الدرس الحادي والستون : كتاب الجنائز (2)

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 10 جمادى الأولى 1434هـ | عدد الزيارات: 1912 القسم: شرح زاد المستقنع -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وبعد:

قوله:" فإذا مات سُنَّ تغميضُه وشدُّ لَحْيَيْه، وتليينُ مفاصِلِه وخلعُ ثيابِهِ، وسترُه بِثَوبٍ ".

إذا تحققنا موتَه فَشَخَصَ بصرُه سُنَّ تغميضُه، فقد :" دَخَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ علَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّ بَصَرُهُ، فأغْمَضَهُ، ثُمَّ قالَ: إنَّ الرُّوحَ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ البَصَرُ، فَضَجَّ نَاسٌ مِن أَهْلِهِ، فَقالَ: لا تَدْعُوا علَى أَنْفُسِكُمْ إلَّا بخَيْرٍ؛ فإنَّ المَلَائِكَةَ يُؤَمِّنُونَ علَى ما تَقُولونَ ...". رواه مسلم عن أم سلمة رضي الله عنها.

وينبغي عند التغميض أن يدعو بما دعا به النبي صلى الله عليه وسلم لأبي سلمه:" اللَّهُمَّ اغْفِرْ لأَبِي سَلَمَةَ، وَارْفَعْ دَرَجَتَهُ في المَهْدِيِّينَ، وَاخْلُفْهُ في عَقِبِهِ في الغَابِرِينَ، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهُ يا رَبَّ العَالَمِينَ، وَافْسَحْ له في قَبْرِهِ، وَنَوِّرْ له فِيهِ."، رواه مسلم ، فيكون هنا سُنَّة فعلية وسُنَّة قولية: الفعلية هي تغميض العينين ، والقولية هو هذا الدعاء.

قوله:"وشدُّ لَحْيَيْه،"، يستحب ذلك، لئلَّا يبقى فمُه مفتوحًا؛ فيدخُلَ فيه الهوامُّ، أو الماءُ أثناء غُسْلِه . "وتليين مفاصله" يستحب أن تُلَيَّنَ مفاصلُ اليدين والرجلين، وذلك بأن يرد الذراع إلى العضد ثم العضد إلى الجنب ثم يردهما وكذلك مفاصل الرجلين بأن يرد الساق إلى الفخذ ثم الفخذ إلى البطن ثم يردهما قبل أن يبرد لأنه إذا برد بقي على ما هو عليه وصعب تغسيله فيكون مشتدا لكن إذا لينت المفاصل صارت لينة عند الغسل وعند التكفين وربط الكفن فسهل على الغاسل والمكفن التغسيلُ والتكفينُ ولكن يجب أن تلين برفق وليس بشدة؛ لأن الميت محل الرفق والرحمة.

قوله:"وخلعُ ثيابِه " يُستحَبُّ نزْعُ ثيابِ الميِّتِ عقبَ موتِه برفق؛ وذلك لئلَّا يَحْمَى جَسَدُه فيَسْرُعَ فسادُه ويتغَيَّر.

ودليل خلع ثيابه قول الصحابة حين مات صلى الله عليه وسلم:" هل نجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نجرد موتانا ". أخرجه أحمد وصححه الألباني.

قوله :"وسترُه بِثَوبٍ" وستر الميت بثوب يكون شاملاً للبدن ودليل ذلك " أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ تُوُفِّيَ سُجِّيَ ببُرْدٍ حِبَرَةٍ." أخرجه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه، والبرد : ثوب يلتحف به يشمل كل الجسد.

والحبرة : برود يمانية معروفة في ذلك العهد تأتي من اليمن ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يجرد من ثيابه بل بقيت ثيابه عليه وستر بثوب.

قوله:"ووضعُ حديدةٍ على بطنهِ، ووضعه على سرير غسله، متوجها منحدرا نحو رجليه، وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة، وإنفاذ وصيته، ويجب في قضاء دينه. "

قوله :"ووضعُ حديدةٍ على بطنهِ،" لئلَّا ينتفِخَ بطنه. ويستغنى عن ذلك بأن يوضع في تلاجة إذا كان هناك ضرورة لتأخير دفنه.

قوله:"ووضعه على سرير غسله، " يُستَحَبُّ وضْعُ الميِّتِ على سريرٍ، وذلك للآتي:
أوَّلًا: لئَلَّا يُصيبَه نداوةُ الأرضِ؛ فيتغَيَّرَ بنداوَتِها.

ثانيًا: ليبعُدَ عن الهوامِّ.

قوله"متوجها منحدرا نحو رجليه"؛ ويوجه الميتُ نحو القبلة، ويكون رأسه أعلى من رجليه؛ ليسهل ما كان مستعدا للخروج من بطنه.

قوله:"وإسراع تجهيزه إن مات غير فجأة" ينبغي أن يسرع بتجهيز الميت إن مات غير فجأة، وذلك بتغسيله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أَسْرِعُوا بالجِنَازَةِ، فإنْ تَكُ صَالِحَةً فَخَيْرٌ تُقَدِّمُونَهَا، وإنْ يَكُ سِوَى ذلكَ، فَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عن رِقَابِكُمْ. صحيح البخاري عن أبي هريرة .ومن هنا: لا يجوز حبسه وتأخيره إلا لضرورة وحاجة.

أما إن كان موته فجأة فإنه لا يسرع بتجهيزه ، فربما يكون مغشيًا عليه غيرَ ميِّت فيكون في ذلك قتلُ نفسٍ.

قوله:"وإنفاذ وصيته، " أنفذ الشيء: إذا أتمه وقام به، وإنفاذ الأمر: المضي به، فقد يوصي الإنسان بحقوق عليه لله عز وجل وحقوق لعباده، فيعمل بهذه الوصية، وهناك وصايا معجلة لا تحتمل التأخير، كأن يقول مثلاً: إذا أنا مت فيتولى تغسيلي فلان من أهل العلم أو من أهل الصلاح والخير، فيأمر بأن يغسله، وهذا شيء درج عليه السلف رحمة الله عليهم، وقد أوصى أبو بكر أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس رضي الله عنها.أخرجه البيهقي وابن عبد الرزاق وابن شيبة ، كما أوصى أنس بن مالك أن يغسله ابن سيرين ، أخرجه بن سعد في الطبقات.

قوله :"ويجب في قضاء دينه"، إذا مات الشخص وعلم موته بيقين ، استحب لورثته استحبابًا شديدًا أن يقضوا دين الرجل إذا لم يكن لديه مال أو ترك تركة لا تفي بقضاء الدين، أما إذا كان لديه مال وجب عليهم قضاء دينه من تركته. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على الجنازة إذا كان عليه دين ويقول:" صلوا على صاحبكم ". صحيح البخاري، عن سلمة بن الأكوع.

قوله: "فَصْلٌ: غَسْلُ الميتِ وتكفينُه والصلاةُ عليه ودفنُهُ فرضُ كفايةٍ "

قوله:"غسل الميتِ لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته يوم عرفه:"اغْسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ،" . أخرجه البخاري ومسلم .

ولقوله صلى الله عليه وسلم للنساء اللاتي يغسلن ابنته:" اغْسِلْنَهَا ثَلَاثًا، أَوْ خَمْسًا، أَوْ أَكْثَرَ مِن ذلكَ، بمَاءٍ وسِدْرٍ، واجْعَلْنَ في الآخِرَةِ كَافُورًا، " صحيح البخاري.

قوله :"وتكفينُه" لقوله صلى الله عليه وسلم في الذي وقصته ناقته يوم عرفه: :" اغْسِلُوهُ بمَاءٍ وسِدْرٍ، وكَفِّنُوهُ في ثَوْبَيْنِ،" رواه البخاري.

قوله :"والصلاةُ عليه "ودليل الصلاة عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي على الأموات باستمرار وكان يقول:" صلوا على صاحبكم ". رواه البخاري.

قوله :"ودفنه" فعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِيَ اللهُ عنه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: "اذهبوا، فادْفِنوا صاحِبَكم" رواه مسلم.

قوله :"فرض كفاية " أي أن حكم هذه المسائل الأربع وهي: غَسْلُ الميتِ وتكفينُه والصلاةُ عليه ودفنُهُ فرضُ كفايةٍ ، وفرض الكفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين.

قوله:"وأولى الناس بغسله وصيه " لو تنازع الناس فيمن يغسل هذا الميت فأولى الناس الذي أوصى أن يغسله ،فقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه أن تغسله امرأته. أسماء بنت عميس رضي الله عنها ، أخرجه مالك في الموطأ.

قوله:"ثم أبوه ثم جده ثم الأقرب فالأقرب من عصباته، ثم ذوو أرحامه " الأولى بالغسل بعد الوصي أبوه ثم جده من قبل الأب، ثم الأبناء وإن نزلوا، ثم الإخوة وإن نزلوا، ثم الأعمام وإن نزلوا، الأقرب فالأقرب من عصباته وهذا عند المشاحة.

قوله:" ثُّمَّ ذَوو أرحامِهِ " أي: أصحاب الرحم، وهم كل قريب ليس بذي فرض ولا عصبة فأب الأم مثلاً من ذوي الأرحام.

قوله:"وأنثى: وصيتُها" الأولى بتغسيل المرأة وصيتها.

قوله:"ثم القربى فالقربى من نسائها" أمُّها وإنْ علتْ ثم ابنتها وإنْ نزلت ثم أختها من أب أو أم أو شقيقتها ثم عماتها فخالاتها إلى آخره.

قوله:" ولكلٍّ من الزوجين غَسْلُ صاحِبِه "الزوج له أن يغسل زوجته إذا ماتت والزوجة لها أن تغسل زوجها إذا مات. فقد أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن تغسله زوجته أسماء بنت عميس كما غسَّلَ عليٌ بنُ أبي طالب زوجته فاطمة رضي الله عنها.

قوله:"وكذا سيِّدٌ مع سُرِّيَّتِه" المراد مع أمته، ولو لم تكن سريته، فلو قدر أنها مملوكة لكن لم يتسرها أي لم يجامعها ثم مات فله أن تغسله ويغسلها.

قوله:"ولرجل وامرأة غسل من له دون سبع سنين فقط" البنت الصغيرة التي دون السبع لا حرج على الرجل في تغسيلها، سواء كان محرمًا لها أو أجنبيًا عنها؛ لأنها لا عورة لها محترمة، وهكذا المرأة لها تغسيل الصبي الذي دون السبع.

قوله:"وإن مات رجل بين نسوة " أي إن مات رجل بين نسوة ، وكذا من له سبع سنين فأكثر فإنهن لا يغسلنه إلا أن يكون معهن زوجة له أو أمة .

قوله :"أو عَكْسُهُ يممت" أي إن ماتتْ امرأةٌ بين الرجال فإنهم لا يغسلونها إلا أن يكونَ أحدُ الرجال زوجًا أو سيدًا.

قوله:" كخنثى مشكل" وهو الذي لا يُعلم أذكرٌ هو أم أنثى. فإنه متى تعذر غسل الميت فإنه يُيَمَّمُ، بأن يضرب رجل أو امرأة التراب بيديه ، ويمسح بهما وجْهَ الميِّتِ وكفيّه.

قوله:"ويَحْرُمُ أن يغسلَ مسلمٌ كافراً أو يدفنَهُ بل يُوَارَى لِعَدَمِ"؛ لقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم :{ وَلَا تُصَلِّ عَلَىٰ أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَىٰ قَبْرِهِ ۖ } (التوبة 84) فما دون الصلاة يكون من باب أولى .

قوله :"أو يدفنَه " أي يحرم أن يدفنه كدفن المسلم.

قوله:"بل يوارى لِعَدَمِ "الأصل في الكافر إذا مات أن يُواريه أقاربه، فإن عدم أهله وأقاربه يواريه المسلمُ في حفرة حتى لا يتأذَّى به الناس.

قوله :"وإذا أخذ في غسله ستر عورته، وجرده وستره عن العيون "أي: وإذا شرع في تغسيله ستر عورته وجوباً وهي بالنسبة للرجل ما بين السرة والركبة، وكذلك بالنسبة للمرأة مع المرأة ما بين السرة والركبة وذلك بأن يلف على عورته لفافة ثم يجرده من ثيابه، ودليل ذلك أثر ونظر، أما الأثر فقول الصحابة حين أرادوا تغسيل النبي صلى الله عليه وسلم هل نجرد رسول الله كما نجرد موتانا وأما النظر فلأن تجريده أبلغ في تطهيره والمقام يقتضي التطهير وكلما كان أكمل فيه كان أفضل وينبغي أن يغسله في مكان لا يراه الناس إما في حجرة أو في خيمة إن كان في بر وما أشبه ذلك لأن ستر الميت عن العيون أولى من كشفه فإن الميت قد يكون على حال مكروهة فيكون ظهوره للناس نوعاً من الشماتة به.

قوله :"ويكره لغير معين في غسله حضوره"أي: ويكره أن يحضره شخص إلا من احتيج إليه لمعونته وذلك لأنه ربما يكون في الميت شيء لا يحب أن يطلع عليه الناس كالجروح أو أن فيه عيباً من برص أو نحوه لا يحب أن يطلع عليه الناس.

قوله :"ثم يرفع رأسه إلى قرب جلوسه ويعصر بطنه برفق ويكثر صب الماء حينئذ" ؛لإنه ربما يكون في بطنه شيء من القذر متهيئاً للخروج فيخرج ، فلو لم يتم عصرُ بطنه فربما مع تقليبه في غسله وتكفينه يخرج منه قذر.

قوله" "ثم يلف على يده خرقة فينجّيه "فإذا فعل ما ذكر وخرج ما كان مستعداً للخروج يلف على يده خرقه وإذا كان هناك قفازان، فإنه يلبسه ثم ينجيه فيغسل فرجه مما خرج منه وما كان قد خرج قبل وفاته ولكنه لم يستنج منه فينجيه بها .

قوله :"ولا يحل مسُّ عورةِ مَنْ له سبعُ سنينَ" أي يجب أن يضع خرقة على يده أو قفازًا إذا كان الميت له سبع سنين فأكثر، فأما إذا كان دون ذلك فله أن ينجيه مباشرة؛ لأنه ليس لعورته حكم بل عورته مثل يده، ولهذا يجوز النظر إليها ولا يحرم مسها .

قوله:"ويستحب أن لا يمس سائره إلا بخرقة " هذه خرقه ثانية جديدة غير الأولى يضعها على يده لأجل أن يكون ذلك أنقى للميت، لأنه إذا دلكه بالخرقة كان أنقى له مما لو دلكه بيده .

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1434/5/9 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر