذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بالشِّمَالِ، لِيَكُنِ اليُمْنَى أَوَّلَهُما تُنْعَلُ، وَآخِرَهُما تُنْزَعُ. " صحيح البخاري.
والسنة إذا كان في فضاء أي ليس فيه جدران أو أشجار ساترة أو جبال فإنه يبعد في الفضاء حتى يستتر أثناء قضاء حاجته؛ لحديث المغيرة بن شعبة قال " كُنْتُ مع النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ في سَفَرٍ، فَقالَ: يا مُغِيرَةُ خُذِ الإدَاوَةَ، فأخَذْتُهَا، فَانْطَلَقَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حتَّى تَوَارَى عَنِّي، فَقَضَى حَاجَتَهُ، " صحيح البخاري.
أيضاً من المرؤة والأدب ما هو ظاهر، واستتار بدنه كله أفضل وأما استتاره بالنسبة للعورة فهو أمر واجب، قال ابن القيم في الهدي وكان إذا ذهب في سفرة للحاجة انطلق حتى يتوارى عن أصحابه ، ويستحب له أن يطلب لمكان بوله لا غائطه مكاناً رخواً لأنه أسلم من رشاش البول.
والأفضل ألا يدخل بشيء فيه ذكر الله تعالى لمكان قضاء الحاجة إلا لحاجة كالأوراق النقدية التي فيها اسم الله فلو وضعها عند باب الخلاء صارت عرضة للنسيان.
وينبغي للإنسان في المصحف خاصة أن يحاول عدم الدخول به ويكره رفع ثوبه قبل دنوه من الأرض إذا لم يكن أحدا ينظره وإلا حرم كشف عورته قبل دنوه من الأرض، ولا ينبغي أن يتكلم حال قضاء الحاجة إلا لحاجة كما قال الفقهاء، رحمهم الله، كأن يرشد أحداً أو كلمه أحد لا بد أن يرد عليه أو كان له حاجة في شخص وخاف أن ينصرف أو طلب ماء فلا بأس، فعن المهاجر بن قنفذ:" أنَّهُ أتى النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَهوَ يبولُ فسلَّمَ عليهِ فلم يردَّ عليهِ حتَّى تَوضَّأ ثمَّ اعتذرَ إليهِ فقالَ إنِّي كَرِهْتُ أن أذكرَ اللَّهَ عزَّ وجلَّ إلَّا علَى طُهْرٍ أو قالَ علَى طَهارةٍ " صحيح أبي داود للألباني.
ويكره البول في شق ونحوه وتزول الكراهة بالحاجة كأن لم يجد إلا هذا المكان المتشقق والعلة في الكراهة خشية أن يكون في هذا الحجر شيء ساكن فتفسد عليه مسكنه أو يخرج وأنت على بولك فيؤذيك وربما تقوم بسرعة فلا تسلم من رشاش البول ، ويكره مس فرجه بيمينه حال قضاء الحاجة، والفرج يطلق على القبل والدبر لحديث أبي قتادة " إِذَا شَرِبَ أحَدُكُمْ فلا يَتَنَفَّسْ في الإنَاءِ، وإذَا أتَى الخَلَاءَ فلا يَمَسَّ ذَكَرَهُ بيَمِينِهِ، ولَا يَتَمَسَّحْ بيَمِينِهِ." صحيح البخاري، والأحوط أن يتجنب مسه مطلقاً ولكن الجزم بالكراهة إنما هو حال البول للحديث وفي غير حال البول محل احتمال فإذا لم يكن هناك داعٍ ففي اليد اليسرى غنى عن اليد اليمنى وتعليل الكراهة أنه من باب إكرام اليمين، كما يكره الاستنجاء والاستجمار باليمين لحديث أبي قتادة السابق ذكره ، والفرق بينهما أن الاستنجاء بالماء والاستجمار بالحجر ونحوه فيكره لنهي النبي صلى الله عليه وسلم وأما التعليل فهو إكرام اليمين، أما إذا احتاج إلى الاستنجاء أو الاستجمار بيمينه كما لو كانت اليسرى مشلولة فإن الكراهة تزول.
ويحرم استقبال القبلة واستدبارها في غير بنيان لحديث أبي أيوب رضي الله عنه: " أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ قالَ: إذَا أتَيْتُمُ الغَائِطَ فلا تَسْتَقْبِلُوا القِبْلَةَ، ولَا تَسْتَدْبِرُوهَا ولَكِنْ شَرِّقُوا أوْ غَرِّبُوا قالَ أبو أيُّوبَ: فَقَدِمْنَا الشَّأْمَ فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ القِبْلَةِ فَنَنْحَرِفُ، ونَسْتَغْفِرُ اللَّهَ تَعَالَى " صحيح البخاري.
والأصل في النهي التحريم وذلك في الفضاء، والتعليل: احترام القبلة في الاستقبال والاستدبار، ويكره مُكْثُهُ فوق حاجته؛ لأن في ذلك كشفاً للعورة بلا حاجة، ولأن الخشوش والمراحيض مأوى الشياطين والنفوس الخبيثة فلا ينبغي أن يبقى في هذا المكان الخبيث.
ويحرم البول والغائط في الطريق لما رواه مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ قالَ: اتَّقُوا اللَّعَّانَيْنِ قالوا: وَما اللَّعَّانَانِ يا رَسُولَ اللهِ؟ قالَ: الذي يَتَخَلَّى في طَرِيقِ النَّاسِ، أَوْ في ظِلِّه."
والعلة أن البول في الطريق أذية للمارة وإيذاء المؤمنين محرم قال تعالى:{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا }(الأحزاب 58)
فالبول أو الغائط في الظل النافع حرام إلا في مكان لا يجلس فيه كما يحرم البول تحت الشجرة المثمرة
ويشترط للاستجمار بأحجار ونحوها أن يكون طاهراً منقياً غير عظم وروث وطعام ومحترم ومتصل بحيوان، فالاستجمار بنحو الأحجار مثل الطين اليابس المتجمد والتراب والخرق والورق وما أشب ذلك كالخشب، بشرط ألا يكون نجساً بعينه ولا طرأت عليه النجاسة، فعن سلمان الفارسي رضي الله "قِيلَ له: قدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ كُلَّ شيءٍ حتَّى الخِراءَةَ قالَ: فقالَ: أجَلْ لقَدْ نَهانا أنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ لِغائِطٍ، أوْ بَوْلٍ، أوْ أنْ نَسْتَنْجِيَ باليَمِينِ، أوْ أنْ نَسْتَنْجِيَ بأَقَلَّ مِن ثَلاثَةِ أحْجارٍ، أوْ أنْ نَسْتَنْجِيَ برَجِيعٍ، أوْ بعَظْمٍ.". صحيح مسلم
والمقصود بالاستجمار أن يحصل به الانقاء بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستنجي بأقل من ثلاثة أحجار .
ولا يجوز الاستجمار بشيء محترم، والمحترم ماله حرمة مثل: كتب العلوم الشرعية والدليل قوله تعالى :{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ۗ }(الحج 30)
ويشترط ثلاث مسحات منقية فأكثر والدليل على ذلك حديث سلمان الفارسي السابق ذكره، والغالب أنه لا إنقاء بأقل من ثلاثة أحجار؛ ولأن الثلاثة كمية رتب عليها الشارع كثيراً من الأحكام.
ويسن قطعه على وتر أي قطع الاستجمار والمراد عدده فإذا نقي بأربع زاد خامسة وإذا نقي بست زاد سابعة والدليل ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ، من اسْتَجْمَرَ فلْيُوتِرْ" صحيح الجامع للألباني، واللام للأمر، فالأمر بالثلاث للوجوب وما زاد على الثلاث فالأمر للاستحباب .
وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وبالله التوفيق
1434/8/9 هـ