تفسير سورة إبراهيم

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الإثنين 5 صفر 1445هـ | عدد الزيارات: 555 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة إبراهيم عليه السلام من السور المكية، وهي اثنتان وخمسون آية .
بسم الله الرحمن الرحيم
{الٓر ۚ كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ ٱلنَّاسَ مِنَ ٱلظُّلُمَٰتِ إِلَى ٱلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَٰطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ(1)}

{الٓر ۚ } هذه من الحروف المقطعة في أوائل السور {كِتَٰبٌ أنزلناه إليك}أي : هذا كتاب يا محمد يعني: القرآن {لتخرج الناس من الظلمات إلى النور} أي : لتدعوهم مما هم فيه من ظلمات الضلالة إلى نور الإيمان . { بإذن ربهم } أي: بأمر ربهم . {إلى صراط العزيز الحميد} أي : إلى دينه، و " العزيز "، هو الغالب ، و " الحميد " : هو المستحق للحمد.
{اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} (2)
قوله:{الله الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ۗ} صفة للجلالة. {وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي: ويل لهم يوم القيامة إذا خالفوك ،يا محمد، وكذبوك.
{الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا ۚ أُولَٰئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ}(3)
قوله: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ } أي: يختارون الحياة الدنيا ويؤثرونها على الآخرة {ويصدون عن سبيل الله) أي : يمنعون الناس عن قبول دين الله (ويبغونها عوجا) أي: يطلبون الدنيا عن طريق الميل عن الحق لجهة الحرام . (أولئك في ضلال بعيد) عن الحق.
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ۖ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ }(4)
قوله تعالى : (وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم) بلغتهم ليفهموا عنه، وهذا من لطفه تعالى بخلقه. فإن قيل : كيف هذا وقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى كافة الخلق ؟ فجواب ذلك أنه بعث من العرب بلسانهم ، والناس تبع لهم ، ثم بث الرسل إلى الأطراف يدعونهم إلى الله عز وجل ويترجمون لهم بألسنتهم .
( فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء} أي بعد البيان وإقامة الحجة عليهم يضل الله من يشاء عن وجه الهدى، ويهدي من يشاء للحق.
{وهوالعزيز} الذي ماشاء كان ومالم يشأ لم يكن {الحكيم} في أفعاله ، فيضل من يستحق الإضلال، ويهدي من هو أهل لذلك.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)}
قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} كما أرسلناك لتخرج قومك من الظلمات إلى النور فقد بعثنا موسى إلى بني إسرائيل من قبلك بآياتنا ، وهي التسع الآيات : ليخرج قومه من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان {وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ } أراد بما كان في أيام الله من النعمة والمحنة ، فاجتزأ بذكر الأيام عنها لأنها كانت معلومة عندهم
{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إن فيما صنعنا بالمؤمنين من بني إسرائيل حيث أنقذناهم من يد فرعون لعبرة لكل مؤمن كثير الصبر والشكر.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ }(6)
قوله :(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ) العلة الجالبة لهذه الواوفي قوله{وَيُذَبِّحُونَ} أن الله تعالى أخبرهم أن آل فرعون كانوا يعذبونهم بأنواع من العذاب غير التذبيح ، وبالتذبيح {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ۚ} يتركوهن أحياء {وَفِي ذَٰلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} البلاء: الامتحان والاختبار ويكون بالخير والشر، والمعنى: واذكروا يا بني إسرائيل لتعتبروا وتتعظوا وتشكروا الله على نعمه وقت أن أنجاكم من آل فرعون الذين كانوا يعذبونكم أشق العذاب وأصعبه، حيث كانوا يزهقون أرواح ذكوركم، ويستبقون نفوس نسائكم، وفي النجاة من هذا العذاب امتحان لكم لتشكروا الله على نعمه، ولتقلعوا عن السيئات التي تؤدي بكم إلى الإذلال في الدنيا، والعذاب في الأخرى.
{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} (7)
قوله: { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي : أعلم ، يقال : أذن وتأذن بمعنى واحد ، مثل أوعد وتوعد {لَئِن شَكَرْتُمْ} نعمتي فآمنتم وأطعتم {لَأَزِيدَنَّكُمْ ۖ } في النعمة .

{وَلَئِن كَفَرْتُمْ} نعمتي فجحدتموها ولم تشكروها، {إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .وذلك بسلبها عنكم وعقابه سبحانه إياكم على جحدها.
{وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)}
قوله: {وَقَالَ مُوسَىٰ إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غني عن شكر عباده ، {حَمِيدٌ} : محمود في أفعاله ، لأنه فيها متفضل وعادل.
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)}
قوله: { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ } خبر الذين { مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ ۛ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ ۛ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ ۚ} يعني : من كان بعد قوم نوح ، وعاد ، وثمود . {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ} بالدلالات الواضحات.{فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ} كذبوا الرسل وردوا ما جاءوا به ، يقال : رددت قول فلان في فيه أي كذبته . { وقالوا } يعني الأمم للرسل { إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي: لا نصدقكم فيما جئتم به، فإنَّ عندنا فيه شكًا قويًا.
{ قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ قَالُوا إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10)}
قوله:{قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} هذا استفهام بمعنى نفي ما اعتقدوه { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} خالقهما {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي: ذنوبكم و {من} صلة {وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۚ} إلى حين استيفاء آجالكم فلا يعاجلكم بالعذاب. (قالوا) للرسل:{إِنْ أَنتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُنَا} في الصورة، ولستم ملائكة وإنما {تُرِيدُونَ} بقولكم { أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } حجة بينة على صحة دعواكم .
{قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
قوله:{ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} أي صحيح أنَّنا مثلكم في البشرية {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ } بالنبوة والحكمة {وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ } على وفق ما سألتم{إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ } أي: بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}. أي: في جميع أمورهم.
{وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)}
قوله:( وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ ) وقد عرفنا أنَّا لا ننال شيئا إلا بقضائه وقدره ( وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا ۚ) بين لنا الرشد ، وبصرنا طريق النجاة . ( وَلَنَصْبِرَنَّ ) اللام لام القسم ، مجازه: والله لنصبرن (عَلَىٰ مَا آذَيْتُمُونَا ۚ} من الكلام السيئ {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ) أى : وعلى الله وحده دون أحد سواه ، فليفوضوا أمورهم إلى خالقهم ، فهو القاهر فوق عباده ، وهو الذى لا يعجزه شيء.
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13)}
قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا}يعنون: من بلادنا فنطردكم منها{ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ } يعنون: إلا أن تَعُودوا في دِيننا الذي نحن عليه من عبادة الأصنام.{ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} أي: إلى رسله { لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ } الذين ظلموا أنفسهم ، فأوجبوا لها عقاب الله بكفرهم .
{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)}
قوله: (وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ) أي : من بعد هلاكهم . هذا وعدٌ من الله مَنْ وَعد من أنبيائه النصرَ على الكَفَرة به من قومه ،(ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي ) أي : قيامه بين يدَيْ (وَخَافَ وَعِيدِ) أي عقابي.
{وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}
قوله:{وَاسْتَفْتَحُوا} أي: استنصرت الرسل ربها على قومها { وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}، هلك كل متكبر جائر حائدٍ عن الإقرار بتوحيد الله وإخلاص العبادة له.
{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17)}
قوله: {من ورائه} ، من أمام كل جَبار (جهنم) ، يَرِدُونها. و " وراء " في هذا الموضع ، يعني أمام ، كما يقال: " إن الموت مِنْ ورائك " ، أي قُدّامك . { وَيُسْقَىٰ مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ} الصديد: القيح والدم.
وقوله: (يتجرَّعه) ، يشربه قسرا وقهرا (ولا يكاد يسيغه) ، أي لا تقبله نفْسُه من شدة كراهته. {وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} يقول: ويأتيه الموت من بين يديه ومن خلفه ، وعن يمينه وشماله ، ومن كل موضع من أعضاء جسده (وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ) ، لأنه لا تخرج نفسه فيموت فيستريح . {وَمِن وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} وله من بعد هذا الحال عذاب آخر مؤلم أشد مما قبله.
{مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ لَّا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18) }
قوله: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ ۖ أَعْمَالُهُمْ ) يعني : أعمال الذين كفروا بربهم (كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ۖ ) وصف اليوم بالعصوف ، والعصوف من صفة الريح لأن الريح تكون فيها ، كما يقال : يوم حار ويوم بارد ، لأن الحر والبرد فيه .
وهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار، يريد: أنهم لا ينتفعون بأعمالهم التي عملوها في الدنيا لأنهم أشركوا فيها غير الله كالرماد الذي ذرته الريح لا ينتفع به ، فذلك قوله تعالى :(لَّا يَقْدِرُونَ ) يعني : الكفار (مِمَّا كَسَبُوا) في الدنيا (عَلَىٰ شَيْءٍ ۚ) في الآخرة (ذَٰلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) أي: سعيهم وعملهم على غير أساس حتى فقدوا الثواب والأجر.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ ۚ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19)}
قوله:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ )
يقول عز ذكره لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: ألم تر ، يا محمد ، بعين قلبك ، فتعلم أن الله أنشأ السماوات والأرض بالحق منفردًا بإنشائها بغير ظهير ولا مُعين ( إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ) سواكم أطوع لله منكم .
{ وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)}
قوله:( وَمَا ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ) منيع ،والمعنى: لا يصعب على الله تعالى شيء وإن جلَّ وعَظُمَ .
{وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۚ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ ۖ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21)}
قوله عز وجل : (وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا) أي : خرجوا من قبورهم إلى الله وظهروا جميعا (فَقَالَ الضُّعَفَاءُ) يعني : الأتباع ( لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) أي : تكبروا على الناس وهم القادة والرؤساء : (إنا كنا لكم تبعا) جمع تابع ، مثل : حرس وحارس ( فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء) .أي فهل تدفعون عنا شيئا من عذاب الله (قالوا) يعني القادة المتبوعين :(لو هدانا الله لهديناكم ) أي : لو هدانا الله لدعوناكم إلى الهدى.(سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ) أي: ليس من خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه .
{وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم ۖ مَّا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُم بِمُصْرِخِيَّ ۖ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ۗ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22)}
قوله تعالى: (وقال الشيطان) يعني : إبليس ( لما قضي الأمر ) أي : فرغ منه فأدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.(إن الله وعدكم وعد الحق) فوفى لكم به (ووعدتكم فأخلفتكم ) يقول لهم : قلت لكم لا بعث ولا جنة ولا نار . (وما كان لي عليكم من سلطان) ولاية . (إلا أن دعوتكم) هذا استثناء منقطع معناه : لكن ( دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم) بإجابتي ومتابعتي من غير سلطان ولا برهان (ما أنا بمصرخكم) بمنقذكم (وما أنتم بمصرخي) بمنقذيَّ . (إني كفرت بما أشركتمون من قبل) أي: كفرت بإشراككم إياي مع الله تعالى في الطاعة . (إن الظالمين) في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل (لهم عذاب أليم) .مؤلم موجع.
{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)}
قوله عز وجل : (وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ ۖ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ) ، وأدخل الذين صدقوا الله ورسوله جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار،ماكثين فيها أبدا بحول الله وقوته يسلم بعضهم على بعض ، وتسلم الملائكة عليهم.

{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24)}
قوله: ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا ) ألم تعلم ، والمثل : قول سائر لتشبيه شيء بشيء . ( كَلِمَةً طَيِّبَةً ) وهي قول : لا إله إلا الله (كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ) وهي النخلة يريد كشجرة طيبة الثمر .(أَصْلُهَا ثَابِتٌ)أي: متمكن في الأرض (وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء) أعلاها مرتفع علوا نحو السماء، كذلك أصل هذه الكلمة : راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة والتصديق ، فإذا تكلم بها عرجت ، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عز وجل . قال الله تعالى : (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) ( فاطر - 10 ).
{ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25)}
قوله: {تُؤْتِي أُكُلَهَا} تعطي ثمرها (كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ۗ) والحين في اللغة هو الوقت، والحين ها هنا: سنة كاملة ، لأن النخلة تثمر كل سنة .{وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} رجاءَ أن يتذكروا، ويتعظوا فيعتبروا.
{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26)}
قوله:{وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك { كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ وهي الحنظل (اجْتُثَّتْ ) يعني اقتلعت { مِن فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } ثبات، معناه : وليس لها أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع صاعد إلى السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل صالح .
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۖ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)}
قوله تعالى : {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} كلمة التوحيد ، وهي قول : لا إله إلا الله، { في الحياة الدنيا } يعني قبل الموت {وفي الآخرة} يعني في القبر {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ ۚ } عن الصواب {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ } . من توفيق أهل الإيمان وخذلان أهل الكفر الطغيان.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28)}
قوله عز وجل : { ألم تر} ألم تعلم { إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا ) هم كفار أهل مكة ، ومحمد صلى الله عليه وسلم نعمة الله . {وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} أي : الهلاك
{جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29)}
قوله: { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا ۖ} يدخلونها، ويقاسون حرها { وَبِئْسَ الْقَرَارُ } وقبح المستقر.
{وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّوا عَن سَبِيلِهِ ۗ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)}
قوله: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا } أي: أمثالا،وليس لله تعالى ند { لِّيُضِلُّواعَن سَبِيلِهِ ۗ }عن طريق الحق {قُلْ تَمَتَّعُوا } عيشوا في الدنيا ، وهذا تهديد { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أي مرجعكم وموئلكم إليها.
{قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)}
قوله:{قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ}أي: قل للذين آمنوا وحققوا عبودية الله تعالى أن يقيموا الصلاة، يعني الصلوات الخمس {وَيُنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} والمراد بالإِنفاق : يشمل جميع وجوه الإِنفاق الواجبة والمستحبة في الخفية والجهر { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ} هو يوم القيامة { لَّا بَيْعٌ فِيهِ}أي: لا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه { وَلَا خِلَالٌ }، أي: مخاللة وصداقة.
{ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32)}
قوله: ( الله الذي خلق السماوات والأرض}أوجدهما من العدم دلالةً على قدرته وعظيم خلقه { وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً } وهو: المطر الذي ينزله الله من السحاب، { فَأَخْرَجَ } بذلك الماء { مِنَ الثَّمَرَاتِ } المختلفة الأنواع والأصناف { رِزْقًا لَكُمْ } تنتفعون به ، وتتمتعون بجمال منظره وطيب مطعمه. {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ} أي:يسَّرَالسفن والمراكب. { لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ } فهو الذي يسر لكم صنعتها وأقدركم عليها، وحفظها على تيار الماء لتحملكم، وتحمل تجاراتكم، وأمتعتكم إلى بلد تقصدونه. { وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ } لتسقي حروثكم وأشجاركم وتشربوا منها.
{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33)}
قوله:{وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ ۖ } يجريان فيما يعود إلى مصالح العباد ولا يفتران عن حركتهما لتتحقق مصالح العباد بهما. ،{ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} يتعاقبان في الضياء والظلمة ، والنقصان والزيادة . فتنتفعون بكل منهما بما يصلح أحوالكم . فالليل تنتفعون به فى راحتكم ومنامكم ، والنهار تنتفعون به فى معاشكم وطلب رزقكم .
{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) }
قوله:{وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ۚ } وأعطاكم من كل شيء طلبتموه.
{ وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ} أي : نعم الله { لا تُحْصُوهَا ۗ } أي : لا تطيقوا عدها ولا القيام بشكرها لكثرتها.
(إِنَّ الْإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) أي : لكثير الظلم لنفسه، كثير الجحود لنعم ربه.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35)}
قوله عز وجل : (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَٰذَا الْبَلَدَ ) يعني: مكة (آمِنًا) ذا أمن يؤمن فيه (وَاجْنُبْنِي) أبعدني (وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الْأَصْنَامَ)

الدعاء في حق إبراهيم عليه السلام لزيادة العصمة والتثبيت ، وأما دعاؤه لبنيه : فأراد بنيه من صلبه ، ولم يعبد منهم أحد الصنم .

{رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ۖ وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) }
قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ ۖ } نسب الإضلال إلى الأصنام لأنهن سبب فيه ، كما يقول القائل : فتنتني الدنيا ، نسب الفتنة إلى الدنيا لأنها سبب الفتنة .
{فمن تبعني فإنه مني} أي: من أهل ديني {ومن عصاني} فيما دون الشرك .{ فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } غفور لذنوب المذنبين بفضلك، رحيم بهم تعفو عمن تشاء منهم.
{رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)}
قوله عز وجل: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي) أدخل "من" للتبعيض، ومجاز الآية: أسكنت من ذريتي ابنًا( بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) وهو مكة؛ لأن مكة وادٍ بين جبلين ( عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) سماه محرما لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره .{ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ }(أفئدة): جمع فؤاد، والفؤاد هو القلب (تَهْوِي إِلَيْهِمْ ) تشتاق وتحن إليهم
(وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ) ما رزقت سكان القرى ذوات الماء، فأجاب الله دعاءه، فصار يُجبى إليه ثمراتُ كل شيء، فإنك ترى مكة المشرفة كل وقت والثمار فيها متوفرة والأرزاق تتوالى إليها من كل جانب( لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ).لكي يشكروا لك على عظيم نعمك.
{رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)}
قوله:(رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ ۗ ) من أمورنا . (وَمَا يَخْفَىٰ عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ ) . وما يغيب عن علم الله شيء من الكائنات في الأرض ولا في السماء
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39)}
قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ ۚ } أثنى إبراهيم على ربه عزَّ وجلَّ أن رزقه ابنيه إسماعيل وإسحاق رغم كبر سنه، { إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ )، إنه ليستجيب لمن دعاه.

{رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40)}
قوله:( رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ) ممن يقيم الصلاة بأركانها ويحافظ عليها ( وَمِن ذُرِّيَّتِي ۚ ) اجعل من ذريتي من يقيمون الصلاة .
( رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ) استجب دعائي.

{رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)}
قوله ( رَبَّنَا اغْفِرْ لِي} ما وقع مني مما لا يسلم منه البشر،{ وَلِوَالِدَيَّ} قال ذلك قبل أن يتبين له أن والده عدو لله .
( وللمؤمنين ) أي : اغفر للمؤمنين كلهم ( يوم يقوم الحساب ) أراد يوم يقوم الناس للحساب ، فاكتفى بذكر الحساب لكونه مفهوما .
{وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42)}
قوله عز وجل : (وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ} يا محمد {غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ ) المراد بالغفلة هنا : ترك عقاب المجرمين، والآية لتسلية المظلوم وتهديد للظالم .
(إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ)أي: لا تغمض من هول ما ترى في ذلك اليوم
{مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)}
قوله: (مهطعين) معنى " الإهطاع " : أنهم لا يلتفتون يمينا ولا شمالا ولا يعرفون مواطن أقدامهم ، مسرعين لإجابة الداعي للحساب
( مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ) أي : رافعي رُءُوسِهِمْ . (لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ۖ ) أي : لا ترجع إليهم أبصارهم من شدة النظر ، وهي شاخصة قد شغلهم ما بين أيديهم .(وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ) أي: وقلوبهم خالية، ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف.ومنه سمي ما بين السماء والأرض هواء لخلوه .
{وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44)}
قوله:(وَأَنذِرِ النَّاسَ) خوفهم (يومَ) أي : بيوم (يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ) وهو يوم القيامة (فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا) ظلموا أنفسهم بالشرك (رَبَّنَا أَخِّرْنَا) أمهلنا (إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ )إلى وقت قريب، ، هذا سؤالهم الرد إلى الدنيا ، أي : ارجعنا إليها (نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ ۗ ) نؤمن بك ونصدق رسلك، فيقال لهم توبيخا : (أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ ) حلفتم في دار الدنيا (مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ) أي: مالكم من انتقال من الحياة الدنيا إلى الآخرة وهذا مثل قولهم: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ۙ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ ۚ ) (النحل - 38) .
{وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45)}
قوله: (وسكنتم ) في الدنيا (في مساكن الذين ظلموا أنفسهم ) بالشرك، كقوم نوح ، وهود وصالح ، وغيرهم. ( وتبين لكم كيف فعلنا بهم ) أي : وأخبرتم بما أنزلناه عليهم من الهلاك ( وضربنا لكم الأمثال ) في القرآن؛ لتعتبروا.
{وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)}
قوله:{وقد مكروا مكرهم) بمحاولتهم قتل النبي صلى الله عليه وسلم.{ وعند الله مكرهم } وفي علم الله تعالى الذى لا يغيب عنه شيء، مكرُهم {وإن كان مكرهم} معناه: وما كان مكرهم فـ(إنْ) بمعنى (ما) النافية، والمعنى أنَّ مكرهم لأضعف من أن تزول منه الجبال.
{فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (47)}
قوله:(فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله ) تأكيد لتسلية الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولتثبيت يقينه . وقوله ( مخلف ) من الإخلاف ، بمعنى عدم الوفاء بالوعد، والمراد : لا تظنن أن الله غير موفٍ ما وعد الله به أنبياءه ورسله من نصره إياهم ، ومن جعل العاقبة لهم ، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: ولا تحسبن الله مخلف رسله وعده ( إن الله عزيز ذو انتقام ) العزيز: الغالب على كل شيء . أي : إن الله - تعالى - غالب على كل شيء ، وذو انتقام شديد من أعدائه لأنهم تحت قدرته ، وما دام الأمر كذلك فإخلاف الوعد منتفٍ في حقه - تعالى .
{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)}
قوله عز وجل : (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ۖ)، أي يوم تبدل الأرض ، وهي هذه على غير الصفة المألوفة كما جاء في الصحيحين فعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يُحْشَرُ النَّاسُ يَومَ القِيامَةِ علَى أرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ ليسَ فيها مَعْلَمٌ لأحَدٍ." (رواه البخاري ومسلم، واللفظ للبخاري). وكذلك تبدل السماوات.
وقوله تعالى: {وَبَرَزُوا} خرجوا من قبورهم { لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد .
{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49)}
قوله:{وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ } ترى الذين أجرموا بكفرهم مشدودين بعضهم ببعض { فِي الْأَصْفَادِ } في القيود والأغلال ، واحدها صفد ، وكل من شددته شدا وثيقا فقد صفدته .
{سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50)}
قوله:(سَرَابِيلُهُم) أي: ثيابهم ، واحدها سربال. (مِّن قَطِرَانٍ) القطران: النحاس المذاب المنتهي حره .
( وَتَغْشَىٰ وُجُوهَهُمُ النَّارُ ) تلفَحُ وجوههم النار فتحرقها.
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)}
قوله:( لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ ۚ ) من خير وشر ( إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) .أى : إنه - سبحانه - سريع المحاسبة لعباده .
{هَٰذَا بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ (52)}
قوله:(هَٰذَا) أي: هذا القرآن (بَلَاغٌ لِّلنَّاسِ) أ: تبليغ وعظة ( وَلِيُنذَرُوا بِهِ) وليخوفوا ( وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ) أي : ليستدلوا بهذه الآيات على وحدانية الله تعالى:(وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبَابِ) أي : ليتعظ أصحاب العقول.
تم بحمد الله وتوفيقه الانتهاء من تفسير سورة إبراهيم عليه السلام .

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

3 + 5 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر