أهمية السيرة النبوية

الخطب
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 18 ربيع الأول 1437هـ | عدد الزيارات: 1599 القسم: خطب الجمعة

الحمدُ لله ذي العزَّة القاهرة، والحكمة الباهِرة، لا إله إلا الله له الحمدُ في الأولى والآخرة، أحمدُه - سبحانه - وأشكرُه على نعمه المُتكاثِرة، وآلائه المُتوافرة، الباطنةِ منها والظاهرة، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةَ الحقِّ واليقين غيرَ مُرتابةٍ ولا حائِرة، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه أعلى منارَ الدين، وجمع القلوبَ المُتنافِرة، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آله وأصحابِه الأنجُم الزاهِرة، والتابعين وتابِعيهم بإحسانٍ

أما بعد

أيها الناس

اتقوا الله، فإنما تُوعدون لآت فتدارَكوا الهفَوات قبل الفوَات واستكثِروا من الصالحات وراقِبوا أنفسكم في الخلَوات، قبل أن يباغتكم هادِم اللذَّات مُذلُّ كل عزيز، ومُقتحِمُ كل حريص، حتى إذا ما نشبَت صوارِمُه، وحلَّت قواصِمُه، شخصَت الأبصارُ والمُقَل، ولم تنفع المُعالجاتُ والحِيَل فرحِم الله أقوامًا بادروا الأوقات، وسارعوا إلى الخيرات،"كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ" آل عمران 185

أيها المسلمون

لقد طال على كثيرٍ من المُسلمين الأمَد، واشتدَّ من الأعداء المكرُ والتسلُّط جدَّ الأعداءُ في إبعاد المُسلمين عن دينهم، فبرزَ الضعفُ والهوان في كثيرٍ من الديار، وجهِلوا ما جهِلوا من الشريعة، فنزلوا عن مكانتهم واستِقلالهم، ليقتاتوا على بقايا من موائِد حضارات الآخرين، استعبدَتهم أُمم لا تُذكرُ معهم في عدٍّ ولا حساب

إخواني

حين تكثُر الفتن، وتتوالَى المُدلهِمَّات والنوازِل والمُحدثَات، يبحثُ الناسُ عن مخرَج، ويسألون عن المنجَى والمُلتجَأ ولئن كان ذلك شاقًّا وعسيرًا على بعض الأُمم والبُلدان، فكيف يكون ذلك عند أهل الإسلام؟! وعندهم الصراط المُستقيم، والنور والهدى، ورائدُهم وقائدُهم وقُدوتُهم وأُسوتُهم هو الهادي البشير، والسراجُ المُنير محمدٌ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وهو القائل: تركتُ فيكم ما إن تمسَّكتُم به لن تضلُّوا بعدي كتابَ الله وسُنَّتي.رواه الترمذي وصححه الألباني.

ووصيَّتُه في حديث العِرباض بن سارية - رضي الله عنه - في قوله:« وعظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً وجلَت منها القلوب، وذرفَت منها العيون، فقلنا يا رسول الله! كأنها موعظةُ مُودِّعٍ، فأوصِنا، فكان مما قال - عليه الصلاة والسلام - فإنه من يعِش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضُّوا عليها بالنواجِذ، وإياكم ومُحدثات الأمور» رواه أبو داود وصححه الألباني.

معاشر الأحبَّة

إن أي حياةٍ فاضلة لا بُدَّ لها من رائد، وكل مسيرةٍ ناجِحة لا بُدَّ لها من قائِد ومَن غَيرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رائدٌ للحياة، وقائدٌ للأحياء؟! وهو الرائدُ الأمين، والمُبلِّغُ الأمين - عليه من الله أزكَى الصلاة وأتمُّ التسليم -

وهل كان رفعُ ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في اليوم والليلة خمس مراتٍ، يُنادَى باسمه الشريف عبر الأثير إلا لتتواصَل معه النفوسُ والأرواحُ من غير انقِطاعٍ ولا ليومٍ واحد، بل ولا جزءٍ من يوم.

عباد الله

من أجل هذا كلِّه فقد حُفِظت سُنَّتُه وسيرتُه؛ لأنها الترجمةُ المأثورة لحياة هذا النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - هذه السيرة المُتميِّزة لشمولها وكمالها، سيرةُ نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - هي المصدرُ الحي، والينبوع المُتدفِّق للحياة الإسلامية والمنهج الإسلامي المُستقيم، وهي المخرجُ، وهي المحجَّة

إنها أصحُّ سيرةٍ لتأريخ نبيٍّ مُرسَل، سيرةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ليست مُجرَّد تاريخٍ يُروى، أو قصةٍ تُسرَد، أو واقعةٍ تُحكَى؛ ولكنها تسجيلٌ دقيقٌ لحياة رجلٍ اختارَه الله واصطفاه لرسالته، وأحاطه بعنايته ورعايته، وخصَّه منذ ولادته بخصائص ليست لأحدٍ غيره،"اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ"الأنعام:124

معاشر المُسلمين؛ وحينما أمر الله - سبحانه - بالاقتِداء برسوله، والتِزام سُنَّته، والتِزام هديِه وطريقته في قوله - عزَّ شأنُه -"لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"الأحزاب:21، وفي قوله - جل وعلا -"وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا"الحشر:7، وفي قوله تعالى"قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ"آل عمران:31، 32، وأمثال هذه النصوص.

لما كان ذلك كذلك حفِظ الله لنا هذه السيرة النبوية، حفظًا لم يكن لأحدٍ قبلَه ولا بعدَه - عليه الصلاة والسلام -، وهيَّأ لها من أهل العلم والفقه والتحقيق والتوثيق ما يبهَرُ العقول، ويُبهِجُ النفوس، ويُقيمُ الحُجَّة فحظِيَت السيرةُ بتوثيقها كتابًا وسنَّة، توثيقًا مُتواترًا، نقلاً في السطور، واستيعابًا في الصدور، ومُقترِنًا بمشاعر التعظيم والإجلال، ومُمتزِجًا بصادق الحب والتقدير

وقد تجلَّى هذا التوثيقُ والتدوينُ في جهود أجيالٍ من رجالات العلم، تعاقَبُوا على توثيق رواياتها وأحداثها، أفعالاً وأقوالاً وهديًا، في أقصَى درجات الدقَّة والضبط

ومنهجُ علماء الحديث - رفع الله قدرَهم، وأعلى مقامَهم - في التوثيق هو المنهجُ الذي اختصَّ به أهلَ الإسلام في توثيق ما نُقل عن نبيِّنا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، في شأنه كلِّه، تحريرًا وحفظًا وضبطًا، وصيانةً عن الروايات الموضوعة والمكذوبة، وتمييزًا للضعيف من الصحيح والحسن، في درجاتٍ من الضبط والإتقان.

أيها الإخوة

السيرةُ في قُدوتها تهَبُ الإنسان هويَّته، والعقل بصيرتَه، والوجدان قيمتَه السيرةُ المُصطفوية تبعثُ في المُؤمن العزَّةَ من غير كِبر، وعلُوَّ الهمَّة من غير بطَر، والثقةَ من غير غرور، والطُّمأنينة من غير تواكُل

سيرةٌ وأُسوة تُشعرُ بالمسؤولية المُلقاة على الكواهِل، والأمانة والاستقامة، والدعوة إلى الله على بصيرة

عباد الله

يقول الإمام الحافظ ابن القيم - رحمه الله - "واضطرارُ العباد إلى معرفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فوق كل اضطِرار؛ فإنه لا سبيلَ إلى السعادة والفلاح في الدنيا والآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنالُ رِضا الله البتَّة إلا على أيديهم؛ فالطيبُ من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهو الميزانُ الراجحُ الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم تُوزَن الأقوالُ والأخلاق والأعمال، وبمُتابعتهم يتميَّزُ أهلُ الهدى وأهل الضلال

وإذا كانت سعادةُ العبد في الدارَين مُعلَّقةً بهدي النبي صلى الله عليه وسلم فيجبُ على كل من نصحَ نفسَه وأحبَّ نجاتَها وسعادتَها أن يعرِف هديَه وسيرتَه ونشأتَه

نفعَني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم

هذا وأستغفِرُ الله لي ولكم، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفورُ الرحيم

الخطبة الثانية

الحمدُ لله يُنالُ بحمده الثواب، أحمدُه على جزيل آلائه وهو الكريمُ الوهاب، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عليه توكلتُ وإليه متاب، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه جاء بالحكمة وفصل الخطاب، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ والأصحابِ، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم المآب

أما بعد، معاشر المُسلمين

سيرةٌ نبويةٌ مُباركة، ارتفعَت بها الأمة بعد أن كانت وضيعة، وعزَّت بعد أن كانت ذليلة، وتعلَّمت بعد أن كانت جاهلة بسطَت حقوقَ الفرد والجماعة بتأصيلٍ وتفصيلٍ ليس له نظير،"قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"المائدة:15-16

أمةٌ خيرُ أمة، سارَت على خير سيرة، جاهَدت في الله فانتصَرَت، وغلبَت فرحِمَت، وحكمَت فعدلَت، وساسَت فحرَّرَت، وفجَّرت ينابيع المعارف الحقَّة بعد نُضوبها

معاشر المُسلمين

هذه الأمة فيها الخيرُ إلى يوم القيامة، وسيظفَرُ دينُ الإسلام بكل انتِصارٍ - بإذن الله - مهما احلولَكَت الظُّلَم، وادلهمَّت الخُطوب

ألا فاتَّقوا الله - رحمكم الله -، واعلموا أن الإسلام سيبقَى بحفظِ الله ثم بقوَّته وجاذبيَّته وصموده، وجهود المُخلِصين من أبنائِه، رغم كل الحروب والاستِهدافات، مهما تكاثرَت الاتهامات، وانتشرَت التزييفات

هذا وتقرَّبوا إلى ربِّكم بالصلاة والسلام على هذا النبي المُصطفى، والخليل المُجتبى

ففي الصلاة والسلام عليه امتِثالٌ لأمر الله، ويُصلِّي الله عليكم وملائكتُه، وتُرفعُ لكم الدرجات، وتُحطُّ السيئات، وتُكتبُ الحسنات، ويُجابُ لكم الدعاء، وتُكفَون ما أهمَّكم وما أغمَّكم

وفي الصلاة المُصطفوية فيها زكاةٌ لكم وطهارة، وطريقٌ إلى الجنة، ونورٌ على الصراط وتثبيتٌ عليه، وتفوزون بالثناء من أهل الأرض والسماء، وتنالوا رحمةَ الله ومحبَّة رسول الله

اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك نبيِّنا محمدٍ الخليل المُصطفى، والنبي المُجتبى، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارضَ اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وجُودك وإحسانِك يا أكرم الأكرمين

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، واخذُل الطغاةَ والملاحدةَ وسائرَ أعداء الملَّة والدين

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمَّتنا وولاةَ أمورنا، واجعل اللهم ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبَع رضاك يا رب العالمين

اللهم وفِّق إمامنا ووليَّ أمرنا بتوفيقك، وأعِزَّه بطاعتك، وأعلِ به كلمتَك، واجعله نُصرةً للإسلام والمسلمين

اللهم وفِّق ولاةَ أمور المسلمين للعمل بكتابك وسنَّة نبيِّك محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلهم رحمةً لعبادك المؤمنين، واجمَع كلمتَهم على الحق والهُدى يا رب العالمين

اللهم أصلِح أحوال المُسلمين في كل مكان، واحقِن دماءَهم، واجمع على الحقِّ والهُدى والسنَّة كلمتَهم، وولِّ عليهم خيارَهم، واكفِهم أشرارَهم، وابسُط الأمنَ والعدلَ والرخاءَ في ديارهم، وأعِذهم من الشُّرور والفتن ما ظهرَ منها وما بطَن

"سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصِفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين".الصافات:180-182.

1437-3-18 هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 8 =

/500
جديد الخطب الكتابية
روابط ذات صلة
الخطب السابق
الخطب الكتابية المتشابهة الخطب التالي