أهمية القلم

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: السبت 18 شوال 1437هـ | عدد الزيارات: 5203 القسم: خطب الجمعة

الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيُّه وخليله، وخيرته من خلقه، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمَّة، وتركنا على المحجة البيضاء؛ ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك؛ فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه والتابعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن أصدقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِّ هديُّ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - وشرَّ الأمور محدثاتُها، وكلَّ محدثةٍ بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومَنْ شذَّ شذَّ في النار

أيها الناس: لقد أنعم الله - جلَّ وعلا - على أمة الإسلام بالرسول النبيِّ الأمِّيِّ:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ.} [الجمعة: 2]، غير أن أُمِّيَّة النبي -صلى الله عليه وسلم- لم تكن -يومًا ما- قَدْحًا في رسالته؛ بل إن هذا النبي الأميّ هو مَنْ أمره الله بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ } [العلق:1-5]

إنه لنبيٌ أميٌ يدعو أمته إلى القراءة والكتابة؛ كيف لا وهو -صلى الله عليه وسلم- يستشعر عظمة القلم؛ بإقسام الله تعالى به في قوله: { ن * وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ } [القلم:1]

فالقلم -أيها الناس- هو خطيب الناس وفصيحهم، وواعظهم وطبيبهم، بالأقلام تُدار الأقاليم، وتُساس الممالك.

القلم: هو نظام الأفهام وبريد اللسان الصامت، والكتابة بالقلم شرفٌ ورفعةٌ للمرء، وبضاعةٌ رابحة، هي للمتعلم بمنزلة السلطان.

بالقلم تُخلَّدُ العلوم، وتثْبُت الحقوق، ولولا الله ثم الكتابة لانقطعت أخبار بعض الأمم، واندرست السُّنن، ولم يعرف الخَلَفُ مذهبَ السَّلَف، ورحم الله سعيد بن العاص – رضي الله عنه – حين قال : "مَنْ لم يكتب؛ فيمينه يُسرى"، ولقد أحسن معن بن زائدة حيث قال: إذا لم تكتب اليَدُ؛ فهي رِجْلٌ ".

عباد الله: لقد فاخر كثيرٌ من المسلمين بالقلم، حتى جاروا به السَّيف والسِّنان؛ وفاخر بذلك علماؤهم وشعراؤهم وبلغاؤهم ووعاظهم، لقد رقموا بالقلم الجادِّ صحائفَ الأبرار؛ ليحطموا به صحائفَ الأشرار

ولقد أثَّرت أقلامهم في إرهاب العدو عن بُعدٍ، ما لم تؤثِّره السيوفُ عن قرب، لقد كانت نواياهم إبراز الخير لأمة الإسلام؛ نصحا وإرشادا وفكرا، وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، وأدبا وشعرا.

لم تكن أقلامهم مهجورةً يوما ما، ولم يقترفوا بالقلم ما يَخدش حياءَ أمَّتهم، أو يُحدث ظلمة في هويتها، بل لم يكن همهم حظوظ النفس والذات البالية.

عباد الله: صِدْقُ القلم وفصاحته من أحسن ما يتلبَّس به الكاتب، ويتَّزر به العاقل، وإن الاعتناء بأدب القلم في المعنى, هو ضرورةٌ كما هو الأمر في المبنَى، وهو بذلك صاحبٌ في الغربة، ومؤنسٌ في القلة، وزينٌ في المحافل. ناهيكم عن دلالته على العقل والمروءة، ورباطة الجأش.

ثم إنه ولا شك أنَّ مَنْ غرس بقلمه فسيلاً؛ فإنه يوشك أن يأكل رُطَبها، وما يستوي عند أُولى النهى، وذوي الحِجى قلمان:

أحدهما: ثرثارٌ متفيهقٌ، يكتب قبل أن يفكِّر، ويرمي قبل أن يُبصِر

والقلم الآخر: قلمٌ يكتب على استحياءٍ محمود، واستشعارٍ لمسؤولية القلم والمحاسبة عليه أمام الله، وله مع ذلك غَيْرةٌ نابتةٌ من حبِّ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم – والنُّصح لكلِّ مسلم.

وإذا ما تعارض القلمان؛ فإن الخَرَس خيرٌ من البيان بالباطل، كما أن الحَصُور خيرٌ من العاهر: { قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [المائدة: 100]

وحاصل ذلكمٌ أنه ما رُؤي مثل القلم في حَمْل المتناقضات؛ فهو عند اللبيب المهتدي: آلةٌ من آلات الخير والبرِّ، ومَرْكَبٌ من مراكب البلوغ والنجاح ورَأْبِ صَدْع الفُلْك الماخر. وهو عند النَّزِق المائل: عقربٌ خبيثةٌ، ودودٌ عَلِقٌ؛ يلاصق لحم مَنْ يقاربه.

ومع هذا كله فإن القلم في هذا الزمان قد فشا فُشُوًّا كبيرًا، لم يكن كسابق الأزمان، وقد اتّسع نطاقه ليبلغ القاصي والداني، كما قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: " إن بين يدي الساعة تسليمَ الخاصَّة، وفُشُوُّ التجارة، حتى تعين المرأة زوجها على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزُّور، وكتمان شهادة الحقِّ، وظهور القلم"؛ (رواه أحمد وصححه الألباني) .

وإنَّ الشيء إذا فشا وذاع ذيوعًا واسعًا - كَثُرَ مُدَّعوه، وقَلَّ آخِذوه بحقِّه؛ فيَكْثُرُ حينئذٍ الخطأ، ويعمُّ الزَّلَل؛ فيُبْرِزُ عُرِيَّ بعض الأقلام عن الأدب، فلا ترعَ حرمةً، ولا تَزِن عاطفةً في نقاش؛ فتثور بسببها خواطر النفوس، وتُكشف الأستار، ويشتدُّ اللَّغَط، ناهيكم عن الكذب والافتراء، والتصريح بالعورات، وما يَخدش العدل والإنصاف والموضوعية البريئة، مع ما يصاحب ذلكم من قلمٍ متعثِّرٍ؛ فيزداد خطره، ويستفحِل شرُّه، ومن ثمَّ ينوءُ صاحبه بأحمالٍ لا يقلُّها ظهرٌ، ودموعِ ندمٍ على قبحِ تقصيرٍ ما لمددها انقطاع : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [الإنفطار: 10 – 12]

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذِّكر الحكيم، وأستغفر الله إنه كان غفَّارًا.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

وبعد: أيها الناس؛ إن المسلمين بعامَّةٍ لفي حاجةٍ ماسَّةٍ إلى القلم الصادق، إلى القلم الأمين، إلى القلم الصافي من الدَّخَل، إلى القلم المُلْهَم، الذي يأخذ بلبُّ قارئه؛ صِدْقًا ونصحًا وصفاءً، ينشر الحقَّ، ويُحيي السنَّةَ، ويدلُّ النَّاسَ إلى ما فيه خير دينهم ودنياهم { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ } [البقرة:282]

إن القلم أمانةٌ، وحَمَلَتُه من بني الإسلام كُثرٌ، غير أن الإنسان كان ظلومًا جهولاً، وما كلُّ مَنْ حمل الأمانة عرف قدرها، ولأجل ذلك لفت علماء الإسلام الانتباهَ إلى صفاتٍ وضوابطَ لا يَسَعُ الأمةَ إهمالها، ولا ينبغي أن يقصِّر فيها كاتبٌ أو ذو قلم. أو من قِبَلِ القرَّاء وأمثالهم، إلى: عمَّن يتلقون ما ينفع؟ ولمَنْ يقرؤون ما يفيد؟ وممَّن يأخذون؟ ولمَنْ يَذَرون؟ فتكلموا عن كَوْن الكاتب مسلمًا مستقيمًا؛ ليؤمَن جانبه، ويوثَق فيما يسطره بَنانه، حتى لا يذوق القرَّاء مراراتٍ يتجرَّعونها ولا يكادون يسيغونها غيرَ مرَّةٍ

كما تكلم علماء الإسلام -أيضا- عن كَوْن الكاتب ذا علمٍ وبصيرة، وأن يقتصر صاحب التخصُّص على تخصُّصه، فلا يتحوَّل الكاتب بقلمه من كونه صحفيُّا إلى كونه فقيهًا مفتيًا، ولا من كونه أديبًا إلى كونه طبيبًا، ولا من كونه مفكرًا إلى كونه وصيًّا على أفكار القرَّاء ومصادرَ تلقِّيهم.

وحادي الجميع في ذلكم: أن يكون المرجعُ كتابَ الله وسنَّةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم

وإنَّ من أهم ما بيَّنه علماءُ الإسلام: أن يكون صاحب القلم متَّصِفًا بالعدالة والإنصاف، وإدراك معنى الحوار السليم؛ لأن الكاتب الجائر ليس له قائدٌ في فكره وقلمه، إلا الهوى والتدليس والتلبيس، والتشويش، ولربما زاد ونَقَصَ، وحرّف وأَوَّل؛ فكان كمَنْ وصفهم الله بقوله:{ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا } [الأنعام: 91]

وإذا كان الناس يُكبُّون على وجوهم في النار بسبب حصائد ألسنتهم، مع أن اللسان يفنى وينقطع حديثه؛ فما ظنُّكم بالقلم الذي يطول تسطيره، ويبقى حيًّا وإن مات صاحبُه وأضحى فُتاتًا.

قلمان لو تعرفهما ***لعرفت نوع مداد

قلم الرزين وعكسه***قلم السفيه الصادي

فاختر لنفسك واحدا*** ينجيك يوم معاد

هذا؛ وصلُّوا رحمكم الله على خير البرية، وأزكى البشرية؛ محمدِ بنِ عبِد الله، صاحبِ الحوضِ والشفاعةِ، فقد أمركم الله بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى فيه بملائكته المسبحة بقدسه، وثلث بكم أيها المؤمنون فقال جلَّ وعلا {إن الله وملائكته يصلون على النبي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب: 56]

اللهم صلِّ وسلم وزِدْ وبارك على عبدك ورسولك محمد، صاحبِ الوجهِ الأنور، والجبينِ الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الأربعة: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيِّك محمد - صلى الله عليه وسلم - وعن التابعين، ومَنْ تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجودك وكرمك وإحسانك .

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، واخْذُلِ الشِّرك والمشركين، اللهم انصر دينك وكتابك وسنَّة نبيِّك وعبادك المؤمنين

اللهم فرِّج همَّ المهمومين، ونفِّس كرب المكروبين، واقضِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خير من زكاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم آمنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم وفِّق ولي أمرنا وولي عهده لما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، اللهم أصلح لهما بطانتهما، اللهم لا تمنعنا خيرَ ما عندك بشر ما عندنا، اللهم إنَّا خلقٌ من خلقك فلا تمنع عنَّا بذنوبنا فضلك .

{رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [البقرة: 201] { سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين،والحمد لله رب العالمين } [الصافات 180 - 182]

1437-10-18 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 3 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي