السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال ابن إسحاق: كان رجلا من الروم، وهو أيوب بن موص بن رزاح بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وحكى ابن عساكر أن أمه بنت لوط عليه السلام ، وهو من الأنبياء المنصوص على الإيحاء إليهم في سورة النساء في قوله تعالى:{إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب}:[النساء 163] الآية وامرأته رحمة بنت أفرائيم بن يوسف بن يعقوب.
قال الله تعالى: {وأيوب إذ نادى ربه أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين } [الأنبياء : 83 - 84] وقال تعالى :{ واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أني مسني الشيطان بنصب وعذاب اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ووهبنا له أهله ومثلهم معهم رحمة منا وذكرى لأولي الألباب وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } [ ص : 41 - 44]
قال علماء التفسير، والتاريخ، وغيرهم: كان أيوب رجلا كثير المال من سائر صنوفه وأنواعه من الأنعام والعبيد والمواشي والأراضي المتسعة بأرض البثنية من أرض حوران وحكى ابن عساكر : أنها كلها كانت له ، وكان له أولاد وأهلون كثير ، فسلب من ذلك جميعه ، وابتلي في جسده بأنواع البلاء ، ولم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر الله عز وجل بهما ، وهو في ذلك كله صابر محتسب ذاكر لله عز وجل في ليله ونهاره ، وصباحه ومسائه ، وطال مرضه حتى عافه الجليس ، وأوحش منه الأنيس، وانقطع عنه الناس ، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته كانت ترعى له حقه ، وتعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها ، فكانت تتردد إليه فتصلح من شأنه ، وتعينه على قضاء حاجته وتقوم بمصلحته ، وضعف حالها ، وقل مالها حتى كانت تخدم الناس بالأجر لتطعمه ، وتقوم بأوده رضي الله عنها وأرضاها وهي صابرة معه على ما حل بهما من فراق المال والولد ، وما يختص بها من المصيبة بالزوج ، وضيق ذات اليد ، وخدمة الناس بعد السعادة والنعمة والخدمة ، والحرمة ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل فقيل له :"يا رسولَ اللهِ ! أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً ؟ قال : الأنبياءُ ، ثم الصالحون ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ ، يُبتلى الرجلُ على حسبِ دِينِه ، فإن كان في دِينِه صلابةٌ ، زِيدَ في بلائِه ، وإن كان في دِينِه رِقَّةٌ ، خُفِّفَ عنه ولا يزالُ البلاءُ بالمؤمنِ حتى يمشي على الأرضِ وليس عليه خطيئةٌ " صححه الألباني في كتاب :(الإيمان لابن تيمية).
ولم يزد هذا كله أيوب عليه السلام إلا صبرا واحتسابا ، وحمدا وشكرا ، حتى إن المثل ليضرب بصبره عليه السلام ، ويضرب المثل أيضا بما حصل له من أنواع البلايا ، وقد روي عن وهب بن منبه ، وغيره من علماء بني إسرائيل في قصة أيوب خبر طويل في كيفية ذهاب ماله وولده ، وبلائه في جسده ، والله أعلم بصحته ، وعن مجاهد أنه قال : كان أيوب عليه السلام أول من أصابه الجدري.
وقال حميد : مكث في بلواه ثماني عشرة سنة وقال السدي : تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب ، فكانت امرأته تأتيه بالرماد تفرشه تحته ، فلما طال عليها قالت : يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك فقال : قد عشت سبعين سنة صحيحا فهو قليل لله أن أصبر له سبعين سنة ، فجزعت من هذا الكلام ، وكانت تخدم الناس بالأجر ، وتطعم أيوب عليه السلام ، ثم إن الناس لم يكونوا يستخدمونها لعلمهم أنها امرأة أيوب خوفا أن ينالهم من بلائه أو تعديهم بمخالطته ، فلما لم تجد أحدا يستخدمها عمدت فباعت لبعض بنات الأشراف إحدى ضفيرتيها بطعام طيب كثير فأتت به أيوب فقال : من أين لك هذا ؟ وأنكره فقالت : خدمت به أناسا فلما كان الغد لم تجد أحدا فباعت الضفيرة الأخرى بطعام فأتته به فأنكره أيضا ، وحلف لا يأكله حتى تخبره من أين لها هذا الطعام ؟ فكشفت عن رأسها خمارَها ، فلما رأى رأسها وقد قصت ضفائرها قال في دعائه :{ أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين }.
عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :"إنَّ نبيَّ اللهِ أيُّوبَ لبث به بلاؤُه ثمانيَ عشرةَ سنةً ، فرفضه القريبُ والبعيدُ ، إلَّا رَجلَيْن من إخوانِه كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدُهما لصاحبِه ذاتَ يومٍ : تعلمُ واللهِ لقد أذنب أيُّوبُ ذنبًا ما أذنبه أحدٌ من العالمين ، فقال له صاحبُه : وما ذاك ؟ قال : منذ ثمانيَ عشرةَ سنةً لم يرحَمْه اللهُ فيكشِفَ ما به ، فلمَّا راحا إلى أيُّوبَ لم يصبِرِ الرَّجلُ حتَّى ذكر ذلك له ، فقال أيُّوبُ : لا أدري ما تقولان غير أنَّ اللهَ تعالَى يعلمُ أنِّي كنتُ أمرُّ بالرَّجلَيْن يتنازعان ، فيذكران اللهَ فأرجِعُ إلى بيتي فأُكفِّرُ عنهما كراهيةَ أن يُذكَرَ اللهُ إلَّا في حقٍّ ، قال : وكان يخرُجُ إلى حاجتِه فإذا قضَى حاجتَه أمسكته امرأتُه بيدِه حتَّى يبلُغَ ، فلمَّا كان ذاتَ يومٍ أبطأ عليها وأُوحي إلى أيُّوبَ أن ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ فاستبطأته ، فتلقَّته تنظُرُ وقد أقبل عليها قد أذهب اللهُ ما به من البلاءِ وهو أحسنُ ما كان ، فلمَّا رأته قالت : أيْ بارك اللهُ فيك ، هل رأيتَ نبيَّ اللهِ هذا المُبتلَى ، واللهِ على ذلك ما رأيتُ أشبهَ منك إذ كان صحيحًا ، فقال : فإنِّي أنا هو : وكان له أندَران أي ( بيدران ) : أندَرُ للقمحِ وأندَرُ للشَّعيرِ ، فبعث اللهُ سحابتَيْن ، فلمَّا كانت إحداهما على أندرِ القمحِ أفرغت فيه الذَّهبَ حتَّى فاض ، وأفرغت الأخرَى في أندرِ الشَّعيرِ الورِقَ حتَّى فاض " السلسلة الصحيحة للألباني.
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" بيْنَا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا، فَخَرَّ عليه جَرَادٌ مِن ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يا أيُّوبُ، ألَمْ أكُنْ أغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولَكِنْ لا غِنَى بي عن بَرَكَتِكَ."
وقوله :{اركض برجلك} أي اضرب الأرض برجلك فامتثل ما أمر به فأنبع الله له عينا باردة الماء ، وأمر أن يغتسل فيها ، ويشرب منها ، فأذهب الله عنه ما كان يجده من الألم والأذى والسقم والمرض ، الذي كان في جسده ظاهرا وباطنا ، وأبدله الله بعد ذلك كله صحة ظاهرة وباطنة ، وجمالا تاما ، ومالا كثيرا حتى صب له من المال صبا مطرا عظيما جرادا من ذهب ، وأخلف الله له أهله ، كما قال تعالى :{ وآتيناه أهله ومثلهم معهم} فآجره فيمن سلف ، وعوضه عنهم في الدنيا بدلهم ، وجمع له شمله بكلهم في الدار الآخرة وقوله :{رحمة من عندنا } أي رفعنا عنه شدته ، {وكشفنا ما به من ضر} رحمة منا به ورأفة وإحسانا {وذكرى للعابدين} أي تذكرة لمن ابتلي في جسده أو ماله أو ولده فله أسوة بنبي الله أيوب ، حيث ابتلاه الله بما هو أعظم من ذلك ، فصبر واحتسب حتى فرج الله عنه.
وقال الضحاك ، عن ابن عباس : "رد الله إليها شبابها وزادها حتى ولدت له ستة وعشرين ولدا ذكرا".
وعاش أيوب بعد ذلك سبعين سنة بأرض الروم على دين الحنيفية ، ثم غيروا بعده دين إبراهيم وقوله : {خذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب} هذه رخصة من الله تعالى لعبده ورسوله أيوب عليه السلام فيما كان من حلفه ليضربن امرأته مائة سوط فقيل: حلفه ذلك لبيعها ضفائرها ، فلما عافاه الله عز وجل أفتاه أن يأخذ ضغثا ، وهو كالعثكال الذي يجمع الشماريخ فيجمعها كلها ويضربها به ضربة واحدة ، ويكون هذا منزلا منزلة الضرب بمائة سوط ، ويبر ولا يحنث وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله، وأطاعه ، ولا سيما في حق امرأته الصابرة المحتسبة المكابدة الصديقة البارة الراشدة رضي الله عنها ؛ ولهذا عقب الله هذه الرخصة ، وعللها بقوله :{ إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب}
وقد ذكر ابن جرير، وغيره من علماء التاريخ أن أيوب عليه السلام لما توفي كان عمره ثلاثا وتسعين سنة وقيل : إنه عاش أكثر من ذلك .
وبالله التوفيق
1436/12/31 هـ