تفسير سورة النحل

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 15 ربيع الأول 1444هـ | عدد الزيارات: 1270 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة (النحل) مَكيَّةٌ، وهي السورةُ السادسة عشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور:

الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس، وهود، ويوسف، والرعد، وإبراهيم، والحجر، أما في ترتيب النزول، فكان ترتيبها التاسعة والستين، وكان نزولها بعد سورة الكهف ، وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية، وسميت بسورة النحل؛ لقوله تعالى فيها: ﴿وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً ، وتسمى- أيضًا- بسورة النعم، لأن الله- تعالى- عدد فيها أنواعًا من النعم التي أنعم بها على عباده، وسورة النحل من السور المكية: أى التي كان نزولها قبل الهجرة النبوية الشريفة.

﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(1)

يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها، معبرا بصيغة الماضي الدال على الوقوع لا محالة .

قوله: ﴿فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾ فلا تستعجلوا العذاب استهزاء بوعيد الرسول لكم. قوله:﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ تنزَّه الله سبحانه وتعالى عن الشرك والشركاء.

﴿ يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ(2).

بيَّن - سبحانه - لونا من ألوان قدرته، ورحمته بعباده، حيث أرسل إليهم الرسل مبشرين ومنذرين، فقال تعالى -: ﴿يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ . والمراد بالملائكة هنا: جبريل - عليه السلام - فالواحد قد يسمى باسم الجمع إذا كان رئيسا عظيما. والمراد بالروح: كلام الله - تعالى - الذى ينزل به جبريل ، ليبلغه إلى من أمره الله بتبليغه إياه.

قوله :﴿أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاتَّقُونِ﴾ بأن خوِّفوا الناس من الشرك، وأنه لا معبود بحق إلا الله، فاتقوه سبحانه بأداء الفرائض وإفراده بالعبادة بإخلاص، والتقوى هي أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية ، بإخلاص التوحيد ، والعمل الصالح.

﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(3)

يخبر تعالى عن خلقه العالم العلوي، وهو السموات وما فيها، والعالم السفلي وهو الأرض بما حوت ؛ ليستدِل بهما العباد على عظمة خالقهما، وأنه وحده المستحق للعبادة، تنزَّه - سبحانه- وتعاظم عن شركهم.

﴿ خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(4)

نبَّهَ سبحانه وتعالى على خلق الإنسان ﴿مِنْ نُطْفَةٍ﴾ ضعيفة مهينة ، فلما استقل ودرج وشبَّ عن الطوق إذا هو شديد الخصومة والجدال لربِّه في إنكار البعث وغير ذلك، وهو إنما خلق ليكون عبدا لا ضدا.

﴿ وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(5)

يمتن سبحانه على عباده بما خلقه لهم من الأنعامَ، وهي الإبل والبقر والغنم ، وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من النسل والحلب والركوب والحمل ، والأكل منها، وغير ذلك.

﴿ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ(6)

ولكم فيها زينة تُدْخل السرور عليكم عند وقت رجوعها عشيا من المرعى ، فإنها تكون أعظم ضروعا وعندما تُخْرجونها للمرعى في الصباح.

﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ (7)

بين - سبحانه - منفعة ثالثة من منافع الأنعام ، التى سخرها الله -تعالى- للإِنسان فقال:﴿وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ . الضمير فى قوله (وَتَحْمِلُ) يعود إلى الإِبل خاصة، لأنها هى التى يحمل عليها . والأثقال : جمع ثقل . وهو ما يُثقل الإِنسانَ حملُه من متاع وغيره. والمراد بالبلد جنسه ولأن الارتحال قد يكون إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما .

﴿إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) بكم، حيث سخَّر لكم ما تحتاجون إليه، فله الحمد .

﴿ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ(8)

هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده ، يمتن به عليهم ، وهو : الخيل والبغال والحمير ، التي جعلها للركوب ولتكون جمَالا لكم ومنظرًا حسنًا؛ ويخلق لكم من وسائل الركوب وغيرها ما لا عِلْمَ لكم به؛ لتزدادوا إيمانًا به.

﴿ وعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

لما ذكر في هذه السورة من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجاتهم، وتحمل أثقالهم للبلاد البعيدة شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس، فبين أن الحق منها ما هي موصولة إليه فقال:﴿ وعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ﴾ ، أي وعلى الله بيان الطريق المستقيم لِهدايتكم، وهو الإسلام، ومن الطرق ما هو مائل لا يُوصل إلى الهداية، وهو كل ما خالف الإسلام من الملل . ولو شاء الله هدايتكم لهداكم جميعًا للإيمان.

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10)

الآية الكريمة دليل على وحدانية الله - تعالى - وقدرته، وبديع خلقه، فهو وحده وليس غيره : الذى غمركم بنعمه ، حيث أنزل لكم من السحاب ماءً كثيرًا ، هذا الماء الكثير المنزل بقدر معلوم ، منه تأخذون ما تشربونه وما تنتفعون به فى حوائجكم الأخرى ، وبسببه تخرج المراعي التى ترعون فيها دوابكم، والمراد بالسماء : السحاب المرتفع فى طبقات الجو ، حيث ينزل منه الماء بقدرة الله - تعالى - والشراب : اسم للمشروب الذى يشربه الإِنسان والحيوان وغيرهما .

والشجر: يراد به هنا العشب والكلأ ؛ لأنه هو الذى ترعاه الأنعام.قوله:﴿ تسيمون من الإسامة ، بمعنى إطلاق الإِبل وغيرها للسوم ، أي الرعي.

﴿ يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)

يخرج لكم من الأرض ، بسبب الماء الذى أنزله عليها من السماء (الزَّرْعَ) الذى هو أصل أغذيتكم ، وعماد معاشكم ، كالقمح والشعير وغيرهما (وَالزَّيْتُونَ) الذى تستعملونه إداما فى أغذيتكم (وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ) اللذين فيهما الكثير من الفوائد. وأخرج لكم - أيضا - بسبب هذا الماء (مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ) التى تشتهونها وتنتفعون بها ، والتى تختلف فى أنواعها ، وفى مذاقها ، وفى روائحها ، وفى ألوانها ، مع أن الماء الذى سقيت به واحد ، والأرض التى نبتت فيها متجاورة، وهذه أكبر دلالة على قدرة الله - تعالى - ؛ لأنه لا يقدر على ذلك سواه - سبحانه -

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ(12)

﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ ذلل لكم ﴿اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ مذللات ، ﴿بِأَمْرِهِ أي : بإذنه ، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. إن في ذلك التسخير لَدلائلَ واضحةً لقوم يعقلون عن الله حججه وبراهينه.

﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ(13)

﴿وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ ﴾ معطوف على ما قبله من النعم وأصل الذرأ: الخلق بالتناسل والتوالد عن طريق الحمل والتفريخ . ومنه الذرية وهى نسل الثقلين، والجمع الذرارى ، ويقال: أنمى الله ذرأك وذروك أى: ذريتك .

والمعنى:سخر لكم - أيضاً - ما أوجده فى الأرض من أجل منفعتكم من عجائب الأمور ، ومختلف الأشياء ، من حيوان ونبات ، ومعادن مختلفة الألوان والأجناس والخواص . ولا شك أن فى اختلاف الألوان والمناظر والهيئات وغير ذلك ، فيه الدلالة الواضحة على قدرة الله - تعالى - وعلى أنه الخالق لكل شئ .

﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(14)

قوله: ﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم، وتيسيرهم للركوب فيه، وجعله السمك فيه وإحلاله لعباده لحمها ميتا ﴿ وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا الحلية - بالكسر - اسم لما تتحلى به النساء . وجمعها حِلى وحُلى - بكسر الحاء وضمها - يقال : تحلت المرأة إذا لبست الحُليَّ ، أى: ومن فوائد تسخير البحر لكم أنه سبحانه أقدركم على الغوص فيه؛ لتستخرجوا منه ما يتحلى به نساؤكم كاللؤلؤ والمرجان وما يشبههما ، ﴿وَتَرَى الْفُلْكَالسفن الجواري، ﴿مَوَاخِرَ فِيهِ أي: شواق تشق الماء. وأصل المخر : الرفع والشق. ﴿وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ يعني: التجارة ، ﴿ولعلكم تشكرون إذا رأيتم صنع الله فيما سخر لكم.

﴿ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15)

وأرسى في الأرض جبالا تثبتها حتى لا تميل بكم، وجعل فيها أنهارًا تجري من مكان إلى مكان آخر؛ رزقا للعباد، وجعل فيها طرقًا؛ لتهتدوا بها في الوصول إلى الأماكن التي تقصدونها.

﴿ وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

وجعل في الأرض معالم تستدلُّون بها على الطرق نهارا، من جبال كبار، وآكام صغار، ونحو ذلك، يستدل بها المسافرون برا وبحرا، إذا ضلوا الطريق، كما جعل النجوم للاهتداء بها ليلا.

﴿أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(17)

أتجعلون الله الذي يخلق كل هذه الأشياء وغيرها في استحقاق العبادة كالآلهة المزعومة التي لا تخلق شيئًا؟ أفلا تتذكرون عظمة الله، فتفردوه بالعبادة؟

﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(18)

ثم ذكرهم - سبحانه - بنعمه على سبيل الإِجمال ، بعد أن فصلَّ جانباً منها في الآيات السابقة فقال - تعالى - (وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ). والمراد بالنعمة هنا جنسها، فإن تحاولوا حَصْرَ نِعَم الله عليكم لا تَفُوا بحَصْرها؛ لكثرتها وتنوعها. وما دام الأمر كذلك فاشكروه عليها ما استطعتم وأخلصوا له العبادة والطاعة. وقوله: (إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ) استئناف قَصَدَ فتح باب الأمل أمامهم لكي يتداركوا ما فرط منهم من جحود وتقصير فى حقه سبحانه.

﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ(19)

والله سبحانه يعلم كل أعمالكم, سواء ما تخفونه منها في نفوسكم وما تظهرونه لغيركم، وسيجازيكم عليها، إن خيرا فخير ، وإن شرًا فشر.

﴿وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ(20)

والآلهة التي يعبدها المشركون لا تخلق شيئًا وإن صَغُر، فهي مخلوقات صنعها الكفار بأيديهم، فكيف يعبدونها؟

﴿أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ(21)

تمَّ الكلام عند قوله: لا يخلقون شيئا وهم يخلقون، ثم ابتدأ سبحانه فوصف المشركين بأنهم أموات ، وهذا الموت موتُ كفر . (وما يشعرون أيان يبعثون) أي وما يدري الكفار متى يبعثون، أي وقت البعث؛ لأنهم لا يؤمنون بالبعث حثى يستعدوا للقاء الله.

﴿إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ(22)

إلهكم المستحق وحده للعبادة هو الله الإله الواحد, فالذين لا يؤمنون بالبعث قلوبهم جاحدة وحدانيته سبحانه؛ لعدم خوفهم من عقابه، فهم متكبرون عن قبول الحق، وعبادة الله وحده.

﴿لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ(23)

(لا جَرَمَ) أي حقا ، والمعنى: حق وثبت أن الله- تعالى- يعلم ما يسره هؤلاء المشركون وما يعلنونه من أقوال وأفعال، وسيجازيهم على ذلك بما يستحقونه من عقوبات، لأنه- سبحانه- لا يحب المستكبرين عن الاستجابة للحق، المغرورين بأموالهم وأولادهم، الجاحدين لنعم الله وآلائه.

﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(24)

وإذا قال قائل لهؤلاء الكافرين المستكبرين، أى شئ أنزل ربكم على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قالوا له على سبيل الجحود للحق: لم ينزل عليه شئ ، وإنما هذا القرآن الذيي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم على أتباعه، هو من أساطير الكهنة الأولين، نقله من كتبهم ثم قرأه على من يستمع إليه.

﴿ لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ(25)

أي: إنما قدَّرْنا عليهم أن يقولوا ذلك فيتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم ، أي : يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث: "مَن دَعا إلى هُدًى، كانَ له مِنَ الأجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن أُجُورِهِمْ شيئًا، ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عليه مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ، لا يَنْقُصُ ذلكَ مِن آثامِهِمْ شيئًا. " رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.

﴿ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26)

لا تهتم - أيها الرسول الكريم - بما يقوله المستكبرون من قومك فى شأن القرآن الكريم لكى يصرفوا الناس عن الدخول فى الإِسلام ، فقد مكر الذين من قبلهم بأنبيائهم ، فكانت عاقبة مكرهم أن أتى الله بنيانهم من القواعد، بأن اجتث هذا البنيان من أصله؛ واقتلعه من أساسه (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ) أى: فسقط عليهم سقف بنيانهم فأهلكهم (وأتاهم العذاب) المدمر (مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ) ولا يحتسبون بأنه سيأتيهم من هذه الجهة، بل كانوا يتوقعون أن ما شيدوه سيحميهم من المهالك.

﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27).

(ثم يوم القيامة يخزيهم) يهينهم بالعذاب ، (ويقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم ) تخالفون المؤمنين فيهم ، ما لهم لا يدفعون عنكم العذاب؟ (قال الذين أوتوا العلم) من العلماء الربانيين (إن الخزي) الهوان ، (اليوم والسوء) أي العذاب ، (على الكافرين) أي الجاحدين.

﴿ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(28)

قوله تعالى : (الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم) هذا من صفة الكافرين أنهم ظلموا أنفسهم إذ أوردوها موارد الهلاك. (فألقوا السلم) أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين. (ما كنا نعمل من سوء) أي من شرك . فقالت لهم الملائكة :(بلى) قد كنتم تشركون. (إن الله عليم بما كنتم تعملون) فيجازيكم عليه.

﴿ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(29)

فادخلوا أبواب جهنم، لا تخرجون منها أبدًا، فلبئس المقام والمكان من دارٍ هوان ، لمن كان متكبرا عن آيات الله واتباع رسله.

﴿وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ(30)

بيان لما رد به المؤمنون الصادقون ، على من سألهم عما أنزله الله - تعالى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو معطوف على ما قبله، للمقابلة بين ما قاله المتقون، وما قاله المستكبرون، ووصفهم بالتقوى ، للإشعار بأن صيانتهم لأنفسهم عن ارتكاب ما نهى الله - تعالى - عنه ، وخوفهم منه - سبحانه - ومراقبتهم له ، كل ذلك حملهم على أن يقولوا هذا القول السديد .

وقوله - سبحانه -:(لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ) جملة مستأنفة لبيان ماوعدهم به - تعالى - على أعمالهم الصالحة من أجر وثواب. أى: هذه سنتنا فى خلقنا أننا نجازى الذين يعملون الصالحات بالجزاء الحسن الكريم ، دون أن نضيع من أعمالهم شيئا.

وقوله (حسنة) صفة لموصوف محذوف أى : مجازاة حسنة بسبب أعمالهم الصالحة .ثم بين - سبحانه - جزاءهم فى الآخرة فقال: (وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين) والمراد بدار المتقين : الجنة ونعيمها.

﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ(31)

ثم وصف- سبحانه- ما أعده لهم من نعيم فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ.

العدن: الإقامة الدائمة: يقال: عدن فلان ببلد كذا، إذا توطن فيه وأقام دون أن يبرحه أي: لهؤلاء المتقين: جنات دائمة باقية، يدخلونها بسرور وحبور، تجري بين أشجارها وقصورها الأنهارُ. «لهم فيها ما يشاءون» مما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين «كذلك يجزى الله المتقين» أى: مثل هذا الجزاء الحسن، يجزي الله- تعالى- عباده المتقين، الذين جنبوا أنفسهم مالا يرضيه.

﴿الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ(32)

أخبر سبحانه وتعالى عن حالهم عند الاحتضار، أنهم طيبون، أي: مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة.

﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ(33)

يقول تعالى متهددا للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا: هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم بقبض أرواحهم، (أو يأتي أمر ربك) أي : يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال. وقوله : (كذلك فعل الذين من قبلهم) أي : هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين حتى ذاقوا بأس الله ، وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال . ( وما ظلمهم الله ) ؛ لأنه تعالى أعذر إليهم ، وأقام حججه عليهم بإرسال رسله وإنزال كتبه ، ( ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) أي : بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به.

﴿ فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾ (34)

فنزلت بهم عقوبة ذنوبهم التي عملوها، وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يسخرون منه.


﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(35)

  • يقول تعالى ذكره: وقال الذين أشركوا بالله فعبدوا الأوثان والأصنام من دون الله: ما نعبد هذه الأصنام إلا لأن الله قد رضي عبادتنا لها، ولا نحرم ما حرمنا من البحائر والسوائب - كقوله تعالى: ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ ﴾.المائدة (103)- ، إلا أن الله شاء منا ومن آبائنا تحريمنا لها، لولا ذلك لعاقبنا الله . (كذلك فعل الذين من قبلهم) من الأمم المشركة الذين استَن هؤلاء سنتهم، فقالوا مثل قولهم، وسلكوا سبيلهم في تكذيب رسل الله ، واتباع أفعال آبائهم الضُلَّال، (فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) فهل أيها الكاذبون، على رسلنا الذين نرسلهم بإنذاركم إلا البلاغ المبين. ويعني بقوله (المُبِينُ): الذي يبين عن معناه لمن أبلغه، ويفهمه من أرسل إليه.

﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(36)

  • قوله:(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا) أي: كما بعثنا فيكم، (أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت ) وهو كل معبود من دون الله ، ( فمنهم من هدى الله ) أي: هداه الله إلى دينه ، ( ومنهم من حقت عليه الضلالة) أي: وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره، (فسيروا في الأرض فانظروا ) .حثّ لهم على التأمل فى آثار المكذبين ، لعلهم عن طريق هذا التأمل والتدبر يثوبون إلى رشدهم. (كيف كان عاقبة المكذبين) أي: مآل أمرهم ، وهو خراب منازلهم بالعذاب والهلاك .

  • ﴿إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ(37)

    إن تحرص- أيها الرسول الكريم- على هداية هؤلاء المصرين على كفرهم لن ينفعهم حرصك. فإن الله- تعالى- قد اقتضت حكمته أن لا يهدى من سبق في علمه أنه سيختار الضلال على الهدى والرشاد.﴿وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ وليس لهؤلاء الضالين من ناصر يدفع عنهم عذاب الله-

  • وفي الجملة الكريمة إشارة إلى ما جبل عليه النبي صلى الله عليه وسلم من مكارم الأخلاق، فإنه مع ما لقيه من مشركي قومه من أذى وعناد وتكذيب، كان حريصًا على ما ينفعهم ويسعدهم.

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(38)

﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ) هذا تعجب من صنعهم ، إذ أقسموا بالله وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت، ووجه التعجب أنهم يظهرون تعظيم الله فيقسمون به ثم يعجزونه عن بعث الأموات. (لا يبعث الله من يموت) أي: استبعدوا ذلك ، فكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك ، وحلفوا على نقيضه، فقال تعالى مكذبا لهم وردا عليهم: (بلى وعدا عليه حقا) أي: لا بد منه، ( ولكن أكثر الناس لا يعلمون ) أي: ولكنَّ أغلب الناس لجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر.

﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ(39)

بعد أن بينت الآية السابقة أن بعث الموتى حق، تبين هذه الآية الحكمة من هذا البعث، وهي بيان الحق وبيان الباطل بأوضح بيان وأوضح عاقبة، إما جنة وإما نار، وليعلم منكرو البعث أنهم مفترون بإنكارهم للبعث والنشور.

﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(40)

بعد أن بينت الآيات السابقة إنكار الكفار لبعث الله الموتى، وبينت الحكمة من البعث، تبين هذه الآية أن الله قادر على بعث الموتى، وأن هذا الخلق لا يتطلب منه سبحانه و تعالى إلا أمرا، وأمره بعد الكاف والنون.

﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(41)

والذين هاجروا فى سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم . هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا. والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا، مع التوفيق والهداية.

  • ﴿وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ قوله: " لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ"هو راجع إلى المؤمنين أي: لو رأوا ثواب الآخرة وعاينوه لعلموا أنه أكبر من حسنة الدنيا.

﴿الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

هؤلاء المهاجرون في سبيل الله هم الذين صبروا على أوامر الله وعن نواهيه وعلى أقداره المؤلمة, وعلى ربهم وحده يعتمدون، فاستحقوا هذه المنزلة العظيمة.

﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(43)

قوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ) نزلت في مشركي مكة حيث أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا ، فهلا بعث إلينا ملكا ؟ (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِإِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) يعني علماء أهل الكتب الماضية، فاسألوهم: هل أرسل الله قبل محمد - صلى الله عليه وسلم - رُسُلا من الملائكة أم من البشر ؟

والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فإذا لم يكن عند الإنسان علم في مسألة من المسائل الشرعية فعليه أن يسأل من يعلمها من العلماء.

﴿بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ (44)

المراد بالبينات : الحجج والمعجزات الدالة على صدق الرسل . والزبر: جمع زبور، وهي الكتب .

والمعنى: وأَرْسَلْنا الرسل السابقين بالدلائل الواضحة وبالكتب السماوية، وأنزلنا إليك - أيها الرسول- القرآن؛ لتوضح للناس ما خفي مِن معانيه وأحكامه، ولكي يتدبروه ويهتدوا به.

﴿أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(45)

هذا تخويف من الله تعالى لأهل الكفر والتكذيب وأنواع المعاصي، من أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون أو أن يأخذهم بالعذاب على غرَّة وهم لا يشعرون، فليسوا بمعجزين لله في أي حال، بل هم تحت قبضته ونواصيهم بيده .

﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ (46)

بيان لنوع ثالث من أنواع التهديدات التي هددهم الله- تعالى- بها. والأخذ في الأصل: حوز الشيء وتحصيله، والمراد به هنا: القهر والإهلاك والتدمير ومنه قوله- تعالى- فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (الحاقة 10) والتقلب: الحركة السريعة إقبالا وإدبارا، من أجل السعي في شئون الحياة من متاجرة ومعاملة وسفر وغير ذلك. أى: في قدرتنا كذلك أن نهلكهم وهم يتحركون في مناكب الأرض خلال سفرهم أو إقامتهم، فإنهم في جميع الأحوال لا يعجزنا أخذهم، ولا مهرب لهم مما نريده بهم.

﴿أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾(47)

بيان لنوع رابع من التهديدات، فقوله: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) أي : أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد حالة الأخذ؛ فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد . ثم قال تعالى : (فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ) أي : حيث لم يعاجلكم بالعقوبة.

﴿أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ(48)

  • يقول تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا﴾ أي: الشاكون في توحيد ربهم وعظمته وكماله، ﴿إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ ْ﴾ أي: إلى جميع مخلوقاته وكيف تتفيأ أظلتها، وتفيؤ الظلال : تنقلها من جهة إلى أخرى بعد شروق الشمس ، وبعد زوالها . والظلال : جمع ظل ، وهو صورة الجسم المنعكس إليه نور ﴿عَن الْيَمِينِ} وعن ﴿الشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ أي: كلها ساجدة لربها خاضعة لعظمته وجلاله، ﴿وَهُمْ دَاخِرُونَ﴾ أي: ذليلون تحت التسخير والتدبير والقهر، ما منهم أحد إلا وناصيته بيد الله وتدبيره عنده.

وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ﴾ (49)

ولله يخضع ويستسلم لأمره(مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )قوله: (مِنْ دَابَّةٍ ) أي من كل ما يدب على الأرض، قوله: (وَالْمَلائِكَةُ ) معطوف علي (مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي الأَرْضِ)، وإنما أفردهم بالذكر لاختصاصهم بشرف المنزلة ، فميزهم من صفة الدبيب بالذكر وإن دخلوا فيها ( وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ) أي عن التذلل له بالطاعة.

﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ (50)

قوله: (يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) أي: يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله ، ( وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) أي : مثابرين على طاعته تعالى ، وامتثال أوامره، وترك زواجره.

﴿وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ (51)

  • يقول تعالى ذكره لعباده: لا تتخذوا لي شريكا أيها الناس، ولا تعبدوا معبودين، فإنكم إذا عبدتم معي غيري جعلتم لي شريكا، ولا شريك لي، إنما هو إله واحد ومعبود واحد، سبحانه وتعالى ، ( فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ) فإياي فاتقوا وخافوا عقابي بمعصيتكم إياي إن عصيتموني و أشركتم شركاء في عبادتكم لي.

  • ﴿وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ﴾ (52)

  • (وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ ) الطاعة والإخلاص (وَاصِبًا) دائما ثابتا . فليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع ذلك عنه بزوال أو هلاك، غير الله عز وجل، فإن الطاعة تدوم له ولا تنقطع، (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ) أي : تخافون ، استفهام على طريق الإنكار .

    ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ﴾(53)

  • قوله تعالى (وما بكم من نعمة فمن الله) أي : وما بكم مِن نعمةِ هدايةٍ، أو صحة جسم، وسَعَة رزقٍ وولد، وغير ذلك فمن فضله سبحانه وتعالى عليكم ، (ثم إذا مسكم الضر) القحط والمرض، (فإليه تجأرون) تضجون وتصيحون بالدعاء والاستغاثة لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو ، فإنكم عند الضرورات تلجئون إليه ، وتسألونه وتلحون في الرغبة مستغيثين به .

  • ﴿ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ (54)

    ثم إذا كشف عنكم البلاء والسقم، إذا جماعة منكم يتخذون مع ربهم المُنْعِم عليهم بالنجاة الشركاءَ ، وهذه الآية الكريمة تصوّر الطبائع البشرية أكمل تصوير وأصدقه، إذ الناس- إلا من عصم الله- يجأرون إلى الله- تعالى- بالدعاء عند الشدائد والمحن، وينسونه عند السراء والرخاء.

  • ﴿لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ (55)

    ليجحدوا نعمنا عليهم، ومنها كَشْفُ البلاء عنهم، فاستمتعوا بدنياكم، ومصيرها إلى الزوال، فسوف تعلمون عاقبة كفركم وعصيانكم.

  • ﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ﴾ (56)

    ومِن قبيح أعمالهم أنهم يجعلون للأصنام والأوثان والأنداد التي اتخذوها آلهة، وهي لا تعلم شيئًا ولا تنفع ولا تضر، جزءًا من أموالهم التي رزقهم الله إياها تقربًا إليها. فأقسم سبحانه وتعالى بنفسه الكريمة ليسألنَّهم يوم القيامة عما كانوا يختلقونه من الكذب على الله، وليجازينَّهم العذاب الأليم في نار جهنم .

﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ﴾ (57)

  • قوله: (ويجعلون لله البنات) الذي جعل لله البنات هما قبيلتا خزاعة وكنانة،( سبحانه) تنزَّه الله عن قولهم (ولهم ما يشتهون) أي: يختارون لأنفسهم الذكور الذين يحبونهم ويفضلونهم على البنات.

  • ﴿وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ﴾ (58)

    قوله (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا) أي: كئيبا من الهم، (وهو كظيم) ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن.

    ﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ﴾ (59)

    قوله:﴿يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ﴾ أي : يكره أن يراه الناس (مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ﴾ أصبح يتوارى ويتخفى عن أعين الناس خجلا وحياء، من أجل أن زوجته ولدت له أنثى ولم تلد له ذكرا. ﴿أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ) أي: إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ، ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها ، (أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ) أي: يدفنها فيه حية ، وهذا فعلهم في الجاهلية ، (ألا ساء ما يحكمون) أي: ألا قبحا للحكم الذي حكموه مِن جَعْل البنات لله والذكور لهم.

  • ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (60)

قوله: ﴿لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ﴾أي النقص، وهو ينسب إليهم ﴿وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىأي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وهو العزيز في ملكه، الحكيم في تدبيره.

﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ(61)

يخبر الله تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا لأهلك جميع دواب الأرض تبعا لإهلاك بني آدم ، ولكن الله يحلم ويستر، وينذر "إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" أي يبقيهم إلى وقت محدد هو نهاية آجالهم، ﴿فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ فإذا جاء موعد قبض أرواحهم لا يتأخرون عنه وقتًا يسيرًا، ولا يتقدمون.

﴿وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ﴾ (62)

ومن قبائحهم: أنهم يجعلون لله ما يكرهونه لأنفسهم من البنات, وتقول ألسنتهم كذبًا: إن لهم حسن العاقبة, ﴿لا جَرَمَ ﴾ أي حقًا لا بدَّ منه أن لهم النارَ، وأنهم فيها مَنْسيون مُضَيَّعُون.

﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(63)

  • وجَّهَ - سبحانه - خطابا لنبيه صلى الله عليه وسلم على سبيل التسلية والتثبيت وعدم الحزن لما أصابه من تكذيب قومه له وإعراضهم عنه، ﴿ تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِك﴾ أقسم لك - أيها الرسول - بذاتى ، لقد أرسلنا رسلا كثيرين إلى أمم كثيرة من قبلك ، فكانت النتيجة أن استحوذ الشيطان على نفوس عامة هؤلاء المرسَل اليهم ، حيث زيَّن لهم الأفعالُ القبيحة ، وقبَّحَ لهم الأعمال الحسنة ، وجعلهم يقفون من رسلهم موقفَ المكذبِ لأقوالهم ، المعرض عن إرشاداتهم ، المحارب لدعوتهم .(فهو وليهم اليوم) أي متولٍ إغواءَهم في الدنيا، (ولهم عذاب أليم) شديد موجع في الآخرة.

    ﴿ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (64)

    ثم قال تعالى لرسوله: إنما أنزل عليك الكتاب لتبين للناس الذي يختلفون فيه ، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه (وَهُدًى) أي: للقلوب،(وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أي: لمن تمسك به

    ﴿وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ (65)

    والله أنزل من السحاب مطرًا، فأخرج به النبات من الأرض بعد أن كانت قاحلة يابسة، إن في إنزال المطر وإنبات النبات لَدليلا على قدرة الله على البعث وعلى الوحدانية، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ أي يتدبرون، ويطيعون الله، ويتقونه. والمراد بالسمع: سمع القلوب والعقول ، لا سمع الآذان فقط ، إذ سمع الآذان بدون وعيٍ واستجابةٍ للحق ، لاقيمةَ له ، ولا فائدةَ تُرجى من ورائه.

    ﴿وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ﴾ (66)

    وإن لكم - أيها الناس- في الأنعام - وهي الإبل والبقر والغنم- لَعظة، فقد شاهدتم أننا نسقيكم من ضروعها لبنًا، وقوله : (من بين فرث ودم لبنا خالصا) أي : يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته من بين فرث ودم في باطن الحيوان ، فيسري كل إلى موطنه ، إذا نضج الغذاء في معدته تصرف منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ولا يمازجه بعد انفصاله عنه، ولا يتغير به .

    وقوله : (سائغا للشاربين) أي يسوغ لمن شربه فلا يَغَصّ به كما يَغَصّ الغاصّ ببعض ما يأكله من الأطعمة.

    ﴿وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (67)

    ومِن نِعَمنا عليكم ما تأخذونه من ثمرات النخيل والأعناب, فتجعلونه خمرًا مُسْكِرًا - وهذا قبل تحريمها- وطعامًا طيبًا. إن فيما ذكر لَدليلا على قدرة الله لِقومٍ يعقلون البراهين فيعتبرون بها.

    ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (68)

    وألْهَمَ ربك - أيها النبي- النحل بأن اجعلي لك بيوتًا في الجبال، وفي الشجر، ﴿وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ أي يبنون ، وقد جرت العادة أن مالكيها يبنون لها الأماكن ، فهي تأوي إليها.

  • ﴿ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(69)

  • (ثم كلي من كل الثمرات) وذلك أنها إنما تأكل النوار من الأشجار (فاسلكي سبل ربك) السبل : الطرق ، وأضافها إليه لأنه خالقها . أي ادخلي طرق ربك لطلب الرزق في الجبال وخلال الشجر . (ذللا) مذللة للنحل سهلة المسالك. (يخرج من بطونها شراب) يعني العسل (مختلف ألوانه) أبيض وأحمر وأصفر. (فيه شفاء للناس)أي: في العسل. (إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون) لعلامة لقوم يعتبرون .

    ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ (70)

    والله سجانه وتعالى خلقكم ثم يميتكم في نهاية أعماركم، ومنكم مَن يصير إلى أردأ العمر وهو الهرم, كما كان في طفولته لا يعلم شيئًا مما كان يعلمه، (إن الله عليم قدير)، أحاط علمه وقدرته بكل شيء، فالله الذي ردَّ الإنسان إلى هذه الحالة قادر على أن يميته، ثم يبعثه.

﴿وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾ (71)

الآية الكريمة توبيخ للذين يشركون مع الله - تعالى - آلهة أخرى فى العبادة . وضرب الله لهذا مثلا حيث فضل - تعالى - بعضهم على بعض في الرزق فهل يعطي الأغنياءُ أموالَهم مملوكيهم بحيث يتساوون معهم فى الرزق، فإن كانوا يأبَوْن ذلك فكيف يرضون لله شريكا في ملكه؟ فإن ذلك جحد لنعمة الله.

﴿وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَٰجًا وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَٰجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ ۚ أَفَبِٱلْبَٰطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ ٱللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ﴾ (72)

والله سبحانه جعل مِن جنسكم ونوعكم أزواجا؛ لتستريح نفوسكم إليها ، وتستأنسوا بها ، فإن الجنس إلى الجنس آنس وأسكن وجعل لكم منها الأبناء ومِن نسلهم الأحفاد، ورزقكم من الأطعمة الطيبة من الثمار والحبوب واللحوم وغير ذلك. أفبالباطل من ألوهية شركائهم يؤمنون, وبنعم الله التي لا تحصى يجحدون، ولا يشكرون له بإفراده جل وعلا بالعبادة؟

﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئًا وَلا يَسْتَطِيعُونَ﴾ (73)

يقول تعالى إخبارًا عن المشركين إنهم يعبدون أصنامًا لا تملك أن تعطيهم شيئًا من الرزق فهي لا تقدر على إنزال المطر من السماء أو إنبات الزرع من الأرض.

﴿فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ (74)

قوله (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ) الأمثال الأشباه، يقول: فلا تمثلوا لِلهِ الأمثال، ولا تشبِّهوا له الأشباه، فإنه لا مِثْل له ولا شِبْه. فلا تجعلوا معي إلهًا غيري، فإنه لا إله غيري. (إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )أي: واللهُ يعلم خطأ ما تمثلون وتضربون من الأمثال وصوابه، وغير ذلك من سائر الأشياء، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه.

﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ (75)

ضرب الله تعالى مثلا تستدلون به على وحدانيته - سبحانه - وهو أن هناك رقيقا مملوكا لغيره، وهذا الرقيق لا يقدر على شئ من التصرفات حتى ولو كانت قليلة ورجلا آخر حرًا، له مال حلال رزَقَه الله إياه، يملك التصرف فيه، فيعطي منه في الخفاء والعلن، فهل يقول عاقل بالتساوي بين الرجلين؟ فكذلك الله الخالق المالك المتصرف لا يستوي مع خلقه وعبيده, فكيف تُسَوُّون بينهما؟ الحمد لله وحده، فهو المستحق للثناء، بل أكثر المشركين لا يعلمون أن الثناء والنعمة لله، وأنه وحده المستحق للعبادة.

﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (76)

وهذا مثل آخر لبطلان الشرك وهو أشد وضوحا من سابقه على وحدانية الله - تعالى - ورحمته بعباده، ضربه الله برجلين: أحدهما لا يستطيع النطق، ضعيف الفهم والتفهيم لغيره لا يَفْهَم ولا يُفْهِم، لا يقدر على منفعة نفسه أو غيره، ﴿وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ﴾ ثقل على وليِّه ، ﴿أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ ﴾ إذا أرسله لأمر يقضيه لا ينجح، ولا يعود عليه بخير، ورجل آخر سليم الحواس، ينفع نفسه وغيره، يأمر بالإنصاف، وهو على طريق واضح لا عوج فيه، ﴿هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ فهل يستوي الرجلان في نظر العقلاء؟! فكيف تُسَوُّون بين الصنم الأبكم الأصمِّ وبين الله القادر المنعم بكل خير؟

﴿وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(77)

ولله سبحانه وتعالى عِلْمُ ما غاب في السموات والأرض،(وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) بيان لسرعة نفاذ أمره بدون مهلة، والساعة فى الأصل: اسم لمقدار قليل من الزمان غير معين . والمراد بها هنا يوم القيامة وما يحدث فيه من أهوال، وما شأن القيامة في سرعة مجيئها إلا كنظرة سريعة بالبصر، بل هو أسرع من ذلك. ( إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) أى : إن الله - تعالى - لا يعجز قدرته شئ سواء أكان هذا الشئ يتعلق بأمر قيام الساعة فى أسرع من لمح البصر أم بغير ذلك من الأشياء.

﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (78)

ساق الله تعالى بعضًا من نعمه على عباده فقال:﴿والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً . أى: والله - تعالى - وحده هو الذى أخرجكم - أيها الناس - من بطون أمهاتكم إلى هذه الدنيا ، وأنتم لا تعلمون شيئا لا من العلم الدنيوى ولا من العلم الشرعي، ولا تعرفون ما يضركم أو ينفعكم ، وقوله - سبحانه - ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة ثانية من نعم الله - سبحانه - التى لا تحصى. قال ابن كثير : " وهذه القوى والحواس تحصل للإِنسان على التدريج قليلا قليلا حتى يبلغ أشده. وإنما جعل - تعالى - هذه الحواس فى الإِنسان ليتمكن بها من عبادة ربه ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه"

﴿أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(79)

حثَّ - سبحانه - عبادَه على التفكر فى مظاهر قدرته فقال : ﴿ أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله. و(الطير) : جمع طائر. و (مسخرات) من التسخير بمعنى التذليل والانقياد أي : ألم ينظر هؤلاء الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى فى العبادة ، إلى الطيور وهن يسبحن فى الهواء المتباعد بين الأرض والسماء، (ما يمسكهن) فى حال قبضهن وبسطهن لأجنحتهن إلا الله - تعالى - ، بقدرته الباهرة التى أودعها فى فطرة الطير . إنهم لو نظروا نظر تأمل وتعقل ، لعلموا أن المسخر لهنَّ هو الله الذى لا معبود بحق سواه وفى قوله (مسخرات) إشارة إلى أن طيرانها فى الجو ليس بمقتضى طبعها ، وإنما هو بتسخير الله تعالى لها وبسبب ما أوجد لها من حواس ساعدتها على ذلك، كالأجنحة وغيرها. ثم ختم سبحانه الآية الكريمة بقوله: (إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) أى: إن فى ذلك التسخير والتذليل للطير على هذه الصفة (لآيات) بينات على قدرة الله ووحدانيته، (لقوم يؤمنون) بالحق ، ويفتحون قلوبهم له ويسمَوْنَ بأنفسهم عن التقليد الباطل.

﴿وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ﴾ (80)

ومن أنواع النعم التي امتنَّ الله بها على عباده منها ما يتعلق بنعمة المسكن فقال - تعالى - : (والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً). جعل لكم من بيوتكم راحة واستقرارًا مع أهلكم، وأنتم مقيمون في الحضر، والحق أن نعمة السكن فى البيوت والاستقرار فيها ، والشعور بداخلها بالأمان والاطمئنان ، لا يقدرها حق قدرها ، إلا أولئك الذين فقدوها ، وصاروا يعيشون بلا مأوى يأويهم ، أو منزل يجمع شتاتهم .وقوله: (وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ )أي: وجعل لكم في سفركم خيامًا وقبابًا من جلود الأنعام، يَخِفُّ عليكم حِمْلها وقت تَرْحالكم، ويخف عليكم نَصْبها وقت إقامتكم بعد التَّرْحال، ثم ختم - سبحانه - الآية بإظهار نعمة ثالثة ، تتمثل فيما يأخذونه من الأنعام فقال - تعالى -: (وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ) أي: وجعل لكم من أصواف الضأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز والبقر أثاثًا لكم من أكسية وألبسة وأغطية وفرش وزينة، تتمتعون بها إلى أجل مسمَّى ووقت معلوم.

﴿ وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ﴾ (81)

جاء الحديث هنا عن نعمة الظلال والجبال واللباس، بعد الحديث عن نعمة البيوت والأنعام فقال - سبحانه - : ( والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ) أي: جعل الله لكم ما تستظلُّون به من الأشجار وغيرها، والظلال : جمع ظل ، وهو ما يستظل به الإِنسان. قوله - تعالى - ( وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً ) نعمة ثانية، والمراد بالأكنان هنا : المغارات والأسراب والكهوف المنحوتة فى بطون الجبال، تلجؤون إليها عند الحاجة، وقوله - سبحانه - (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر) نعمة ثالثة. والسرابيل: جمع سربال وهى كل ما يتسربل به : أى يلبسها الناس للتستر والوقاية كالقمصان والثياب وغيرها، وقال - سبحانه - ( تقيكم الحر ) مع أنها تقي من الحر والبرد ، اكتفى بذكر الحر؛ لأنه الأهم عندهم، إذ من المعروف أن بلاد العرب يغلب عليها الحر لا البرد . قوله:( وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ) وهي الدروع قال العلماء:فى قوله - تعالى - : (وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ) دليل على اتخاذ الناس عدة الجهاد ليستعينوا بها على قتال الأعداء . وقد لبسها النبى صلى الله عليه وسلم فى حروبه أي: وجعل لكم من الحديد ما يردُّ عنكم الطعن والأذى في حروبكم، ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : (كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ) أى : كذلك الإِتمام السابغ للنعم التى أنعم بها - سبحانه - على عباده يتم نعمته عليكم المتمثلة فى نعم الدين والدنيا، لعلكم بذلك تسلمون وجوهكم لله - عز وجل - وتخلصون له الطاعة.

﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ (82)

يسلي الله - تعالى - نبيَّه صلى الله عليه وسلم عمَّا أصابه من أعدائه فقال : ( فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين ) أي:فإن استمر هؤلاء المشركون فى إعراضهم عن دعوتك بعد هذا البيان والامتنان ، فلا لوم عليك ، فأنت عليك البلاغ الواضح ونحن علينا محاسبتهم ، ومعاقبتهم بما يستحقون من عقاب .

﴿يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ﴾ (83)

  • عني بالنعمة التي ذكرها الله في قوله (يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ) النعمة عليهم بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم داعيًا إلى ما بعثه بدعوتهم إليه، فمعنى الآية: يعلم هؤلاء المشركون بالله نعمة الله عليهم بك، ثم يجحدون نبوّتك (وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ) أي: الجاحدون .

  • ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ (84)

    • يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة وأنه يبعث من كل أمة شهيدا وهو نبيها يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى "ثم لا يؤذن للذين كفروا" أي في الاعتذار والكلام وذلك حين تطبق عليهم جهنم فلهذا قال "ولا هم يستعتبون" يسترضون، فقد نفت عن الذين كفروا قبول أعذارهم ، وقبول محاولتهم إرضاء ربهم عما كانوا عليه من كفر وزيغ فى الدنيا.

    • ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ﴾ (85)

    • أى : وإذا أبصر الذين ظلموا العذاب الذى أعد لهم فى الآخرة بسبب ظلمهم وكفرهم فى الدنيا ، فزعوا وخافوا ، ولكن خوفهم وفزعهم لن يغير من الأمر شيئا، إذ لا يخفف عنهم العذاب بسبب خوفهم : ولا هم يؤخرون عنه.
    • ﴿وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (86)

      قوله تعالى: (وإذا رأى الذين أشركوا) أي أبصروا يوم القيامة، (شركاءهم) أوثانهم ، (قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك) أربابا ونعبدهم ، (فألقوا) يعني الأوثان، (إليهم القول) أي: قالوا لهم ، (إنكم لكاذبون) في تسميتنا آلهة ما دعوناكم إلى عبادتنا.

    • ﴿وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ (87)

      عند ما عجز المشركون عن الرد على الشركاء بدليل قوله - تعالى - بعد ذلك : ( وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) .أظهروا الاستسلام والخضوع لله يوم القيامة، وغاب وذهب عنهم ما كانوا يفترونه ويزعمونه فى الدنيا من أن آلهتهم ستشفع لهم، أو ستنفعهم يوم القيامة.

﴿الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ(88)

أى: الذين لم يكتفوا بكفرهم، بل أضافوا إلى ذلك أنهم (صدوا) غيرهم ومنعوهم (عَن سَبِيلِ الله) أى: عن اتباع الصراط المستقيم، والطريق القويم وهو طريق الإِسلام، هؤلاء الأشقياء الذين فعلوا ذلك: (زدناهم عذابا) شديدا (فوق العذاب) الذى يستحقونه (بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ) أى: بسبب فسادهم فى الأرض وكفرهم بالحق ، وصدهم الناس عن اتباعه.

﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ ۚ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍۢ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ (89)

يقول تعالى مخاطبا عبده ورسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - :" ﴿وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِى كُلِّ أُمَّةٍۢ شَهِيدًا عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ ۖ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَىٰ هَٰٓؤُلَآءِ ۚ واذكر - أيها الرسول- حين نبعث يوم القيامة في كل أمة من الأمم شهيدًا عليهم، وهو رسولهم الذي بعثه الله إليهم من جنسهم وبيئتهم ، وجئنا بك شهيدًا على أمتك، تذكرْ ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع وقد ﴿نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ تِبْيَٰنًا لِّكُلِّ شَىْءٍۢ أي أنَّ القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق ، وعلم ما سيأتي ، وحكم كل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ، ومعاشهم ومعادهم، وغير ذلك، ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ﴾ وليكون هداية من الضلال، ورحمة لمن صدَّق وعمل به، وبشارة طيبة للمؤمنين بحسن مصيرهم.

﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

قوله عز وجل : ﴿إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ) بالإنصاف، (وَٱلْإِحْسَٰنِ) "الإحسان ": الإخلاص في التوحيد، وذلك معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه (وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ ) صلة الرحم . (وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ).المقصود بالفحشاء: كل فحش من القول أو الفعل، وهو كل ذنب استفحشته الشرائع والفِطَر.ومن الفحشاء الزنا، وهو من أفحش الفواحش (وَٱلْمُنكَرِ): كل مستقبح غير معروف ولا مرضي، (وَٱلْبَغْىِ) الظلم والعدوان على الناس، (يَعِظُكُمْ) أي: بما بينَّه لكم في كتابه بأمركم بما فيه غاية صلاحكم ونهيكم عمَّا فيه مضرتُكم.. (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ أي تذكرون ما يعظكم به فتفهمونه وتعقلونه، فإنكم إذا تذكرتموه وعقلتموه عملتم بمقتضاه فسعدتم سعادة لا شقاوة معها.

﴿وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَٰهَدتُّمْ وَلَا تَنقُضُواْ ٱلْأَيْمَٰنَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ ٱللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91)

قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم): لفظ عام لجميع العهود بالالتزام بالعدل والإحسان . (ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها) أى: لا تحنثوا في الأيمان بعد توثيقها، (وقد جعلتم الله عليكم كفيلا) أي: شاهدا ورقيبا، وقوله: (إن الله يعلم ما تفعلون) تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.

﴿ وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنۢ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَٰثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلًۢا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِىَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ ٱللَّهُ بِهِۦ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)

ثم ضرب الله مثلا لنقض العهد فقال: (ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة) هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده.

(أنكاثا) يعني أنقاضا واحدتها " نكث " وهو ما نقض بعد الفتل ، غزلا كان أو حبلا. (تتخذون أيمانكم دخلا بينكم) " الدخل " ما يدخل في الشيء للفساد .(أن تكون أمة هي أربى) أي : أكثر وأعز، (من أمة) وذلك أنهم كانوا يحالفون الحلفاء فإذا وجدوا قوما أكثر منهم وأعز نقضوا حلف هؤلاء وحالفوا الأكثر، فنهاهم الله عن ذلك .(إنما يبلوكم الله به) يختبركم الله بأمره إياكم بالوفاء بالعهد، (وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون) فيجازي كل عامل بعمله ، من خير وشر .

﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُون﴾ (93)

قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ ﴾ أي: ولو شاء الله لوفَّقكم كلكم، فجعلكم على ملة واحدة، وهي الإسلام والإيمان، وألزمكم به، ولكنه سبحانه يُضلُّ مَن يشاء ممن علم منه إيثار الضلال، فلا يهديه عدلا منه، ويهدي مَن يشاء مِمَّن علم منه إيثار الحق، فيوفقه فضلا منه، قوله:{وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}أي: من خير وشر فيجازيكم عليها أتم الجزاء وأعدله.

﴿ وَلَا تَتَّخِذُوٓاْ أَيْمَٰنَكُمْ دَخَلًۢا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌۢ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ ٱلسُّوٓءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(94)

حذَّرَ الله - تعالى - عباده عن اتخاذ الأيمان خديعة ومكرا ، لئلا تزل قدم بعد ثبوتها؛ فتهلكوا بعدما كنتم آمنين والعرب تقول لكل مبتلى بعد عافية ، أو ساقط في ورطة بعد سلامة : زلت قدمه ، وهذا مثلٌ لمن كان على الاستقامة وحادَ عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة ، المشتملة على الصد عن سبيل الله؛ لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به ، لم يبقَ له وثوقٌ بالدين ، فانصد بسببه عن الدخول فى الإِسلام.

وقوله: (وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) لا يعلم مقدار شدته وهوله إلا الله - عزَّ وجلَّ -

﴿وَلَا تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ إِنَّمَا عِندَ ٱللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (95)

قوله: (ولا تشتروا بعهد الله ثمنا قليلا) يعني لا تنقضوا عهودكم ، تطلبون بنقضها عرضا قليلا من الدنيا ، ولكن أوفوا بها . (إنما عند الله هو) من الثواب لكم على الوفاء،(خير لكم إن كنتم تعلمون ) أى : إن كنتم من أهل العلم والتمييز.

﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (96)

قوله:(ما عندكم ينفد) أي: يفرغ وينقضي، فإنه - إلى أجل - معدود محصور مقدر متناه. (وما عند الله باق) أي: وثوابه لكم في الجنة باق لا انقطاع ولا نفاد له فإنه دائم لا يحول ولا يزول ، ( ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون ) قسم من الرب - عز وجل أنه يجازي الصابرين على الطاعات وعن المعاصي بأفضل أعمالهم؛ تفضلا منه وكرما.

﴿ مَنْ عَمِلَ صَٰلِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُۥ حَيَوٰةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ(97)

هذا وعد من الله تعالى لمن عمل عملا صالحا تابعا لكتاب الله تعالى وسنة نبيه من ذكر أو أنثى ، وقلبه مؤمن بالله ورسوله، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة . والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من الرزق الحلال الطيب، والقناعة. والسعادة . جاء في الحديث عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا ، وقنعه الله بما آتاه " . رواه مسلم وروي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطى بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيعطيه حسناته في الدنيا حتى إذا أفضى إلى الآخرة ، لم تكن له حسنة يعطى بها خيرا " .أخرجه مسلم .

﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ (98)

هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - : إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم المطرود من رحمة الله. وهو أمر ندب ليس بواجب، حكى الإجماع على ذلك ابن جرير وغيره من الأئمة، والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة لئلا يلبس على القارئ قراءته ويخلط عليه، ويمنعه من التدبر والتفكر، ولهذا ذهب الجمهور إلى أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة .

﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99)

قوله ﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعني: أن الشيطان ليست له حجة على الذين آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا بما أمر الله به وانتهوا عما نهاهم الله عنه ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ فيما نابهم من مهمات أمورهم.

﴿ إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُۥ وَٱلَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشْرِكُونَ﴾ (100)

  • قوله: ﴿إِنَّمَا سُلْطَٰنُهُۥ عَلَى ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ﴾ يطيعونه ويدخلون في ولايته ، ﴿وَٱلَّذِينَ هُم بِهِۦ مُشْرِكُونَ أي : بالله مشركون.

  • ﴿وَإِذَا بَدَّلْنَآ ءَايَةً مَّكَانَ ءَايَةٍۢ ۙ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوٓاْ إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ(101)

    التبديل رفع الشئ مع وضع غيره مكانه، فتبديل الآية رفعُها بآية أخرى. وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية هنا : الآية القرآنية . وعلى أن المراد بتبديلها نسخها، فإذا نزلنا آية من القرآن مكان آية منه وجعلناها بدلا منها بأن نسخناها بها؛ لحكمة أرادها الله، قال الكفار: إنما أنت - يا محمد- كاذب مختَلِق على الله ما لم يَقُلْه. ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس كما يزعمون. بل أكثرهم لا عِلْم لهم بربهم ولا بشرعه وأحكامه.

  • ﴿قُلْ نَزَّلَهُۥ رُوحُ ٱلْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِٱلْحَقِّ لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلِمُسْلِمِينَ﴾ (102)

    قل لهم - أيها الرسول- : ليس القرآن مختلَقًا مِن عندي، بل نَزَّله جبريل مِن ربك بالصدق والعدل؛ تثبيتًا للمؤمنين، وهداية من الضلال، وبشارة طيبة لمن أسلموا وخضعوا لله رب العالمين.

  • ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (103)

    قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾: ولقد نعلم أن هؤلاء المشركين يقولون جهلا منهم: إنما يعلم محمدا هذا الذي يتلوه بشر من بني آدم، وما هو من عند الله ، يقول الله تعالى ذكره مكذّبهم في قولهم ذلك: ألا تعلمون كذب ما تقولون ،( لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ) إن لسان الذي تميلون إليه بأنه يعلم محمدا أعجميّ ، وذلك أنهم فيما ذُكر كانوا يزعمون أن الذي يعلِّم محمدا رجلٌ أعجمي - كان بين أظهرهم - وهو غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعا عند الصفا ،وهو أعجمي اللسان يعرف الشيء اليسير من العربية بقدر ما يرد جواب الخطاب فيما لا بد منه؛ فلهذا قال الله تعالى رادا عليهم في افترائهم ذلك : (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) يعني : القرآن أي : فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة - التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على نبي أرسل - كيف يتعلم من رجل أعجمي ؟! لا يقول هذا من له أدنى مسكة من العقل

    ﴿إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104)

  • يخبر تعالى أنه لا يوفق من أعرض عن ذكره، وتغافل عما أنزله على رسوله، فهذا الجنس من الناس لا يوفقهم الله لإصابة الحق، ولهم في الآخرة عذاب مؤلم موجع.

  • ﴿إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)

  • هذا ردّ لقولهم : (إنما أنت مفتر) النحل : 101 بقلب ما زَعموه عليهم ، كما كان قوله تعالى : (لسان الذي يلحدون إليه أعجمي ) سورة النحل : 103 جواباً عن قولهم : (إنما يعلمه بشر) النحل: 103 . فبعد أن نزّه القرآن عن أن يكون مفترَى والمنزّل عليه عن أن يكون مفترياً ثني العنان لبيان من هو المفتري . وهذا من طريقة القلب في الحال.
  • والمعنى: إنما يختلق الكذبَ مَن لا يؤمن بالله وآياته، (وأولئك هم الكاذبون) في قولهم ذلك. أما محمد صلى الله عليه وسلم المؤمن بربه الخاضع له فمحال أن يكذب على الله، ويقول عليه ما لم يقله.
  • ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106)

نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر ، قال ابن عباس : أخذه المشركون وأخذوا أباه وأمه سمية وصهيبا وبلالا وخبابا وسالما فعذبوهم ، وربطت سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحربة ، وقيل لها إنك أسلمت من أجل الرجال ; فقتلت وقتل زوجها ياسر ، وهما أول قتيلين في الإسلام . وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها

والمعنى: من كفر بالله - تعالى - من بعد إيمانه بوحدانيته - سبحانه - وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه بسبب هذا الكفر يكون قد ضل ضلالا بعيدا ، يستحق من أجله العذاب المهين .

وقوله :( إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان ) أى : إلا من أكره على النطق بكلمة الكفر ، والحال أن قلبه مطمئن بالإِيمان ، ثابت عليه ، متمكن منه، فإنه فى هذه الحالة لا يكون ممن يستحقون عقوبة المرتد .

وقوله: (ولكن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) بيان لسوء مصير من استحب الكفر على الإِيمان باختياره ورضاه ،وهو الغضب من الله عليهم ، والعذاب الأليم في الدار الآخرة .

﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107)

بيان للأسباب التى جعلتهم محل غضب الله ونقمته، واسم الإِشارة (ذلك) يعود إلى كفرهم بعد إيمانهم ، والمعنى: أن الله غضب عليهم بسبب إيثارهم الدنيا وزينتها، وتفضيلهم إياها على الآخرة وثوابها، (وأن الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين) أي: أن الله تعالى لا يوفقهم إلى الصراط المستقيم ؛لأنهم حين زاغوا عن الحق أزاغ الله قلوبهم.

﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)

يقول تعالى ذكره: هؤلاء المشركون الذين كفروا بعد إيمانهم ، هم القوم الذين طبع الله على قلوبهم، فختم عليها، فلا يؤمنون ولا يهتدون، وأصمّ أسماعهم فلا يسمعون داعيَ الله إلى الهُدى ، وأعمى أبصارهم، فلا يرون البراهين الدالة على ألوهية الله، (وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) أي: الساهون، عمَّا أعدّ الله لهم من العذاب.

﴿لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)

حقًا ولا بدَّ إنهم في الآخرة هم الْهَالِكُونَ؛ لغَبَنُهم أَنْفُسهمْ حُظُوظهَا مِنْ كَرَامَة اللَّه .

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(110)

نـزلت هذه الآية في عمَّاربن ياسر وعياش بن أبي ربيعة ، والوليد بن الوليد . ذكره ابن إسحاق.

قوله: (ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا) عذبوا ومنعوا من الإسلام ، فتنهم المشركون، وسمّى ما لقوه من المشركين فتنة . والفتنة : العذاب والأذى الشديد المتكرّر، (ثم جاهدوا وصبروا) على الإيمان والهجرة والجهاد ، والمجاهدة: المقاومة بالجُهد، أي الطاقة. والمراد بالمجاهدة هنا دفاعهم المشركين عن أن يردّوهم إلى الكفر . وهاتان الآيتان مكّيتان نازلتان قبل شرع الجهاد الذي هو بمعنى قتال الكفار لنصر الدين. والصبر: الثبات على تحمّل المكروه والمشاق (إن ربك من بعدها) من بعد تلك الفتنة (لغفور رحيم) لغفور لهم ورحيم بهم يوم معادهم.

﴿ يَوْمَ تَأْتِى كُلُّ نَفْسٍۢ تُجَٰدِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍۢ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)

  • قوله تعالى:(يوم تأتي كل نفس تجادل) أي: تحاج (عن نفسها) أي: ذاتها، كلٌّ يقول نفسي نفسي لا يهمه سوى نفسه، ففي ذلك اليوم يفتقر العبد إلى حصول مثقال ذرة من الخير (وتوفى كل نفس ما عملت) أي: من خير وشر، (وهم لا يظلمون ) أي: لا ينقص من ثواب الخير ولا يزاد على عقاب الشر ولا يظلمون نقيرا.

  • ﴿وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112)

    قوله تعالى (وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة) يعني : مكة ، كانت آمنة ،لا يُغار عليها ، ( مطمئنة ) قارة بأهلها ، لا يحتاجون إلى الانتقال للانتجاع كما يحتاج إليه سائر العرب، ( يأتيها رزقها رغدا من كل مكان ) يحمل إليها هنيئا سهلا (فكفرت بأنعم الله ) أي جحدت آلاء الله ( فأذاقها الله لباس الجوع ) ابتلاهم الله بالجوع ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا على مشركي قريش وقال: "اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ علَى مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ" صحيح البخاري . فابتلوا بالقحط حتى أكلوا العظام ، ووجه إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعاما فَفُرِقَ فيهم، وذكر اللباس لأن ما أصابهم من الهزال والشحوب وتغير ظاهرهم عما كانوا عليه من قبلُ كاللباس لهم (والخوف) يعني : بعوث النبي صلى الله عليه وسلم وسراياه التي كانت تطيف بهم. (بما كانوا يصنعون) بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم

﴿وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ ٱلْعَذَابُ وَهُمْ ظَٰلِمُونَ﴾ (113)

ولقد جاء إلى أهل هذه القرية رسول من جنسهم، وهومحمد صلى الله عليه وسلم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأمرهم بطاعة الله وشكره، ولكنهم كذبوه وأعرضوا عنه. (فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ ) بيان للعاقبة السيئة التى حاقت بهم فكانت نتيجة تكذيبهم السريع لنبيهم أن أخذهم العذاب من الشدائد والجوع والخوف، وقَتْل عظمائهم في « بدر» وهم ظالمون لأنفسهم بالشرك بالله، والصدِّ عن سبيله.

﴿فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَٰلًا طَيِّبًا وَٱشْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ (114)

يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب، وبشكره على ذلك بالاعتراف بها وصَرْفها في طاعة الله، ﴿إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ﴾ منقادين لأمره سامعين مطيعين له .

﴿إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (115)

ثم ذكر ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من( الْمَيْتَةَ )من الحيوان، (والدَّمَ) المسفوح وهو ماجرى منه بعد ذبحه ، (ولحْمَ الخنزيرِ)، شامل للحمه ودمه وشحمه وجلده . وإنما خص لحمه بالذكر لأنه المقصود بالأكل ، ولأن سائر أجزائه تابعة للحمه. ( وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ) وهو وما ذبح على غير اسم الله، (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ)لكن مَن ألجأته ضرورة الخوف من الموت إلى أَكْلِ شيء مِن هذه المحرمات وهو غير ظالم، ولا متجاوزٍ حدَّ الضرورة, (فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) واسع المغفرة لعباده (رَحِيمٌ) كثير الرحمة بهم.

﴿وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ﴾ (116)

ولا تقولوا - في شأن الذي تصفه ألسنتكم من البهائم بالحل والحرمة - هذا حلال وهذا حرام ، من غير ترتُّب ذلك الوصف على ملاحظة وفكرٍ ، فضلاً عن استناده إلى وحي أو قياس مبني عليه ، بل مجرد قول باللسان. فلا تحرموا وتحللوا من تلقاء أنفسكم، كذبا وافتراء على الله وتقَوُّلًا عليه. (إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) أي يختلقونه (لَا يُفْلِحُونَ) لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولا بد أن يظهر الله خزيهم وإن تمتعوا في الدنيا فإنه مَتَاعٌ قَلِيلٌ ومصيرهم إلى النار.

﴿مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ (117)

متاعهم في الدنيا متاع زائل ضئيل، ولهم في الآخرة عذاب شديدٌ موجع.

﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (118)

لمَّا ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير، وما أهل لغير الله به، وأنه رخَّصَ فيه عند الضرورة ، وفي ذلك توسعة على الأمة - ذكر سبحانه ما كان حرَّمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها، وذلك ما جاء في سورة الأنعام(146) قال تعالى"وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ۖ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ۚ ذَٰلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ ۖ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فقال: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ ﴾ قوله: ﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ وما ظلمناهم بتحريم ذلك عليهم, ولكن كانوا ظالمين لأنفسهم بالكفر والبغي، فاستحقوا التحريم عقوبةً لهم.

﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

ثم أخبر تعالى تكرما وامتنانا في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال "ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ " بسفه، ﴿ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا﴾ أي أقلعوا عمَّا كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعاتِ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا﴾ أي: بعد تلك الفعلة والزلة ﴿لغفور﴾ لهم ﴿رحيم﴾ بهم .

﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ (122)

يمدح تعالى عبدَه ورسولَه، وخليلَه إبراهيمَ، قائلًا سبحانه: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا﴾ (120) ، فأما الأمة: فهو الإمام الذي يقتدى به في فعل الخير، والقانت: هو الخاشع لله المطيع له ، والحنيف: الذي لا يميل عن دين الإسلام ؛ ولهذا قال :﴿وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ موحِّدًا لله غير مشرك به.

قوله :﴿شَاكِرًا لأَنْعُمِهِ﴾أي قائما بشكر نعم الله عليه.

قوله :﴿اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ اختاره الله لرسالته، ووفقه إلى الطريق المستقيم، وهو الإسلام.

قوله :﴿وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ﴾ أي: وأكرمْنَا إبراهيمَ على قنوته لله، وشكره له على نعمه، وإخلاصه العبادة له في هذه الدنيا ذكرًا حسنًا ، وثناءً جميلًا باقيًا على الأيام ﴿ وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ وإنه في الدار الآخرة يوم القيامة لممن صلح أمره وشأنه عند الله ، وحَسُنت منـزلته وكرامته.

﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ (123)

أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه، أنا أوحينا إليك يا محمد أن اتبع ملة إبراهيم، واتباعه عليه السلام في عقائد الشرع دون الفروع؛ لقوله - تعالى - :﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ ﴾.(المائدة 48)

قوله :﴿حَنِيفًا﴾ : مسلما ، و﴿حنيفًا﴾ حال من إبراهيم .

وقوله - سبحانه -: ﴿ وَمَا كَانَ مِنَ المشركين تنزيه لإِبراهيم - عليه السلام - عن أي لون من ألوان الإِشراك بالله - تعالى - .

﴿إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (124)

إنما جعل الله تعظيم يوم السبت بالتفرغ للعبادة فيه على اليهود الذين خالفوا فيه نبيهم, واختاروه بدل يوم الجمعة الذي أُمِروا بتعظيمه.

وقد ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال:"نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيَامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِنَا، ثُمَّ هذا يَوْمُهُمُ الذي فُرِضَ عليهم، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فيه تَبَعٌ اليَهُودُ غَدًا، والنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ."، وفي صحيح مسلم " أضَلَّ اللَّهُ عَنِ الجُمُعَةِ مَن كانَ قَبْلَنا، فَكانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وكانَ لِلنَّصارَى يَوْمُ الأحَدِ، فَجاءَ اللَّهُ بنا فَهَدانا اللَّهُ لِيَومِ الجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الجُمُعَةَ، والسَّبْتَ، والأحَدَ، وكَذلكَ هُمْ تَبَعٌ لنا يَومَ القِيامَةِ، نَحْنُ الآخِرُونَ مِن أهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلُونَ يَومَ القِيامَةِ، المَقْضِيُّ لهمْ قَبْلَ الخَلائِقِ. "وفي مسند الإمام أحمد تخريج شعيب الأرناؤوط:"إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ كتَبَ الجُمُعةَ على مَن كان قَبلَنا، فاختلَفَ النَّاسُ فيها، وهدانا اللهُ لها، فالنَّاسُ لنا فيها تَبَعٌ، فاليَومُ لنا، ولليَهودِ غَدًا، وللنَّصارى بَعدَ غَدٍ، لليَهودِ يَومُ السَّبتِ، وللنَّصارى يَومُ الأحَدِ. "

قوله :﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾أي: إن ربك يا محمد ليحكم بين هؤلاء المختلفين بينهم في استحلال السبت وتحريمه عند مصيرهم إليه يوم القيامة، فيقضي بينهم في ذلك وفي غيره مما كانوا فيه يختلفون في الدنيا بالحق، ويفصل بالعدل بمجازاة المصيب فيه جزاءه والمخطئ فيه منهم ما هو أهله.

﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ (125)

يقول تعالى آمرا رسوله محمدا - صلى الله عليه وسلم - أن يدعو الخلق إلى الله ﴿بالحكمة﴾أي: بوحيِّ الله الذي يوحيه إليك، وكتابه الذي ينـزله عليك. ﴿والموعظة الحسنة﴾ أي: القول اللين الرقيق من غير غلظة ولا تعنيف. وقوله : ﴿وجادلهم بالتي هي أحسن أي : من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب ، كما قال : ﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم [ العنكبوت : 46 ] فأمره تعالى بلين الجانب ، كما أمر موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون فقال : ﴿فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى [ طه : 44 ] . وقوله: ﴿ إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين أي : إن ربك يا محمد هو أعلم بمن جار عن قصد السبيل من المختلفين في السبت وغيره من خلقه، وحادّ اللهَ، وهو أعلم بمن كان منهم سالكا قصدَ السبيل ومَحَجة الحقّ، وهو مُجازٍ جميعَهم جزاءَهم عند ورودهم عليه.

﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِۦ ۖ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّٰبِرِينَ﴾ (126)

يأمر تعالى بالعدل في الاقتصاص والمماثلة في استيفاء الحق، ﴿وَلَئِن صَبَرْتُمْ﴾ عن عقوبته ، واحتسبتم عند الله ما نالكم به من الظلم، ووكلتم أمرالمعتدي إلى الله، حتى يكون هو المتولي عقوبته ﴿لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ من استيفاء العقاب، وما عند الله خير لكم وأحسن عاقبة كما قال تعالى: ﴿ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (الشوري40) قوله :

وقوله: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127)

قوله: ﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلا بِاللَّهِ﴾ تأكيد للأمر بالصبر، وإخبار بأن ذلك إنما ينال بمشيئة الله ، وإعانته وحوله وقوته، ﴿وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ ﴾ أي لا تغتم على من خالفك، فإن الله قدَّرَ ذلكَ، ﴿وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ﴾ أي:شدة وحرج ﴿مِمَّا يَمْكُرُونَ﴾ أي:مما يجهدون في عداوتك ، وإيصال الشر إليك، فإن الله كافيك وناصرك.

﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

أي: معهم بتأييده ونصره ومعونته ،كقوله لموسى وهارون: (لا تخافا إنني معكما أسمع وأرى) [ طه : 46 ] ومعنى : ( الذين اتقوا ) أي : تركوا المحرمات ، ( والذين هم محسنون ) أي : فعلوا الطاعات ، فهؤلاء يحفظهم الله، ويكلؤهم ، وينصرهم ويؤيدهم ، ويظفرهم على أعدائهم ومخالفيهم .

تم الانتهاء من تفسير سورة النحل بفضل الله وتوفيقه .

15 ربيع الأول ١٤٤٤ هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

6 + 2 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 132 الجزء الثالث : شروط قبول الدعاء - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 131 الجزء الثالث ‌‌وجوب النهي عن المنكر على الجميع - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر