الدرس 124 أسباب نصر المؤمنين 2

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 23 محرم 1443هـ | عدد الزيارات: 442 القسم: تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله

وبعد

لما توافرت أسباب النصر في الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم في يوم بدر نُصروا على الكفار وهم أضعافهم ، أضعافهم في القوة والعدد ومع ذلك نُصروا عليهم بأنهم حققوا هذه الصفات ، نصروا دين الله بالقول والعمل ، وصبروا في لقاء الأعداء وصدقوا ، فمكنهم الله وهزم عدوهم وجعل لهم العاقبة الحميدة ، وهكذا في يوم الأحزاب صدقوا وصبروا وصابروا صبراً عظيماً مع كون الكفار أضعاف المسلمين فصبر المسلمون وهم محاصرون حتى نصرهم الله بأمر من عنده على عدوهم بجنود لم يروها حتى زلزلهم وردهم خائبين لم ينالوا خيراً بسبب صبر الصحابة ونبيهم صلى الله عليه وسلم على طاعته وجهاد أعدائه ، وهكذا في يوم الفتح نصر الله المسلمين على عدوهم وفتحوا مكة وهزموا الشرك وأعوانه وجيش هوازن فضلاً منه سبحانه وتأييداً لأوليائه ، وهكذا حصل للصحابة في قتالهم للروم وفارس وغيرهما صبروا وجاهدوا فأفلحوا ونُصروا وجعل الله لهم العاقبة الحميدة ، فصاروا قادة الناس وملوك الأرض ، وسنة الله سبحانه هذه سائرة في عباده إلى يوم القيامة ، من نصره نصره ، ومن حاد عن دينه خذله ، ولما جرى ما جرى يوم أحد من الخلل أصيب المسلمون وهم أفضل خلق الله في أرض الله ، فيهم نبيهم صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق ، وهم بعده وبعد الأنبياء أفضل الخلق ، وفيهم الصديق رضي الله عنه أفضل الأمة بعد الرسول صلى الله عليه وسلم ، وفيهم عمر أفضل الأمة بعد النبي وبعد الصديق ، وفيهم بقية الأخيار.
أصيب المسلمون بسبب الخلل الذي حصل من الرماة لما أخلوا بما أوجب الله عليهم من الصبر ولزوم الثغر الذي يُخشى منه فدخل العدو عليهم ، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام قد أمر الرماة أن يلزموا موقعهم وأن لا يبرحوه وإن رأوا العدو يتخطف المسلمين ، وإن رأوا المسلمين نُصروا لا هذا ولا هذا ، فعليهم أن يلزموا مكانهم ، فلما انهزم العدو يوم أحد ورآهم الرماة انهزموا ظنوا أنها الفاصلة فأخلوا بمواقعهم ، وحاول أميرهم أن يثنيهم عن ذلك فخالفوه ظناً منهم أن الكفار لا عودة لهم وأنهم قد انهزموا انهزاماً كاملاً فدخل العدو على المسلمين وصارت النكبة على المسلمين والقتل والجراحات والهزيمة حتى حاولوا قتله صلى الله عليه وسلم فأنجاه الله من شرهم وأصابه جراحات وكسروا رباعيته عليه الصلاة والسلام إلى غير هذا مما أصابه عليه الصلاة والسلام ، وقُتل سبعون من الصحابة وأصاب بعض من بقي جراحات ، وأنزل الله فيهم سبحانه وتعالى " ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه " آل عمران 152 ، أي : يقتلونهم بإذن الله " حتى إذا فشلتم " يعني بذلك الرماة " وتنازعتم في الأمر " تنازعوا في الأمر واختلفوا " وعصيتم " بترك الموقع الذي أمركم الرسول صلى الله عليه وسلم بلزومه " من بعد ما أراكم ما تحبون " من هزيمة العدو ، والجواب محذوف تقديره سلط العدو عليكم ، " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم " آل عمران 152 .

فحفظ الثغور التي يدخل منها العدو على المسلمين وحفظ المنافذ التي يدخل منها العدو على الجيش وقت اللقاء لابد فيه للجيش بأن يكون عنده عناية بذلك وعنده حذر وعنده حرص على سد كل ثغر يمكن أن ينفذ منها العدو على المسلمين ليضرهم أو يأتيهم من خلفهم ، ولما استنكر المسلمون هذا الأمر وهذا الحدث المؤلم من الجراح والقتل وقالوا لماذا أصبنا ؟ ولماذا جرى هذا ؟ وفيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفيهم خيرة الله من عباده بعد الأنبياء أنزل الله تعالى " أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها " يعني يوم بدر قتلوا سبعين من الكفار وأسروا سبعين وحصلت جراحات في الكفار كثيرة " قلتم أنى هذا " يعني استنكرتم من أين أصبنا ؟ قال تعالى " قل هو من عند أنفسكم " آل عمران 165 ، وهذا يفيد أن معصية بعض الجيش وإخلال بعض الجيش بالأسباب مصيبة للجميع فأصيبوا بسبب بعضهم ، وهكذا الناس إذا رأوا المنكرات وشاعت ولم تغير عمت العقوبات ، قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقابه " أخرجه الإمام أحمد رحمه الله بإسناد صحيح عن الصديق رضي الله عنه .(قلت: صححه شعيب الأرناؤوط في تخريج المسند بهذا اللفظ:" إنَّ النَّاسَ إذا رَأَْوا المنكرَ لا يُغيِّرُوه أوشكَ اللهُ أن يَعُمَّهُم بعقابهِ ").

والمقصود أن الواجب على الأمة التآمر بالمعروف ، والتناهي عن المنكر ، والتعاون على البر والتقوى والصدق في ذلك في كل بلد وفي كل قرية وفي كل قبيلة عليهم أن يتناصحوا ويتواصوا بالحق والصبر عليه حتى لا تصيبهم كارثة بسبب ذنوبهم وأعمالهم ، يقول سبحانه " والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر " العصر 1 - 3 ، هؤلاء هم الرابحون وهم المنصورون فلابد من هذه الصفات الأربع : الإيمان الصادق ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر في الجهاد وغيره .

فمن أراد نصر الله والسلامة لدينه وأراد حسن العاقبة فليتق الله وليصبر على طاعة الله وليحذر محارم الله أينما كان ، فالرجل في بيته وفي المسجد وفي الطريق وفي السيارة والطائرة والقطار وفي محل البيع والشراء وفي الجهاد وفي كل مكان ، يجب عليه أن يتقي الله وأن ينصر دين الله بقوله وعمله وفي جهاده وفي جميع شئونه ، وهكذا المرأة في بيتها وفي كل مكان عليها أن تتقي الله وأن تنصر دين الله بقولها وعملها حسب الطاقة لقول الله سبحانه " فاتقوا الله ما استطعتم " التغابن 16 ، وقوله سبحانه " لا يكلف الله نفساً إلا وسعها " البقرة 286 ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم " ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم " متفق على صحته ،(قلت: ورد في صحيح مسلم بهذا اللفظ :" ما نَهَيْتُكُمْ عنْه فَاجْتَنِبُوهُ، وَما أَمَرْتُكُمْ به فَافْعَلُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنَّما أَهْلَكَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ، كَثْرَةُ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلَافُهُمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ. وفي رواية: ذَرُونِي ما تَرَكْتُكُمْ. وفي حَديثِ هَمَّامٍ: ما تُرِكْتُمْ، فإنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ ثُمَّ ذَكَرُوا نَحْوَ: حَديثِ الزُّهْرِيِّ، عن سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ. " ، وفي صحيح البخاري بهذا اللفظ" .دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ")

فالمرأة تبذل النصيحة مع الزوج ومع الأولاد ومع من في البيت من أقارب وخدم ومع الجيران ومع الزميلات ومع الجليسات ترجو بذلك ما عند الله من المثوبة ، وأن ينفع بها عباده ، وكل واحد من الرجال عليه أن يتقي الله وينصر دينه في قوله وعمله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عن صدق وإخلاص ورغبة ورهبة كما قال سبحانه في سورة الأنبياء عن عباده الصالحين " إنهم كانوا يسارعون في الخيرات ويدعوننا رغباً ورهباً وكانوا لنا خاشعين " الأنبياء 90 .

ولابد مع هذا كله من الحرص على الأسباب الدينية والحسية التي يعلم أنها من أسباب النصر لقوله تعالى " وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم " النساء 102 ، ويقول سبحانه " وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " الأنفال 60 ، وهذا هو الواجب على المؤمنين أن يأخذوا حذرهم من عدوهم عند القتال ، وأن يعدوا له ما استطاعوا من قوة من السلاح والعدد ، والحرس الجيد ، وتكون الملاحظات جيدة ، والثغرات مسدودة ، والسلاح محمول عند الحاجة حتى ولو كانوا في الصلاة ، فلا يجوز أن يقول المجاهد أنا مؤمن ويكفي ، بل لابد من الأسباب الحسية والمعنوية ، فالرسول صلى الله عليه وسلم وهو أفضل المؤمنين وأكمل المتوكلين ، والصحابة أفضل المؤمنين بعد الأنبياء ، ومع هذا كله أصابهم ما أصابهم يوم أحد لما أخلَّ الرماة بالشيء الذي يجب عليهم وأخلوا بالموقف الذي أُمروا بلزومه .

فالمعاصي من أسباب الخذلان ، كما أن معصية الرماة سبب الهزيمة يوم أحد، وهكذا المعاصي كلها في كل وقت من أسباب الخذلان إذا ظهرت ولم تُنكر تكون من أسباب الخذلان وتسليط الأعداء ، وحصول الكثير من المصائب ، كما أنها من أسباب قسوة القلب وانتكاسه نعوذ بالله من ذلك قال الله تعال "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير " الشورى 30 ، وقال تعالى " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون"الحديد 16.

فالمعصية إذا ظهرت ضرت العامة إذا لم تُنكر ولم تُغير ، والمؤمنون مأمورون بالاستقامة على تقوى الله والجهاد لأعداء الله ، وأن يصبروا على التقوى والعمل الصالح أينما كانوا مع الإيمان بأن الله سبحانه سوف ينصرهم ويمكنهم من عدوهم ، ويجعلهم بعد خوفهم في أمن وعافية وبعد القلق في استقرار وراحة بسبب إيثارهم حقه ونصرهم دينه وتعاونهم على البر والتقوى وصدقهم في ذلك ونصحهم لله ولعباده ، ومتى أخلوا بشيء فليعلموا أنه خطر عليهم ، وأنه متى أصابهم مصيبة بسبب الخلل فمن عند أنفسهم كما قال عز وجل " ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك " النساء 79.
وأعظم العدو الشيطان ، فهو أعظم عدو للإنسان فإنه يجري منه مجرى الدم ، فعليك أن تجاهده بتقوى الله وترك معصيته ، وأن تحذر مكائده ووساوسه ، وأن تكثر من الاستعاذة بالله منه مع الإكثار من الحسنات والحذر من السيئات في جميع الأوقات ، فهذا هو طريق السلامة من شره ومكائده بتوفيق الله وإعانته ، ولابد مع ذلك من جهاد النفس ، والإكثار من ذكر الله ، والاستقامة على دينه ، والحفاظ على حدوده ، والحذر من مكايد عدو الله في كل زمان ومكان ، يقول الله سبحانه " ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب " الطلاق 2 ، 3 ، ويقول عز وجل " إن الشيطان لكم عدوٌ فاتخذوه عدواً إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير " فاطر 6 ، ويقول عز وجل في سورة النازعات " وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإن الجنة هي المأوى " النازعات 40 ، 41 ، فهذه أسباب النصر ، وهذه أسباب النجاة من الأعداء ، وهذه أسباب السلامة من مكايد الأعداء جنهم وإنسهم ، حضرهم وبدوهم ، قريبهم وبعيدهم ، وهي أن تتقي الله في جميع الأحوال ، وأن تحافظ على دينه ، وأن تحذر معصيته أينما كنت في الجهاد وغيره .

فنسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم وجميع المسلمين لما فيه رضاه ، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعاً ، وأن يجعلنا من الهداة المهتدين ، وأن يعيننا على حفظ أنفسنا من شر جميع أعدائنا ، وأن يعيننا على ذكره ، وشكره ، وحسن عبادته ، وأن يوفق ولاة أمر المسلمين جميعاً لما يرضيه ولما يمكنهم من عدوهم ويعينهم عليه ، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل ، وأن يجمع كلمتهم على التقوى ، وأن يصلح جميع الشعوب الإسلامية وقادتهم ، كما أسأله سبحانه أن يوفق ولاة أمرنا في هذه البلاد لكل خير ، وأن يعينهم على كل ما فيه رضاه ، وأن ينصر بهم الحق ويخذل بهم الباطل ، وأن يجعلهم من الهداة المهتدين إنه جل وعلا جواد كريم .

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين .

23 - 1 - 1443هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

8 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر