الدرس الحادي والأربعون: الحديث 31 الزهد الحقيقي

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 24 جمادى الآخرة 1437هـ | عدد الزيارات: 2278 القسم: شرح كتاب الأربعين النووية -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

"عَنْ أَبي العَباس سَعدِ بنِ سَهلٍ السَّاعِدي رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُول الله: دُلَّني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمَلتُهُ أَحَبَّني اللهُ، وَأَحبَّني النَاسُ؟ فَقَالَ: ازهَد في الدُّنيَا يُحِبَّكَ اللهُ، وازهَد فيمَا عِندَ النَّاسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ "حديث حسن رواه ابن ماجه والطبراني في معجمه الكبير وابن حبان في روضة العقلاء والحاكم في الرقائق من مستدركه.

راوي الحديث:

الصحابي سهل بن سعد هو أبو العباس سهل بن سعد بن مالك بن خالد بن ثعلبة بن حارثة بن عمرو بن الخزرج الأنصاري الساعدي‏ كان أبوه من الصحابة الذين توفوا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم كان سهل يقول: شهدت المتلاعنين عند رسول الله وأنا ابن خمس عشرة سنة، روى سهل عدة أحاديث، حدث عنه أبو هريرة وسعيد بن المسيب، والزهري، وأبو حازم، وابنه العباس بن سهل، وعبد الله بن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ذُباب، وابن شهاب الزهري، ويحيى بن ميمون الحضرمي وغيرهم، هو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وكان من أبناء المائة

عاش سهل وطال عمره، حتى أدرك الحجاج بن يوسف

عن عبد المهيمن بن العباس بن سهل، عن أبيه، عن جده، قال: كان اسم سهل بن سعد حزناً، فغيره النبي . وقال عبيد الله بن عمر: تزوج سهل بن سعد خمس عشرة امرأة، ويروى أنه حضر مرة وليمة، فكان فيها تسع من مطلقاته، فلما خرج، وقفن له، وقلن: كيف أنت يا أبا العباس

روى سهل بن سعد قال: اطلع رجل من جحر في حجرة النبي صلى الله عليه وسلم ومع النبي مدرى يحك به رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظرني، لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر، متفق عليه

وبعضهم كناه أبا يحيى. ذكر عدد كبير وفاته في سنة إحدى وتسعين، وقال أبو نعيم وتلميذه البخاري: سنة ثمان وثمانين

أهمية الحديث

اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم

الأولى: الزهد في الدنيا وانه سبب في نيل محبة الله تعالى لعبده

والثانية: في الزهد فيما في أيدي الناس، وأنه سبب في الحصول على محبة الناس وتقديرهم

ومن المؤكد في الإسلام أن الإنسان لا يكون من السعداء الفائزين في الدارين إلا بعد التحقق من محبة الله له بعد أن آثر ما عنده من الآخرة الباقية على الدنيا الفانية، ومحبة الناس له بعد أن ترفعت نفسه عما في أيديهم من حطام، وتطلع بعزة وإباء إلى تحصيل الباقيات الصالحات؛ لأنها في الآخرة خير وأبقى ولذلك يقول ابن حجر الهيثمي عن هذا الحديث: وهو أحد الأحاديث الأربعة التي عليها مدار الإسلام

الشرح

قول الرجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم (دُلني عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَملتُهُ أَحَبَّني الله، وَأَحبَّني النَّاس) طلب حاجتين عظيمتين، محبة الله له ومحبة الناس

فمحبة الناس له أي مالوا إليه ميلاً طبيعاً؛ لأن محبتهم تابعة لمحبة الله، فإذا أحب الله العبد ألقى محبته في قلوب خلقه، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا

فدله صلى الله عليه وسلم على عمل معين محدد، فقال (ازهَد في الدُّنيَا) ازهد من الزهد، وهو لغة: الإعراض عن الشيء احتقاراً له، من قولهم: شيء زهيد؛ أي قليل، فالزهد في الدنيا الرغبة عنها، وأن لا يتناول الإنسان منها إلا ما ينفعه في الآخرة، وهو أعلى من الورع، لأن الورع: ترك ما يضر من أمور الدنيا، والزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة، وترك ما لا ينفع أعلى من ترك ما يضر، فقوله صلى الله عليه وسلم (ازهَد في الدُّنيَا) استصغار شأنها واحتقارها؛ لتصغير الله لها وتحقيره لها وتحذيره من الاغترار بها، قال تعالى (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) وقال تعالى:( اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ)

قوله صلى الله عليه وسلم (يحبَّك الله) بفتح الباء المشددة، وأصله يحببك بالجزم في جواب الأمر، فلما أريد الإدغام نقلت كسرة الباء الأولى إلى الحاء وفتحت الثانية تخلصاً من الساكنين وتخفيفاً

والدنيا سميت بهذا الاسم لوجهين: أنها دنيا في الزمن، ودنيا في المرتبة
ففي الزمن أنها قبل الآخرة، وفي المرتبة أنها دون الآخرة، قال صلى الله عليه وسلم (لَمَوضِعُ سوطِ أَحَدِكُم في الجَنَّةِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا) رواه البخاري، وقال النبي صلى الله عليه وسلم (ركعَتَا الفَجرِ خَيرٌ مِنَ الدُّنيَا وَمَا فيهَا) أخرجه مسلم، فالدنيا ليست بشيء، ولذلك لا تكاد يمر عليك شهر أو أكثر إلا أعقبك الحزن بعد السرور، قال الشاعر

فيوم علينا ويوم لنا *** ويوم نُساء ويوم نُسر

قوله صلى اله عليه وسلم (وازهَد فيمَا عِندَ النَاس يُحِبكَ النَّاس) أي لا تتطلع لما في أيديهم، ارغب عما في أيدي الناس يحبك الناس، ويتضمن هذا ترك سؤال الناس، لأنك إذا سألت أثقلت عليهم، وكنت دانياً سافلاً بالنسبة لهم، فاليد العليا المعطية خير من اليد السفلى الآخذة

فوائد الحديث

أولاً: علو همم الصحابة رضي الله عنهم، فأسئلتهم في خير الدنيا والآخرة وهدفهم الاطلاع والعمل لا ما يفعله البعض للإطلاع فقط

ثانياً: اثبات محبة الله عز وجل وأن الله يحب محبة حقيقية ليست كمحبتنا إياه بل هي أعظم وأعظم لا ما يتوهمه أهل التعطيل الذين حكموا على الله بعقولهم فقالوا ما أقرته عقولنا من صفات الله أقررناه وما خالف عقولنا نفيناه

وعلى كل حال طريق الأدب مع الله أن نثبت لله ما أثبته لنفسه، سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وننفي ما نفاه الله عن نفسه، وأن نسكت عما سكت الله عنه

ثالثا: لا حرج على الإنسان أن يطلب محبة الناس، أي أن يحبوه، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً لقول الله تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) ومن المعلوم أنه إذا برهم بالهدايا أو الصدقات أو عدل فيهم فسوف يحبونه، لأن النفس تميل إلى من أحسن إليها، والمحذور أن تحبهم أنت، (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)

رابعاً: فضيلة الزهد في الدنيا، وذلك بأن يترك ما لا ينفعه في الآخرة ولا يعني ذلك أن لا يلبس الثياب الجميلة، ولا يركب السيارات الفخمة، بل يتمتع بما أنعم الله عليه، لأن الله يحب أن يرى أثر نعمته عليه لقوله تعالى (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وإذا تمتع بالملاذ على هذا الوجه صار نافعاً له في الآخرة، فيشكر الله على نعمة اليسر بلسانه وفعله، لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ

خامساً: أن الزهد مرتبته أعلى من الورع، لأن الورع ترك ما يضر، والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة

سادساً: أن الزهد من أسباب محبة الله عزّ وجل لقوله صلى الله عليه وسلم (ازهَد في الدنيَا يُحِبكَ اللهُ) ومن أعظم أسباب محبة الله للعبد اتباع النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) آل عمران آية: 31

ورسول الله صلى الله عليه وسلم حث على التقلل من الدنيا والزهد فيها فقال (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل) رواه الترمذي

وقال ابن عمر: إذا أصبحت فلا تحدث نفسك بالمساء وإذا أمسيت فلا تحدث نفسك بالصباح وخذ من صحتك قبل سقمك ومن حياتك قبل موتك فإنك لا تدري يا عبد الله ما اسمك غداً

وقال الحسن البصري: حب الدنيا رأس كل خطيئة

وعن أبي الدرداء مرفوعاً: وحبك الشيء يعمي ويصم

وروى الطبراني وابن عدي والبيهقي عن أبي هريرة: إن الزهد في الدنيا يريح قلبه في الدنيا والآخرة

وقال صلى الله عليه وسلم (من كانت الآخرة همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له والسعيد من اختار باقية يدوم نعيمها على بالية لا ينفذ عذابها) رواه الترمذي

سابعاً: الحث والترغيب في الزهد فيما عند الناس، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعله سبباً لمحبة الناس لك، وهذا يشمل أن لا تسأل الناس شيئاً، وأن لا تتطلع وتعرض بأنك تريده

وبالله التوفيق

وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

1437/6/24 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 8 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر