تفسير سورة الحجر

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الخميس 21 شوال 1444هـ | عدد الزيارات: 710 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

سورة الحجر، عدد آياتها (99) وترتيبها في المصحف بعد سورة إبراهيم، وهي من السور المكية.

بسم الله الرحمن الرحيم

{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) }.

{الر} سبق الكلام على الحروف المقطعة {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ} أي: هذه آيات الكتاب، {وَقُرْآنٍ} أي: وآيات قرآن {مُبِينٍ} أي: موضح للحقائق، ومبيِّن للحلال من الحرام والحق من الباطل. وجمع الله بين الكتاب والقرآن مع أنهما واحد؛ لأن الكتاب ما يكتب والقرآن ما يجمع بعضه إلى بعض.

{رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ، ويتمنون لو كانوا مع المسلمين في الدار الدنيا ، وذلك حين يخرج الله المؤمنين من النار، روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إذا اجتمع أهلُ النارِ في النارِ ومعهم مَن شاء اللهُ من أهلِ القِبلةِ يقولُ الكفارُ : أَلَمْ تكونوا مسلمينَ ؟ قالوا : بلى قالوا : فما أَغْنَى عنكم إسلامُكم و قد صِرْتُم معنا في النارِ ؟ قالوا : كانت لنا ذنوبٌ فأُخِذْنا بها فيَسْمَعُ ما قالوا فأَمَر بمَن كان من أهلِ القِبلةِ فأُخْرِجُوا فلما رأى ذلك أهلُ النارِ قالوا : يالَيْتَنا كنا مسلمينَ فنخرجُ كما خَرَجُوا قال:وقرأ رسولُ اللهِ {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ } تخريج كتاب السنة للألباني عن أبي موسى الأشعري..

{ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [3]

قوله: {ذَرْهُمْ}أي: اتركهم يا محمد، وهذا تهديد ووعيد للذين كفروا {يَأْكُلُوا} في الدنيا {وَيَتَمَتَّعُوا} من لذاتهم {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم {الأمَلُ} عن الأخذ بحظهم من الإيمان والطاعة {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إذا وردوا القيامة وذاقوا وبال ما صنعوا, وهذا تهديد ووعيد.

{وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ [4] مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ [ 5 ] وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [ 6 ] لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [7] مَا نُنَـزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ [ 8 ] إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [9]

قوله: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} أي: من أهل قرية إلا بعد قيام الحجة عليها. {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ } أي: أجل مضروب لا يتقدم عليه . {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي: الموت لا يتقدم ولا يتأخر. {وَقَالُوا} يعني: مشركي مكة {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُـزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} أي: القرآن، وأرادوا به محمدا صلى الله عليه وسلم {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} أي: في دعائك إيانا إلى اتباعك، وترك ما وجدنا عليه آباءنا. وذكروا تنزيل الذكر على سبيل الاستهزاء ؛ لأنهم لا يقرون بالقرآن. {لَوْمَا} هلا {تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ} شاهدين لك بالصدق على ما تقول {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} إنك نبي .

{مَا نُنَـزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ}

قوله:{إِلا بِالْحَقِّ} أي: بالعذاب ولو نُـزِّلَتْ الملائكة لَعُجِّلوا بالعذاب، {وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ} أي: مُمْهَلينَ، وقد كان الكفار يطلبون إنـزال الملائكة عيانا فأجابهم الله تعالى بأنهم لو نـزلوا أعيانًا لزال عن الكفار الإمهال وعُذِّبوا في الحال.

{إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}

قوله:{ إِنَّا نَحْنُ نَـزَّلْنَا الذِّكْرَ} أي: القرآن {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي: لحافظون للقرآن من شياطين الإنس والجن أن يزيدوا فيه، أو ينقصوا منه، أو يبدلوا.

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)}.

قوله تعالى:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} أي: رسلا{فِي شِيَعِ الأوَّلِينَ} أي: في الأمم والقرون السابقة. والشيعة: هم القوم المجتمعون المتفقة كلمتهم.

{وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} وفي هذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، فكما فعل بك هؤلاء المشركون كذلك فُعِلَ بمن قبلك من الرسل.

{كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} أي: كما أدخلنا الشرك في قلوب الأمم السابقة بسبب الاستهزاء بالرسل، كذلك ندخله في قلوب مشركي مكة . {لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: لا يصدقون بالذكر الذي أنزل إليك، وهو القرآن {وَقَدْ خَلَتْ} مضت {سُنَّةُ الأوَّلِينَ} أي: وقائع الله تعالى بالإهلاك فيمن كذب الرسل من الأمم الخالية، وهذا تخويف من الله لأهل مكة حتى لا يكون مصيرهم مثل مصير الأمم السابقة التي كذبت الرسل.

قوله:{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ}، يخبر الله تعالى عن مكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باب من السماء فاستمروا صاعدين فيه حتى يشاهدوا ما في السماء من عجائب ملكوت الله لما صدقوا بذلك.

{لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} (15)

قوله: {لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} أي: سُدَّت .{بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} أي:عمل فينا السحر فَسَحَرَنا محمد صلى الله عليه وسلم .

{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} (16)

قوله عزَّ وجلَّ:{وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} البروج هي النجوم، وسميت بذلك لظهورها، وارتفاعها.

{وَزَيَّنَّاهَا} أي: السماء بالنجوم {لِلنَّاظِرِينَ} لمن تأملها، وكرر النظر يرى فيها من العجائب والآيات الباهرات .

قوله: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} (17) {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} (18)

قوله:{وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} مرجوم. {إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} إلا من اختلس السمع، {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} والشهاب: الشُّعلة من النار.

وذلك أن الشياطين يختلسون السمع من الملائكة في السماء الدنيا بركوب بعضهم فوق بعض فيُرْمون بالشهب، ففي صحيح البخاري"إذا قَضَى اللَّهُ الأمْرَ في السَّماءِ، ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ بأَجْنِحَتِها خُضْعانًا لِقَوْلِهِ كالسِّلْسِلَةِ علَى صَفْوانٍ ... فإذا فُزِّعَ عن قُلُوبِهِمْ، قالوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا لِلَّذِي قالَ: الحَقَّ، وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ، فَيَسْمَعُها مُسْتَرِقُو السَّمْعِ - ومُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذا واحِدٌ فَوْقَ آخَرَ؛ ووَصَفَ سُفْيانُ بيَدِهِ، وفَرَّجَ بيْنَ أصابِعِ يَدِهِ اليُمْنَى، نَصَبَها بَعْضَها فَوْقَ بَعْضٍ- فَرُبَّما أدْرَكَ الشِّهابُ المُسْتَمِعَ قَبْلَ أنْ يَرْمِيَ بها إلى صاحِبِهِ فيُحْرِقَهُ، ورُبَّما لَمْ يُدْرِكْهُ حتَّى يَرْمِيَ بها إلى الذي يَلِيهِ، إلى الذي هو أسْفَلُ منه، حتَّى يُلْقُوها إلى الأرْضِ".

{وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) }.

قوله تعالى: {وَالأرْضَ مَدَدْنَاهَا} أي بسطناها {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} أي:جبالا تثبتها {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا} أي: في الأرض من جميع أنواع النبات {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ} مقدَّر معلوم مما يحتاج إليه العباد. {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} جمع معيشة، وهي ما يعيش به الآدمي في الدنيا من أنواع المكاسب. {وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} من الدوابِّ والأنعام، وكفيناكم رزقها.

{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَـزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْـزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) }

قوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ} أي: وما من شيء {إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ} من جميع الصنوف. {وَمَا نُنَـزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ } .أي : بمقدار محدد. {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} أي تلقح السحابَ فتدرُّ ماءً.

قوله: {فَأَنْـزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ }أي: أنزلناه لكم عذبًا تشربون منه.

(وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ) يعني المطر أي: وما أنتم بقادرين على ادّخاره، ولكن نحن من نحفظه لكم رحمة بكم. {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ }(23) هذا إخبار عن قدرة الله تعالى وأنه هو الذي أحيا الخلق من العدم، ثم يميتهم ثم يبعثهم ، وأنه الوارث للأرض ومن عليها..

{وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ}(24)

المستقدمون: كل من هلك من لدن آدم عليه السلام، والمستأخرون : من هو حيٌّ ، ومن سيأتي إلى يوم القيامة.

{وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ }(25) أي يجمعهم للحساب، وهو حكيم في تدبيره، عليم لا يخفى عليه شيء.

{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (26)

قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ} يعني: آدم عليه السلام, سمي إنسانًا من النسيان لأنه عهد إليه فنسي.( مِنْ صَلْصَالٍ ) وهو الطين اليابس الذي إذا نقرته سمعت له صوتًا. {مِنْ حَمَإٍ} الحمأ: الطين الأسود (مَسْنُونٍ) أي: متغيِّر.

{وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ} (27)

قوله: {وَالْجَانَّ} هو أبو الجن كما أن آدم أبو البشر.{خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ} أي: قبل آدم عليه السلام. {مِنْ نَارِ السَّمُومِ} هي السَّمُوم التي تقتل. والجن يأكلون ويشربون ، ويتناكحون ويتناسلون، ومنهم المؤمن، والكافر..

{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)}

قوله تعالى:{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا} أي: سأخلق بشرا وهو آدم عليه السلام .(مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ) .

قوله:{فَإِذَا سَوَّيْتُهُ}عَدَّلْتُ صورته، وأتممت خلقه.{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) فصار بشرًا حيًا، (فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) سجود تحية لا سجود عبادة؛ وهذا تشريف له.

{فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ} الذين أمروا بالسجود {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} توكيد لسجود جميع الملائكةليزول احتمال سجود البعض فقط أو أنهم سجدوا في أوقات مختلفة فزال ذلك الإشكال بالتوكيد.

{إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ(31) .قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ ( 33 ) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ( 39 ) إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)}.

قوله: {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} حسدًا، وكفرًا، وعنادًا، واستكبارًا . {قَالَ لَمْ أَكُنْ لأسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ } رفض إبليسُ السجودَ لآدمَ متوهما أن النار أفضل من الطين لما فيها من قوة الحرق والإهلاك، وليس الأمر كما توهَّم ، بل في النار من الطيش والرعونة ما يكفي لعدم تفضيلها على الطين الموصوف بالسكون والنفع العام، ولو كانت النار أفضلَ من الطين كما زعم ، فليس له تفضيلُ بعض خلق الله على بعض، قال تعالى:{وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ ۗ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ القصص68] .

(قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا) أي:من الجنة (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) مطرود من كل خير. (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ) أي: البعد من رحمتي إلى يوم القيامة. (قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) إنما أراد ذلك، ليتمكن من إغواء آدم وذريته، وهذا من تمام حسده لآدم وذريته. (قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) أي: الوقت الذي يموت فيه الخلائق, وهو النفخة الأولى. ولم تكن إجابة الله تعالى إياه في الإمهال إكراما له, بل كانت زيادة في بلائه وشقائه.

(قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي) بسب ماأضللتني.(لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرْضِ) أي: أحبب إليهم المعاصي، وأرغبهم فيها. (وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) أي: لأضلنَّهم. (إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) الذين هديتهم فأخلصتهم لطاعتك، وطهرتهم من كل ما ينافي التوحيد.

{ قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (4) }.

قال الله تعالى لإبليس متوعدا:{هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ} "عَلَيَّ" هِيَ (إِلَيَّ) وَبِمَنْزِلَتِهَا . فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَام : هَذَا طَرِيق مَرْجِعه إِلَيَّ فَأُجَازِي كُلًّا بِأَعْمَالِهِمْ.

{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أي: لا أجعل لك قوةً على قلوب عبادي تضلهم بها عن الصراط المستقيم.{إِلا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} أي: الضالين {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} يعني موعد إبليس ومن تبعه. {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} أطباق، طبق فوق طبق.

{ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ } أي: لكل طبقةٍ جزءٌ من اتباع إبليس يدخلونها بحسب أعمالهم .

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ ( 46 ) وَنَـزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49)}

قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} أي: في بساتين وأنهار. (ادْخُلُوهَا ) أي: يقال لهم ادخلوا الجنة (بِسَلامٍ) أي: بسلامة من الآفات، (آمِنِينَ) من الموت والخروج من الجنة .(وَنَـزَعْنَا) أخرجنا (مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) هو الشحناء والعداوة والحقد والحسد, (إِخْوَانًا) أي: متحابين (عَلَى سُرُرٍ) جمع سرير، وهي أسرة عظيمة، (مُتَقَابِلِينَ) تتقابل وجوههم تواصلا وتحاببا. (لا يَمَسُّهُمْ) لا يصيبهم (فِيهَا نَصَبٌ) أي: تعب (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ) هذا نصُّ صريح في القرآن على الخلود.

{ نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51)}

قوله: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أخبرْ أيها الرسول عبادي أني أنا الغفور للمؤمنين التائبين، الرحيم بهم.

{وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ} أي: المؤلم الموجع لغير التائبين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إن الله خلق الرحمة يوم خلقها مائةَ رحمةٍ, فأمسك عنده تسعًا وتسعين رحمة, وأرسل في خَلْقِهِ كلهم رحمةً واحدة فلو يعلمُ الكافر بكل الذي عند الله من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلمُ المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب لم يأمن من النار"(رواه البخاري)

قوله تعالى: { وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ}أي: عن أضيافه. والضيف: اسم يقع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤنث, وهم الملائكة الذين أرسلهم الله تعالى ليبشروا إبراهيم عليه السلام بالولد, ويهلكوا قوم لوط.

{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55)}

قوله:{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ} إبراهيم: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} خائفون لأنهم لم يأكلوا طعامه.{قَالُوا لا تَوْجَلْ} لا تخف {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} أي: غلام في صِغَرِه, عليم في كبره, يعني: إسحاق, فتعجب إبراهيم عليه السلام من كبره وكبر امرأته. {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ} أي: على حال الكبر، قاله على طريق التعجب {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ) فبأي شيء تبشرون؟ {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ} أي بالصدق {فَلا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ}.

{قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)}.

قوله {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ} أي: من ييئس {مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلا الضَّالُّونَ} أي: الخاسرون، والقنوط من رحمة الله كبيرة كالأمن من مكره.

{قَالَ إبراهيم فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} قال إبراهيم عليه السلام للملائكة المرسلين: ما شأنكم. {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} مشركين. {إِلا آلَ لُوطٍ} أتباعه وأهل دينه، {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلا امْرَأَتَهُ } أي: زوجة لوط الكافرة {قَدَّرْنَا} قضينا { إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ } الباقين في العذاب.

{فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)}

قوله: {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ }(61) فلما وصل الملائكة المرسلون إلى لوط {قَالَ} لوط لهم { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} أي: أنا لا أعرفكم. {قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ} أي: يشكُّون في أنه نازلٌ بهم، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب ولا يصدقونه. (وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ) باليقين بنجاتك وهلاك قومك {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وهلاك قومه. (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) يذكر الله تعالى أمرَ الملائكةِ للوط عليه السلام أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل، وأن يمشي خلفهم؛ ليكون أحفظ لهم. {وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ} حتى لا يرتاعوا من العذاب إذا نـزل بقومهم. {وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي: وأسرعو إلى حيث أمركم الله لتكونوا في مكان آمن. {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ} أي: أحكمنا الأمر الذي أمرنا في قوم لوط، وأخبرناه: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاءِ} يعني: أصلهم، {مَقْطُوعٌ} مستأصل، {مُصْبِحِينَ} إذا دخلوا في الصبح.

{وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) }

قوله: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ} يعني سدوم. {يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يبشر بعضهم بعضًا، بأضياف لوط؛ طمعًا في فعل الفاحشة بهم . {قَالَ} لوط لقومه {إِنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي} وحقٌّ على الرجل إكرام ضيفه {فَلا تَفْضَحُونِ} فلا تفضحوني أيها القوم في ضيفي. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ } أي: ولا تذلوني ولا تهينوني فيهم ، بالتعرّض لهم بالمكروه. { قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ } أي: ألم ننهك عن أن تضيف أحدًا من العالمين.

{قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) }

قوله:{قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} أرشدهم إلى نسائهم، وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة، وأن لا يفعلوا ما حرَّم الله عليهم من إتيان الرجال، وسماهن بناته؛ لأن نبي الأمة بمنزلة الأب لهم.

{لَعَمْرُكَ} أي وحياتك، يقسم الخالق بمن يشاء، أما المخلوق فلا يجوز له القسم إلا بالله، وقد أقسم الله بحياة محمد صلى الله عليه وسلم، تشريفا له. {إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ} ضلالتهم. {يَعْمَهُونَ} يتمادون.

{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) }

قوله:{فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ} الصيحة :من الصياح ، وهي الصوت القاصف الشديد الذي جاءهم عند شروق الشمس. {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها، وأرسلَ حجارة السجيل عليهم، وهي حجارة من طين متصلب متين. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } إن في إهلاكنا لهم لدلالة بينة للمتفكرين المعتبرين {وَإِنَّهَا} يعني: قرية سدوم في الأردن {لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} أي: بطريق واضح يراها المارون بها. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} . لدلالة بينة للمصدقين العاملين بشرع الله. {وَإِنْ كَانَ} وقد كان {أَصْحَابُ الأيْكَةِ} أصحاب المدينة الملتفة الشجر {لَظَالِمِينَ} بشركهم بالله، واللام للتأكيد، وهم قوم شعيب عليه السلام، كانوا أصحاب شجر ملتفٍّ، وكان عامة شجرهم الدَّوْم، وهو المُقْل .

{فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)}

قوله: {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} بالعذاب؛ إذ بعث الله عليهم حرّا شديدا، ورفع لهم العذاب كأنه سحابة، فلما دنت منهم خرجوا إليها رجاء بردها, فلما كانوا تحتها مطرت عليهم نارا. فذلك قوله: {فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ}.[الشعراء- 189]

{وَإِنَّهُمَا} يعني مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة {لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ} أي: بطريق واضح في نفسه يعتبر بهما من يمر عليهما .

قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ} ولقد كذب سكان الحجر، وجُعِلُوا لِسُكْنَاهم فيها ومُقامِهم بها أصحابَها، كما قال تعالى ذكره: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ[الأعراف 44] فجعلهم أصحابها لسُكناهم فيها ومقامهم بها. والحجر: مدينة ثمود قوم صالح، ومساكنهم في الطريق من خيبر إلي تبوك، وتعرف باسم «وادي القرى»، (الْمُرْسَلِينَ) أراد صالحًا وحده، وإنما جاء بصيغة الجمع؛ لأن من كذب رسولا واحدا فقد كذب بجميع المرسلين.

(وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا)وآتينا قوم صالح آياتنا الدالة على صحة ما جاءهم به من الحق، ومن جملتها الناقة، التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح عليه السلام، من صخرة صماء تسرح في بلادهم، لها شرب يوم ، ولهم شرب يوم، فلم يعتبروا بها. {فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي: مبتعدين.

{وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} من أن تسقط عليهم .

{ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ} يعني: صاعقة العذاب، {مُصْبِحِين} أي: داخلين في وقت الصبح.

{فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فما دفع عنهم عذاب الله الأموال والحصون في الجبال، عن سالم بن عبد الله، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما مرَّ بالحجر قال: " لا تَدْخُلُوا علَى هَؤُلَاءِ القَوْمِ إلَّا أنْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فإنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ فلا تَدْخُلُوا عليهم؛ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أصَابَهُمْ."(صحيح البخاري). .

{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87)}

قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاواتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ} أي:بالعدل، { وَإِنَّ السَّاعَةَ } يعني: القيامة {لآتِيَةٌ} أي: كائنة لا محالة؛ ليجازي المحسن بإحسانه والمسيءَ بإساءته {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} اعفُ عفوًا حسنًا لا إساءة فيه. وهذه نسختها آية القتال .

( إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ ) الخلاق لكل شيء العليم به، والخَلَّاقُ والعليمُ: صيغتا مبالغة من الخلق والعلم، للدلالة على كثرة خلقه، وشمول علمه.

قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي}

المراد بالسبع المثانى: سورة الفاتحة . وسميت بذلك ، لأنها سبع آيات ، ولأنها تثنى أى تكرر فى كل ركعة من ركعات الصلاة قال أبو سعيد بن المعلى :" كُنْتُ أُصَلِّي، فَدَعانِي النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَلَمْ أُجِبْهُ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ إنِّي كُنْتُ أُصَلِّي، قالَ: ألَمْ يَقُلِ اللَّهُ: اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذا دَعاكُمْ؟، ثُمَّ قالَ: ألا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ تَخْرُجَ مِنَ المَسْجِدِ، فأخَذَ بيَدِي، فَلَمَّا أرَدْنا أنْ نَخْرُجَ، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، إنَّكَ قُلْتَ: لَأُعَلِّمَنَّكَ أعْظَمَ سُورَةٍ مِنَ القُرْآنِ قالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ، هي السَّبْعُ المَثانِي، والقُرْآنُ العَظِيمُ الذي أُوتِيتُهُ." (صحيح البخاري)

.

{لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)}

قوله تعالى: {لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} يا محمد {إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا} أصنافًا { مِنْهُمْ } أي: من الكفار أي: استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع الفاني {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } لا تحزن على كفرهم.{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} تواضع لهم.

{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْـزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90)}

قوله:{وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89)} وقل يا محمد للمشركين: إني أنا النذير الذي قد أبان إنذاره لكم من البلاء والعقاب أن ينـزل بكم من الله على تماديكم في غيكم.

{كَمَا أَنْـزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ(90)} هم اليهود والنصارى، {الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)} ، الذين قسموا القرآن، وجزَّؤوه فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه الآخر، روى سعيد بن جبير " عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنْهمَا: {الَّذِينَ جَعَلُوا القُرْآنَ عِضِينَ} قالَ: هُمْ أهْلُ الكِتَابِ جَزَّؤُوهُ أجْزَاءً، فَآمَنُوا ببَعْضِهِ وكَفَرُوا ببَعْضِهِ. " (صحيح البخاري).

{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)}

قوله:{فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لنسألن هؤلاء الذين جعلوا القرآن عضين، عمَّا عملوا في الدنيا.

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)}

قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (الصدع) الجهر والإعلان. وأصل الصدع الانشقاق. أمر الله النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية بإظهارالدعوة. فقد كان مستخفيًا حتى نـزلت هذه الآية فخرج هو وأصحابه.{وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} أي: لا تبالِ بهم، وهذه نسختها آية القتال. { إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ} أي:إنا حفظناك من الساخرين.

{الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)} تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع الله معبودا آخر.

{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)}

قوله:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97)} وإنا لنعلم يا محمد، أنه يحصل لك من أذاهم انقباضٌ صدرك، بسبب ما يقوله المشركون فيك وفي دعوتك، فلا يثنينَّك ذلك عن إبلاغ رسالة ربك.

{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} اشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه {وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} من المصلين، فعن حذيفةَ بن اليمان قالَ:" كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ إذا حزبَهُ أمرٌ صلَّى" (صحيح أبي داود للألباني). {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} أي الموت الموقن به.

تم بحمد الله تفسير سورة الحجر.

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

9 + 3 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 124 الجزء الثالث ‌‌أهمية الغطاء على وجه المرأة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 123 الجزء الثالث ‌‌حكم قيادة المرأة للسيارة - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر