تفسير سورة الرعد

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 20 صفر 1445هـ | عدد الزيارات: 598 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة الرعد، من السور المكية، وهي ثلاث وأربعون آية.
بسم الله الرحمن الرحيم
{المر ۚ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ۗ وَالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)}.

قوله (المر) تقدم الحديث عن الحروف المقطعة في بداية السور (تلك آيات الكتاب ) يعني: تلك الأخبار التي قصصتها عليك آيات التوراة والإنجيل والكتب المتقدمة ( والذي أنزل إليك ) يعني : وهذا القرآن الذي أنزل إليك (من ربك الحق) أي: هو الحق فاعتصم به.
(وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ) أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق.
{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۖ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)}
قوله:{اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ۖ } يعني : ليس من دونها دعامة تدعمها .
(ثم استوى على العرش) استواء يليق بجلاله وعظمته ( وسخر الشمس والقمر ) ذللهما لمنافع خلقه (كل يجري) أي : يجريان على ما يريد الله عز وجل (لأجل مسمى) أي : إلى وقت معلوم وهو فناء الدنيا. (يدبر الأمر) يقضيه وحده ( يفصل الآيات ) يبين الدلالات ( لعلكم بلقاء ربكم توقنون ) لكي توقنوا بوعده وتصدقوه .
{وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا ۖ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ۖ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)}
قوله:{ وهو الذي مد الأرض } بسطها { وجعل فيها رواسي } جبالا ثابتة ، واحدتها راسية ، (وأنهارا) أي: وأجرى فيها الأنهار . (ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين) أي : صنفين اثنين منها الأبيض والأسود والحلو والحامض ( يغشي الليل النهار ) أي :جعل الليل يغطي النهار بظلمته (إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) يقول تعالى ذكره: إن فيما وصفت وذكرتُ من عجائب خلقي وعظيم قدرتي التي خلقتُ بها هذه الأشياء، لَدلالات وحججًا وعظات, لقوم يتفكرون فيها.
{وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)}
قوله:{وفي الأرض قطع متجاورات } متقاربات يقرب بعضها من بعض ، وهي مختلفة : هذه طيبة تنبت ، وهذه سبخة لا تنبت ، وهذه قليلة الريع ، وهذه كثيرة الريع (وجنات) بساتين ( من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان ) الصنو في اللغة :النظير والمثيل والفسيلة المتفرعة مَعَ غَيرهَا من أصل شَجَرَة وَاحِدَة، وَالْأَخ الشَّقِيق يُقَال هُوَ صنو أَخِيه، ومعنى صنوان هنا ؛ النخيل الخارج من أصل واحد، نخلتان أو أكثر في أصل واحد، وفيها هنا معنى للاجتماع، وغير صنوان أي النخيل المتفرق والخارج من عدة أصول ومنابت، وكل نخلة منبتها على حدة، وفيها معنى التفرق.

( يسقى بماء واحد ) أي يسقى ذلك كله بماء واحد.
( ونفضل بعضها على بعض في الأكل ) في الثمر والطعم .
(إن في ذلك) الذي ذكرت (لآيات لقوم يعقلون) لعلامات لمن كان له قلب يعقل عن الله تعالى أمره ونهيه.
{وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ۗ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(5)}
قوله:{وإن تعجب } العجب تغير النفس برؤية المستبعد في العادة ، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومعناه : وإن تعجب من تكذيب المشركين واتخاذهم ما لا يضر ولا ينفع آلهةً يعبدونها وهم قد رأوا من قدرة الله تعالى ما ضرب لهم به الأمثال {فعجب قولهم}، أي : فتعجب أيضا من قولهم : {أئذا كنا ترابا } بعد الموت { أئنا لفي خلق جديد } أي : نعاد خلقا جديدا كما كنا قبل الموت .{أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال في أعناقهم } أولئك تكون السلاسل من النار في أعناقهم، يوم القيامة { وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون } وأولئك يدخلون النار ولا يخرجون منها أبدا.
{وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ ۗ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)}
قوله تعالى:(ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة) الاستعجال : طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته ، والسيئة ها هنا هي : العقوبة ، والحسنة : العافية . وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلا من العافية استهزاء منهم يقولون : " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " ( الأنفال- 32 ) .
(وقد خلت من قبلهم المثلات) أي : مضت من قبلهم في الأمم التي عصت ربها وكذبت رسلها العقوبات . والمثلات جمع المثلة بفتح الميم وضم الثاء ، مثل : صدقة وصدقات
(وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} أي:إنه ذو عفو وصفح، وستر للناس مع أنهم يظلمون، ثم قرن هذا الحكم بقوله: { وإن ربك لشديد العقاب} على من أصر على الكفر.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ ۖ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)}
قوله:( وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ ) أي : على محمد صلى الله عليه وسلم ( آية من ربه) أي :معجزة خارقة للعادة تأتي تصديقة على نبوته، كعصا موسى، وناقة صالح (إنما أنت منذر ) ما أنت إلا مبلغ ومخوف من بأس الله ( ولكل قوم هاد ) أي : لكل قوم نبي يدعوهم إلى الله تعالى .
{اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَىٰ وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ۖ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8)}
قوله تعالى : ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى ) من ذكر أو أنثى ، سوي الخلق أو ناقص الخلق ، واحدا أو اثنين أو أكثر ( وما تغيض الأرحام ) غيضها نقصانها من تسعة أشهر (وما تزداد) الزيادة: زيادتُها على تسعة أشهر ( وكل شيء عنده بمقدار ) أي : بتقدير وحدٍّ لا يجاوزه ولا يقصر عنه .
{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)}
أي:هو عالم بما غاب عن الخلق، وبما شهدوه . فنبه سبحانه على انفراده بعلم الغيب ،. و " الكبير " الذي كل شيء دونه . " المتعال " على كل شيء .
{سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10)}
قوله تعالى : (سَوَاءٌ مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ ) أي : يستوي في علم الله المسر بالقول والجاهر به (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) أي : مستتر بظلمة الليل (وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ) أي: ذاهب في سربه ظاهر. والسرب - بفتح السين وسكون الراء - : الطريق، فإن كليهما في علم الله على السواء.
{لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۗ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ ۚ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11)}
قوله ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ) أي : لله تعالى ملائكة يتعاقبون فيكم بالليل والنهار ، فإذا صعدت ملائكة الليل جاء في عقبها ملائكة النهار ، وإذا صعدت ملائكة النهار جاء في عقبها ملائكة الليل . والتعقيب : العود بعد البدء ، وإنما ذكر بلفظ التأنيث لأن واحدها معقب ، وجمعه معقبة ، ثم جمع الجمع معقبات ، كما قيل : أبناوات سعد ورجالات بكر . عن أبي هريرة رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ باللَّيْلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهَارِ، ويَجْتَمِعُونَ في صَلَاةِ الفَجْرِ وصَلَاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ، فَيَسْأَلُهُمْ وهو أعْلَمُ بهِمْ: كيفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي؟ فيَقولونَ: تَرَكْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ، وأَتَيْنَاهُمْ وهُمْ يُصَلُّونَ." . (صحيح البخاري)
قوله تعالى : ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ) يعني : من قدام هذا المستخفي بالليل والسارب بالنهار ، (وَمِنْ خَلْفِهِ ) : من وراء ظهره ( يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ۗ ) يعني : بأمر الله ، ( إن الله لا يغير ما بقوم ) من العافية والنعمة ( حتى يغيروا ما بأنفسهم ) من الحال الجميلة فيعصوا ربهم .
( وإذا أراد الله بقوم سوءا ) أي : عذابا وهلاكا ( فلا مرد له ) أي : لا راد له ( وما لهم من دونه من وال ) أي : ملجإ يلجئون إليه .
{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)}
قوله عز وجل : ( هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا ) خوفا من الصاعقة ، طمعا في نفع المطر.
( وينشئ السحاب الثقال ) بالمطر . يقال : أنشأ الله السحابة فنشأت أي : أبداها فبدت ، والسحاب جمع ، واحدتها سحابة.
{وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)}
قوله:{ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ } تسبيحا يدل على خضوعه لربه { والملائكة من خيفته } أي : وتنزه الملائكة ربَّها خوفا منه عز وجل .
قوله تعالى : ( ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء) الصواعق: جمع صاعقة ، وهي: العذاب المهلك ، ينزل من البرق فيحرق به من يشاء من خلقه.
(وهم يجادلون في الله ) يخاصمون في وحدانية الله، وقدرته على البعث .
( وهو شديد المحال ) شديد الأخذ بمن عصاه.

{لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ۚ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)}
قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ۖ } أي : التوحيد.
( والذين يدعون من دونه ) أي : يعبدون الأصنام من دون الله تعالى . ( لا يستجيبون لهم بشيء ) أي : لا يجيبونهم بشيء يريدونه من نفع أو دفع ضر ( إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه ) أي : إلا كباسط كفيه ليقبض على الماء والقابض على الماء لا يكون في يده شيء ، ولا يبلغ إلى فيه منه شيء ، كذلك الذي يدعو الأصنام ، وهي لا تضر ولا تنفع ، لا يكون بيده شيء .
( وما دعاء الكافرين إلا في ضلال ) وما سؤال الكافرين لأصنامهم إلا غاية في البعد عن الصواب ؛ لإشراكهم بالله غيره.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ۩ (15)}
قوله عز وجل : (ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا) يعني: الملائكة والمؤمنين (وكرها) يعني : المنافقين والكافرين .
(وظلالهم) يعني : ظلال الساجدين طوعا وكرها تسجد لله عز وجل طوعا .
(بالغدو) وهي البكرات ، {والآصال} جمع " الأصيل " ، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس .
{قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ ۚ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ۚ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ ۗ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)}
قوله تعالى : (قل من رب السماوات والأرض) أي : خالقهما ومدبرهما فسيقولون الله لأنهم يقرون بأن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض ، فإذا أجابوك فقل أنت أيضا يا محمد : " الله " .
ثم قال الله لهم إلزاما للحجة : ( قل أفاتخذتم من دونه أولياء ) معناه : إنكم مع إقراركم بأن الله خالق السماوات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموها من دون الله ، يعني : الأصنام، وهم ( لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ) فكيف يملكون لكم ؟
ثم ضرب لهم مثلا فقال: (قل هل يستوي الأعمى والبصير ) كذلك لا يستوي الكافر والمؤمن (أم هل تستوي الظلمات والنور) أي : كما لا تستوي الظلمات والنور لا يستوي الكفر والإيمان .
(أَمْ جَعَلُوا لِلَّه شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم) (أم) هنا بمعنى (بل) ، والاستفهام للإِنكار والمعنى أنهم لم يخلقوا شيئا، والآية تعيب عليهم هذا الجهل الكبير لتسويتهم آلهتم بالله سبحانه الخالق لكل شيء
(قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار) قل لهم أيها الرسول: الله خالق كل كائن من العدم، (وهو الواحد)أي: الفرد الذي لا ثاني له (القهار) ، القاهر لكل ما سواه .
{أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)}
قوله: ( أنزل ) يعني : الله عز وجل ( من السماء ماء ) يعني : المطر ( فسالت ) من ذلك الماء ( أودية بقدرها ) أي : في الصغر والكبر ( فاحتمل السيل ) الذي حدث من ذلك الماء ( زبدا رابيا ) الزبد : الخبث الذي يظهر على وجه الماء ، وكذلك على وجه القدر ، " رابيا " أي عاليا مرتفعا فوق الماء ، فالماء الصافي الباقي هو الحق ، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار وجوانب الأودية هو الباطل . والمثل الآخر : قوله عز وجل: (ومما يوقدون عليه في النار) الإيقاد: جعل النار تحت الشيء ليذوب.(ابتغاء حلية) أي: لطلب زينة، وأراد الذهب والفضة: لأن الحلية تطلب منهما (أو متاع ) أي : طلب متاع وهو ما ينتفع به ، وذلك مثل الحديد، والنحاس ، والرصاص، تذاب فيتخذ منها الأواني وغيرها مما ينتفع بها (زبد مثله) أ أي : إذا أذيب فله أيضا زبد مثل زبد الماء ، (كذلك يضرب الله الحق والباطل)فالباقي الصافي من هذه الجواهر مثل الحق ، والزبد الذي لا ينتفع به مثل الباطل.
( فأما الزبد ) الذي علا السيل (فيذهب جفاء) أي : ضائعا باطلا ، والجفاء ما رمى به الوادي من الزبد ، فالباطل وإن علا في وقت فإنه يضمحل.
(وأما ما ينفع الناس) يعني: الماء والفلز من الذهب والفضة والصفر والنحاس ( فيمكث في الأرض ) أي : يبقى ولا يذهب .
( كذلك يضرب الله الأمثال ) جعل الله تعالى هذا مثلا للحق والباطل ، أي : أن الباطل كالزبد يذهب ويضيع ، والحق كالماء والمعدن الصافي يبقى في القلوب .
{لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَىٰ ۚ وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)}
قوله تعالى:(لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ) أجابوا لربهم فأطاعوه (الحسنى) الجنة (والذين لم يستجيبوا له لو أن لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به) أي: لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداء من النار (أولئك لهم سوء الحساب) أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيءٌ (ومأواهم جهنم) ومرجعهم في الآخرة (وبئس المهاد) ، أي : قبح ما مهد لهم.
{۞ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ ۚ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19) }
قوله تعالى : ( أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق ) فيؤمن به ويعمل بما فيه ( كمن هو أعمى ) عنه لا يعلمه ولا يعمل به فلا يستوي من يبصر الحق ويتبعه ومن لا يبصره ولا يتبعه .
( إنما يتذكر ) يتعظ ( أولو الألباب ) ذوو العقول السليمة .
{الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20)}
قوله:( الذين يوفون بعهد الله) بما أمرهم الله تعالى به وفرضه عليهم فلا يخالفونه (ولا ينقضون الميثاق) ولا ينكثون العهد المؤكد الذي عاهدوا الله عليه.
{وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21)}
قوله: ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ) أراد به صلة الرحم .
{وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال {وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ}وذلك في الآخرة، بأن يحاسبهم على كل ذنوبهم.
{وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22)}
قوله: (والذين صبروا) على طاعة الله، وأمره. وعلى المصائب والنوائب، وعن الشهوات والمعاصي .
( ابتغاء وجه ربهم ) طلبًا لرضا ربهم. ( وأقاموا الصلاة) أي أقاموها على أتم وجوهها (وَأَنْفَقُواْ) بسخاء وطيب نفس (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ) أى : مما أعطيناهم من عطائنا الواسع العميم .(سِرّاً وَعَلاَنِيَةً) أى : ينفقون مما رزقناهم سرا . حيث يحسن السر ، وينفقون علانية حيث تحسن العلانية ، ( وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة ) والدرء : الدفع والطرد، أي: يدفعون بالصالح من العمل السيئ من العمل ، وهو معنى قوله : (إن الحسنات يذهبن السيئات ) (هود - 114) . وجاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إذا عملْتَ سيئةً فاعْمَلْ بجنبِها حسنةً ، السرُّ بالسرِّ ، و العلانيةُ بالعلانيةِ " . صحيح الجامع للألباني
( أولئك لهم عقبى الدار ) يعني الجنة ، أي : عاقبتهم دار الثواب . ثم بين ذلك فقال : {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ ۖ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23)}
قوله: (جنات عدن) بساتين إقامة ( يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ) ممن هو صالح لدخول الجنة (والملائكة يدخلون عليهم من كل باب) : من أبواب الجنة .
{سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)}
قوله:(سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ ) أي :عند دخولهم الجنة تفد عليهم الملائكة مسلمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام والإقامة في دار السلام نتيجةَ صبرهم على أمر الله ونهيه في الدنيا .
{وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ ۙ أُولَٰئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)}
قوله:( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ ) أي: من بعد ما أكده عليهم على أيدي رسله، وغلظ عليهم، فلم يقابلوه بالانقياد والتسليم، بل قابلوه بالإعراض والنقض، (ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل) صلة الرحم وغيرها . (ويفسدون في الأرض ) بعمل المعاصي (أولئك لهم اللعنة) الابعاد عن رحمة الله(ولهم سوء الدار) يعني: سوء المنقلب لأن منقلب الناس دورهم .
{اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ۚ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)}
قوله عز وجل:( الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي : يوسع على من يشاء ويضيق على من يشاء لما له بذلك من حكمة .
( وفرحوا بالحياة الدنيا ) يعني:وفرح الكفار بالسعة في الحياة الدنيا، وما علموا أن ذلك استدراج لهم، والفرح : لذة في القلب بنيل المشتهى ، ( وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع) أي : قليل ذاهب.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ۗ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
قوله:( ويقول الذين كفروا ) من أهل مكة ( لولا أنزل عليه آية من ربه)هلا أنزل على محمد معجزة محسوسة كمعجزة موسى وعيسى ( قل إن الله يضل من يشاء)من المعاندين عن الهداية ولا تنفعه المعجزات. ( ويهدي إليه من أناب ) أي : يهدي إلى دينه من رجع إليه وطلب رضوانه.
{الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
قوله:(الذين آمنوا) صدقوا بالله ورسوله، (وتطمئن) تسكن (قلوبهم بذكر الله) بالتوحيد ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيها اليقين .
{الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَىٰ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
قوله: (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الذين صدقوا بالله ورسوله، وأتبعوا ذلك بفعل الأعمال الصالحة (طوبى لهم) فرحٌ لهم وقرة عين. . (وحسن مآب) أي : حسن المنقلب إلى جنة الله ورضوانه.
{كَذَٰلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَٰنِ ۚ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)}
قوله عز وجل ( كذلك أرسلناك في أمة ) كما أرسلنا الأنبياء إلى الأمم أرسلناك إلى هذه الأمة (قد خلت) مضت (من قبلها أمم لتتلو) لتقرأ ( عليهم الذي أوحينا إليك وهم يكفرون بالرحمن ) أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به. (قل) لهم يامحمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته (هو ربي لا إله إلا هو) لا معبود بحق سواه، ( عليه توكلت) التوكل على الله هوالاعتماد عليه وحده (وإليه متاب) أي : توبتي ومرجعي .
{وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَىٰ ۗ بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا ۗ أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِّن دَارِهِمْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)}
قوله عز وجل : (ولو أن قرآنا سيرت به الجبال) لو أن ثمة قرآنًا يقرأ فتزول به الجبال عن أماكنها.(أو قطعت به الأرض) أي: شققت فجعلت أنهارا وعيونا (أو كلم به الموتى) أو يحيا به الموتى وتكلم.
وجواب "لو" محذوف للعلم به، تقديره: لكان هذا القرآن.(بل لله الأمر جميعا ) أي : في هذه الأشياء إن شاء فعل وإن شاء لم يفعل .(أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَن لَّوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا ۗ) أفلم يعلم المؤمنون أن الله لويشاء لآمن أهل الأرض كلهم من غير معجزة
(ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا) من كفرهم وأعمالهم الخبيثة ( قارعة ) أي : نازلة وداهية تقرعهم من أنواع البلاء ، أحيانا بالجدب ، وأحيانا بالسلب ، وأحيانا بالقتل والأسر .
(أو تحل قريبا من دارهم ) يعني القارعة (حتى يأتي وعد الله ) الفتح والنصر وظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه . (إن الله لا يخلف الميعاد ) أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم .
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ ۖ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)}
قوله:(ولقد استهزئ برسل من قبلك ) كما استهزءوا بك (فأمليت للذين كفروا ) يعني: أمهلتهم (ثم أخذتهم) عاقبتهم في الدنيا بالقتل وفي الآخرة بالنار(فكيف كان عقاب ) أي: عاقبتهم عقابا شديدا.
{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ ۚ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ۗ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ ۗ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)}
قوله:{أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۗ } أي : حافظها ، ورازقها ، وعالم بها ، ومجازيها بما عملت . وجوابه محذوف ، تقديره : كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه . ( وجعلوا لله شركاء قل سموهم ) بينوا أسماءهم ، وصفوهم ثم انظروا : هل هي أهل لأن تعبد ؟ (أم تنبئونه) أي: تخبرون الله تعالى: (بما لا يعلم في الأرض) فإنه لا يعلم لنفسه شريكا ولا في الأرض إلها غيره (أم بظاهرمن القول)أي: قول باطل زائل لا أصل له .
(بل زين للذين كفروا مكرهم ) كيدهم . ( وصدوا عن السبيل ) أي : صرفوا عن الدين . . ( ومن يضلل الله ) ومن لم يوفقه الله لهدايته ( فما له من هاد ) فليس له أحد يهديه.
{لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ ۖ وَمَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ (34)}
قوله:(لهم عذاب في الحياة الدنيا) بأيدي المؤمنين قتلا وأسرا (ولعذاب الآخرة أشق ) أشد من عذاب الدنيا ( وما لهم من الله من واق ) مانع يمنعهم من العذاب .
مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۖ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا ۚ تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا ۖ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)}
قوله عز وجل : ( مثل الجنة التي وعد المتقون ) أي : صفة الجنة ،( تجري من تحتها الأنهار ).منتشرة في أرجائها وجوانبها .( أكلها دائم ) أي : لا ينقطع ثمرها ونعيمها ( وظلها ) أي : ظلها ظليل ، لا يزول .
( تلك عقبى الذين اتقوا ) أي: تلك الجنة عاقبة الذين اتقوا (وعقبى الكافرين النار ) أي: وعاقبة الكافرين بالله النار.
{وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ۖ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ۚ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ ۚ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36)}
قوله عز وجل:(والذين آتيناهم الكتاب) من مؤمني اليهود والنصارى، ( يفرحون بما أنزل إليك) ، من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به.
(ومن الأحزاب من ينكر بعضه) ومن طوائف الكفر والضلال من ينكر بعض ما أنزل إليك لأنه يخالف أهواءهم وأطماعهم وشهواتهم.
(قل إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به إليه أدعو وإليه مآب) قل - أيها الرسول الكريم - لكل من خالفك فيما تدعو إليه (إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ) وحده (ولا أُشْرِكَ بِهِ) بوجه من الوجوه إليه وحده " أدعو " الناس لكي يخلصوا له العبادة والطاعة (وَإِلَيْهِ مَآبِ) أي: وإليه وحده إيابي ومرجعي لا إلى أحد غيره .
{وَكَذَٰلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا ۚ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)}
قوله: (وكذلك أنزلناه حكما عربيا)أي: كما أنزلتُ الكتب على الرسل بلغاتهم ، فكذلك أنزلنا عليك القرآن حاكما بين الناس بلسان عربي مبين .
(ولئن اتبعت أهواءهم بعدما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا واق) ولئن اتبعت أهواء المشركين في عبادة غير الله، بعد الحق الذي جاءك من الله ليس لك ناصر ينصرك ويمنعك من عذابه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ۚ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38)}
قوله تعالى: (ولقد أرسلنا رسلا من قبلك) ولقد بعثنا قبلك رسلا من البشر( وجعلنا لهم أزواجا وذرية) يأتون الزوجات ويولد لهم الأبناء والأحفاد.
( وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله ) أي لم يكن يأت قومه بخارقٍ إلا إذا أذن له فيه. ثم قال:( لكل أجل كتاب) لكل أمر قضاه الله كتاب قد كتبه فيه ووقت يقع فيه .
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)}
قوله:{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ ۖ } من الأحكام وغيرها {وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} وهو اللوح المحفوظ الذي أثبت فيه جميع أحوال الخلق.
{وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40)}
قوله: ( وإما نرينك بعض الذي نعدهم ) من العذاب قبل وفاتك ( أو نتوفينك ) قبل ذلك ( فإنما عليك البلاغ ) ليس عليك إلا ذلك ( وعلينا الحساب ) الجزاء يوم القيامة .
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ۚ وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ ۚ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)}
قوله تعالى ( أولم يروا ) يعني : أهل مكة ، الذين يسألون محمدا صلى الله عليه وسلم الآيات ( أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها ) المراد منه فتح ديار الشرك ، فإن ما زاد في ديار الإسلام فقد نقص من ديار الشرك ، (والله يحكم لا معقب لحكمه) لا راد لقضائه، ولا ناقض لحكمه(وهو سريع الحساب ) . فلا يستعجلوا بالعذاب ، فإن كل آت قريب.
{وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا ۖ يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ ۗ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)}
قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} يعني : من قبل مشركي مكة ، والمكر : إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر .
{ فلله المكر جميعا } يبطل مكرهم ويعيده عليهم بالخيبة والندم . { يعلم ما تكسب كل نفس} من خير أو شر{ وسيعلم الكفار} إذا قدموا على ربهم }{ لمن عقبى الدار} أي : عاقبة الدار الآخرة حين يدخلون النار ، ويدخل المؤمنون الجنة، وهذا تهديد ووعيد للكافرين.
{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)}
قوله:{وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ۚ } أي ما أرسلك الله{قُلْ كَفَىٰ بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} أي هو الشاهد عليَّ وعليكم {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم.
تم بحمد الله تفسير سورة الرعد

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

1 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر