{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
قوله عز وجل: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي) أدخل "من" للتبعيض، ومجاز الآية: أسكنت من ذريتي ابنًا( بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهو مكة؛ لأن مكة وادٍ بين جبلين ( عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .{ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ }(أفئدة): جمع فؤاد، والفؤاد هو القلب (تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) تشتاق وتحن إليهم
(وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء، فأجاب الله دعاءه، فصار يُجبى إليه ثمراتُ كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).لكي يشكروا لك على عظيم نعمك.
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)}
قوله:(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ ) من أمورنا . (وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ) . وما يغيب عن علم الله شيء من الكائنات في الأرض ولا في السماء
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}
قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ } أثنى إبراهيم على ربه عزَّ وجلَّ أن رزقه ابنيه إسماعيل وإسحاق رغم كبر سنه، { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ )، إنه ليستجيب لمن دعاه.
{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}
قوله:( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ) ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ ) اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة .
( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) استجب دعائي.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
قوله ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي} ما وقع مني مما لا يسلم منه البشر،{ وَلِوَالِدَيَّ} قال ذلك قبل أن يتبين له أن والده عدو لله .
( وللمؤمنين ) أي : اغفر للمؤمنين كلهم ( يوم يقوم الحساب ) أراد يوم يقوم الناس للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما .
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}
قوله عز وجل : (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ ) المراد بالغفلة هنا : ترك عقاب المجرمين، والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم .
(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)أي: لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
قوله: (مهطعين) معنى " الإهطاع " : أنهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم ، مسرعين لإجابة الداعي للحساب
( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) أي : رافعي رُءُوسِهِمْ . (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم .(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) أي: وقلوبهم خالية، ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف.ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لخلوه .
{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44)}
قوله:(وَأَنذِرِ النَّاسَ) خوفهم (يومَ) أي : بيوم (يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ظلموا أنفسهم بالشرك (رَبَّنَا أَخِّرْنَا) أمهلنا (إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ )إلى وقت قريب، ، هذا سؤالهم الرد إلى الدنيا ، أي : ارجعنا إليها (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ ) نؤمن بك ونصدق رسلك، فيقال لهم توبيخا : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ ) حلفتم في دار الدنيا (مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) أي: مالكم من انتقال من الحياة الدنيا إلى الآخرة وهذا مثل قولهم: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ۚ ) (النحل - 38) .
{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}
قوله: (وسكنتم ) في الدنيا (في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) بالشرك، كقوم نوح ، وهود وصالح ، وغيرهم. ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) أي : وأخبرتم بما أنزلناه عليهم من الهلاك ( وضربنا لكم الأمثال ) في القرآن؛ لتعتبروا.
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
قوله:{وقد مكروا مكرهم) بمحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم.{ وعند الله مكرهم } وفي علم الله تعالى الذى لا يغيب عنه شيء، مكرُهم {وإن كان مكرهم} معناه: وما كان مكرهم فـ(إنْ) بمعنى (ما) النافية، والمعنى أنَّ مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال.
{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47)}
قوله:(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) تأكيد لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتثبيت يقينه . وقوله ( مخلف ) من الإخلاف ، بمعنى عدم الوفاء بالوعد، والمراد : لا تظنن أن الله غير موفٍ ما وعد الله به أنبياءه ورسله من نصره إياهم ، ومن جعل العاقبة لهم ، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده ( إن الله عزيز ذو انتقام ) العزيز: الغالب على كل شيء . أي : إن الله - تعالى - غالب على كل شيء ، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته ، وما دام الأمر كذلك فإخلاف الوعد منتفٍ في حقه - تعالى .
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}
قوله عز وجل : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ)، أي يوم تبدل الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة كما جاء في الصحيحين فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ علَى أرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ ليسَ فيها مَعْلَمٌ لأحَدٍ." (رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري). وكذلك تبدل السماوات.
وقوله تعالى: {وَبَرَزُوا} خرجوا من قبورهم { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)}
قوله:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ } ترى الذين أجرموا بكفرهم مشدودين بعضهم ببعض { فِي الْأَصْفَادِ } في القيود والأغلال ، واحدها صفد ، وكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته .
{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)}
قوله:(سَرَابِيلُهُم) أي: ثيابهم ، واحدها سربال. (مِّن قَطِرَانٍ) القطران: النحاس المذاب المنتهي حره .( وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) تلفَحُ وجوههم النار فتحرقها.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}
قوله:( لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ ) من خير وشر ( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .أى : إنه - سبحانه - سريع المحاسبة لعباده .
{هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ (52)}
قوله:(هَٰذَا) أي: هذا القرآن (بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ) أ: تبليغ وعظة ( وَلِيُنذَرُوا بِهِ) وليخوفوا ( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) أي : ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى:(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) أي : ليتعظ أصحاب العقول.
تم بحمد الله وتوفيقه الانتهاء من تفسير سورة إبراهيم عليه السلام .