تفسير سورة يس

الدرس
التصنيف : تاريخ النشر: الثلاثاء 1 ربيع الثاني 1439هـ | عدد الزيارات: 1615 القسم: تفسير القرآن الكريم -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله .

سورة يس مكية وآياتها 83

بسم الله الرحمن الرحيم

يس (1) والقرآن الحكيم (2) إنك لمن المرسلين (3) على صراط مستقيم (4) تنزيل العزيز الرحيم (5) لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون (6) لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون (7)

قوله :(يس) قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة

(والقرآن الحكيم) هذا قَسَمٌ من الله تعالى بالقرآن الحكيم الذي وصفه الحكمة وهي وضع كل شيء في موضعه، وضع الأمر والنهي، في المحل اللائق بهما، فأحكامه الشرعية مشتملة على غاية الحكمة، ومن حكمة هذا القرآن، أنه يجمع بين ذكر الحكم وحكمته، فينبه العقول على المناسبات والأوصاف المقتضية لترتيب الحكم عليها .

(إنك) يا محمد (لمن المرسلين * على صراط مستقيم) أي: على منهج ودين قويم، وشرع مستقيم

(تنـزيل العزيز الرحيم) أي: هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به منـزل من رب العزة، الرحيم بعباده المؤمنين .

وقوله تعالى: (لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون) يعني بهم: العرب؛ فإنه ما أتاهم من نذير من قبله وذكرهم وحدهم لا ينفي من عداهم كما أن ذكر بعض الأفراد لا ينفي العموم .

قوله: (لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون) أي: نفذ فيهم القضاء والمشيئة أنهم لا يزالون في كفرهم وشركهم وإنما حق عليهم القول بعد أن عرض عليهم الحق فرفضوه، فحينئذ عوقبوا بالطبع على قلوبهم .

وذكر الموانع من وصول الإيمان لقلوبهم فقال :

إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون (8) وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون (9) وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (10) إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب فبشره بمغفرة وأجر كريم (11) إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شيء أحصيناه في إمام مبين (12)

(إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون) إنا جعلنا هؤلاء الكفار الذين عُرض عليهم الحق فردوه وأصروا على الكفر وعدم الإيمان كمن جعل في أعناقهم أغلالا فجمعت أيديهم مع أعناقهم تحت أذقانهم، فاضطروا إلى رفع رؤوسهم إلى السماء فهم مغلولون عن كل خير لا يبصرون الحق ولا يهتدون إليه .

وقوله: (وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا) أي: وجعلنا من أمام الكافرين حاجزا ومن وراءهم حاجزا يحجزهم عن الإيمان .

وقوله: (فأغشيناهم) أي: أعمينا أبصارهم عن الحق بسبب كفرهم واستكبارهم (فهم لا يبصرون) أي: لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه .

وقوله: (وسواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) أي: قد ختم الله عليهم بالضلالة، فما يفيد فيهم الإنذار ولا يتأثرون به .

(إنما تنذر من اتبع الذكر) أي: إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون الذكر، وهو القرآن العظيم، (وخشي الرحمن) أي: حيث لا يراه أحد إلا الله، يعلم أن الله مطلع عليه، وعالم بما يفعله، (فبشره بمغفرة) أي: لذنوبه، (وأجر كريم) أي: كبير واسع حسن جميل .

ثم قال تعالى: (إنا نحن نحيي الموتى) أي: يوم القيامة

وقوله: (ونكتب ما قدموا) أي: من الأعمال

وفي قوله: (وآثارهم) أي: نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم، وآثارهم التي أثروها من بعدهم، فنجزيهم على ذلك أيضا، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، كقوله صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة، كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا) رواه مسلم

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)

وقوله: (وكل شيء أحصيناه في إمام مبين) أي: جميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ .

واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون (13) إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما فعززنا بثالث فقالوا إنا إليكم مرسلون (14) قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون (15) قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون (16) وما علينا إلا البلاغ المبين (17)

(واضرب لهم مثلا أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون) واضرب أيها الرسول لمشركي قومك الرادين لدعوتك مثلا يعتبرون به وهو قصة أهل القرية حين ذهب إليها المرسلون .

وقوله: (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذبوهما) أي: بادروهما بالتكذيب، (فعززنا بثالث) أي: قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث .

(فقالوا) أي: لأهل تلك القرية: (إنا إليكم مرسلون) أي: من ربكم الذي خلقكم، نأمركم بعبادته وحده لا شريك له .

(قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا) أي: فكيف أوحي إليكم وأنتم بشر ونحن بشر، فلم لا أوحي إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلا لكنتم ملائكة وهذه شبه كثير من الأمم المكذبة ولهذا قال هؤلاء: (ما أنتم إلا بشر مثلنا وما أنـزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون * قالوا ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون) أي: أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين: الله يعلم أنا رسله إليكم، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم، وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار .

(وما علينا إلا البلاغ المبين) يقولون إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم، فإذا أطعتم كانت لكم السعادة في الدنيا والآخرة، وإن لم تجيبوا فستعلمون غب ذلك .

قالوا إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم (18) قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون (19)

فعند ذلك قال لهم أهل القرية: (إنا تطيرنا بكم) أي: لم نر على وجوهكم خيرا في عيشنا .

(لئن لم تنتهوا لنرجمنكم) أي: لنقتلنكم رجماً بالحجارة أشنع القتلات .

(وليمسنكم منا عذاب أليم) أي: عقوبة شديدة فقالت لهم رسلهم: (طائركم معكم) أي: شؤمكم وأعمالكم من الشرك والشر معكم مردود عليكم .

وقوله: (أئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون) أي: من أجل أنا ذكرناكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له، قابلتمونا بهذا الكلام، وتوعدتمونا وتهددتمونا؟ بل أنتم قوم مسرفون .

وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين (20) اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون (21) وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون (22) ءأتخذ من دونه آلهة إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون (23) إني إذا لفي ضلال مبين (24) إني آمنت بربكم فاسمعون (25)

قوله:(وجاء من أقصى المدينة رجل يسعى) وجاء من مكان بعيد في المدينة رجل مسرع وذلك حين علم أن أهل القرية هموا بقتل الرسل أو تعذيبهم حرصا منه على نصح قومه حين سمع ما دعت إليه الرسل وءامن به وعلم ما رد به قومه عليهم لينصرهم من قومه (قال يا قوم اتبعوا المرسلين) : يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم، (اتبعوا من لا يسألكم أجرا) أي: على إبلاغ الرسالة، (وهم مهتدون) فيما يدعونكم إليه، من عبادة الله وحده لا شريك له .

وفي هذا بيان فضل من سعى إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

(وما لي لا أعبد الذي فطرني) أي: وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له، (وإليه ترجعون) أي: يوم المعاد، فيجازيكم على أعمالكم، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر .

(ءأتخذ من دونه آلهة) ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع، (إن يردن الرحمن بضر لا تغن عني شفاعتهم شيئا ولا ينقذون) أي: هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه لا يملكون من الأمر شيئا ،فهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه، ولا ينقذوني مما أنا فيه، (إني إذا لفي ضلال مبين) أي: إن اتخذتها آلهة من دون الله .

وقوله: (إني آمنت بربكم فاسمعون) إني ءامنت بربكم فاستعموا إلى ما قلته لكم وأطيعوني بالإيمان

فلما قال ذلك وثب إليه قومه وقتلوه، فأدخله الله الجنة .

قيل ادخل الجنة قال يا ليت قومي يعلمون (26) بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين (27) وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين (28) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون (29)

قيل له بعد قتله :ادخل الجنة إكراما له، قال وهو في النعيم والكرامة :يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي وإكرامه إياي، بسبب إيماني بالله، وصبري على طاعته، واتباع رسله، حتى قُتلت فيؤمنوا بالله فيدخل الجنة مثلي .

وقوله: (وما أنـزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منـزلين) ما أحتاج الأمر إلى إنزال جند من السماء لعذابهم بعد قتلهم الرجل الناصح لهم وتكذيبهم رسلهم فهم أضعف من ذلك وأهون وما كنا منزلين الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم بل نبعث عليهم عذاب يدمرهم .

(إن كانت) أي: ما كانت عقوبته (إلا صيحة واحدة) أي: صوتا وحدا (فإذا هم خامدون) قد تقطعت قلوبهم في أجوافهم فأصبحوا لا صوت ولا حركة ولا حياة بعد ذلك العتو والاستكبار ومقابلة أشرف الخلق بذلك الكلام القبيح وتجبرهم عليهم .

يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون (30) ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون (31) وإن كل لما جميع لدينا محضرون (32)

قال تعالى (يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون) أي: ما أعظم شقاءهم وأطول عنادهم وأشد جهلهم حيث كانوا بهذه الصفة القبيحة التي هي سبب لكل شقاء وعذاب ونكال .

ثم قال تعالى: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) أي: ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، كيف لم تكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة، ولم يكن الأمر كما زعم كثير من جهلتهم وفجرتهم وهم الذين يعتقدون جهلا منهم أنهم يعودون إلى الدنيا كما كانوا فيها، فرد الله تعالى عليهم باطلهم، فقال: (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون أنهم إليهم لا يرجعون) .

وقوله: (وإن كل لما جميع لدينا محضرون) أي: وإن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب يوم القيام بين يدي الله، عز وجل، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها .

وءاية لهم الأرضُ الميتة أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون (33) وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون (34) ليأكلوا من ثمره وما عملته أيديهم أفلا يشكرون (35) سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون (36)

يقول تعالى: (وءاية لهم) أي: دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى (الأرض الميتة) أي: إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات، فإذا أنـزل الله عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؛ ولهذا قال: (أحييناها وأخرجنا منها حبا فمنه يأكلون) أي: جعلناه رزقا لهم ولأنعامهم، (وجعلنا فيها جنات من نخيل وأعناب وفجرنا فيها من العيون) أي: جعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة، يحتاجون إليها (ليأكلوا من ثمره) لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها .

وقوله: (وما عملته أيديهم) أي: وما ذاك كله إلا من رحمة الله بهم، لا بسعيهم ولا كدهم، ولا بحولهم وقوتهم؛ ولهذا قال: (أفلا يشكرون) ؟ أي: فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى ؟

ثم قال: (سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض) أي: من زروع وثمار ونبات (ومن أنفسهم) فجعلهم ذكرا وأنثى، (ومما لا يعلمون) أي: من مخلوقات شتى لا يعرفونها .

وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون (37) والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم (38) والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم (39) لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون (40)

يقول تعالى: ومن الدلالة لهم على قدرته تعالى العظيمة خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا ولهذا قال عز وجل: (وآية لهم الليل نسلخ منه النهار) أي: نصرمه منه فيذهب، فيقبل الليل؛ ولهذا قال: (فإذا هم مظلمون) كما جاء في الحديث: (إذا أقبل الليل من هاهنا، وأدبر النهار من هاهنا، وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم) رواه البخاري ومسلم

وقوله: (والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم) والشمس تجري لمستقر لها قدره الله لها لا تتعداه ولا تقصر عنه .

(ذلك تقدير العزيز) أي: الذي لا يخالف ولا يمانع والذي بعزته دبر هذه المخلوقات العظيمة بأكمل تدبير وأحسن نظام، (العليم) الذي بعلمه جعلها مصالح لعباده ومنافع في دينهم ودنياهم، ثم قال: (والقمر قدرناه منازل) أي: جعلناه يسير سيرا آخر يستدل به على مضي الشهور، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار، فجعل الشمس لها ضوء يخصها، والقمر له نور يخصه، وفاوت بين سير هذه وهذا، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفا وشتاء، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وجعل سلطانها بالنهار، فهي كوكب نهاري وأما القمر، فقدره منازل، يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلا قليل النور، ثم يزداد نورا في الليلة الثانية، ويرتفع منـزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم، أي يرجع ضئيلا مثل عذق النخلة المتقوس في الرقة والانحناء والصفرة لقدمه ويُبسه، ثم بعد هذا يبديه الله جديدا في أول الشهر الآخر .

وقوله: (لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر) لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه، إذا جاء سلطان هذا ذهب هذا، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا، فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل .

وقوله: (ولا الليل سابق النهار) كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ؛ لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلبا حثيثا .

وقوله: (وكل في فلك يسبحون) الشمس والقمر والنجوم يترددون على الدوام، فكل هذا دليل ظاهر وبرهانا باهر على عظمة الخالق .

وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون (41) وخلقنا لهم من مثله ما يركبون (42) وإن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم ولا هم ينقذون (43) إلا رحمة منا ومتاعا إلى حين (44)

يقول تعالى: ودلالة لهم على قدرته تعالى: تسخيره البحر ليحمل السفن، فمن ذلك سفينة نوح، عليه السلام، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين، الذين لم يبق على وجه الأرض من ولد آدم غيرهم؛ ولهذا قال: (وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في الفلك المشحون) أي: في السفينة المملوءة ركبانا وأمتعة لاستمرار الحياة بعد الطوفان .

وقوله: (وخلقنا لهم من مثله ما يركبون) وخلقنا لهؤلاء المشركين وغيرهم مثل سفينة نوح من السفن وغيرها من المراكب التي يركبونها وتبلغهم أوطانهم .

وقوله: (وإن نشأ نغرقهم) يعني: الذين في السفن، (فلا صريخ لهم) أي: فلا مغيث لهم مما هم فيه، (ولا هم ينقذون) أي: مما أصابهم (إلا رحمة منا) وهذا استثناء منقطع، تقديره: ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر، ونسلمكم إلى أجل مسمى؛ ولهذا قال: (ومتاعا إلى حين) أي: إلى وقت معلوم عند الله .

وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لعلكم ترحمون (45) وما تأتيهم من آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين (46) وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء الله أطعمه إن أنتم إلا في ضلال مبين (47)

قوله: (وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم) وإذا قيل للمشركين احذروا أمر الأخرة وأهوالها وأحوال الدنيا وعقابها (لعلكم ترحمون) أي: لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه (وما تأتيهم من آية من آيات ربهم) أي: على التوحيد وصدق الرسل (إلا كانوا عنها معرضين) أي: لا يتأملونها ولا ينتفعون بها .

وقوله: (وإذا قيل لهم أنفقوا مما رزقكم الله) أي: وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين (قال الذين كفروا للذين آمنوا) معارضين للحق محتجين بالمشيئة (أنطعم من لو يشاء الله أطعمه) أي: وهؤلاء الذين أمرتمونا بالإنفاق عليهم، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم، (إن أنتم إلا في ضلال مبين) أي: في أمركم لنا بذلك، وهذا يدل على جهلهم العظيم، فإن المشيئة ليست حجة لعاص أبدا، فإنه وإن كان ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فإنه تعالى مكن العباد وأعطاهم من القوة ما يقدرون على فعل الأمر واجتناب النهي، فإذا تركوا ما أمروا به كان ذلك اختيارا منهم لا جبرا لهم ولا قهرا .

ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين (48) ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخِصمون (49) فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون(50)

(ويقولون) على وجه التكذيب والاستعجال (متى هذا الوعد إن كنتم صادقين) قال الله تعالى لا يستبعدون ذلك فإنه عن قريب (ما ينظرون إلا صيحة واحدة) وهي النفخة الأولى نفخة الصورة (تأخذهم) أي: تصيبهم (وهم يخِصمون) أي: وهم لاهون عنها لم تخطر على قلوبهم في حال خصومتهم وتشاجرهم فيما بينهم الذي لا يوجد في الغالب إلا وقت الغفلة، وإذا أخذتهم وقت غفلتهم فإنهم لا يُنظرون ولا يُمهلون (فلا يستطيعون توصية) أي: لا قليلة ولا كثيرة (ولا إلى أهلهم يرجعون) أي: لا يرجعون من أسواقهم وأشغالهم إلى أهلهم، بل يموتون فيها .

ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون (51) قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون (52) إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون (53) فاليوم لا تظلم نفس شيئا ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون (54)

قوله :(فإذا نفخ في الصور) وهو القرن نفخة البعث والنشور وهي النفخة الثانية، ترد أرواحهم إلى أجسادهم فإذا هم من قبورهم يخرجون إلى ربهم سراعا للحضور بين يديه، لا يتمكنون من التأني والتأخر قال تعالى (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون) .

وفي تلك الحال يحزن المكذبون، ويظهرون الحسرة والندم، ويقولون (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) أي: من رقدتنا في القبور، لأنه ورد في بعض الأحاديث أن لأهل القبور رقدة، قبيل النفخ في الصور، فيجابون ويقال لهم (هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون) أي: هذا الذي وعدكم الله به ووعدتكم به الرسل، فظهر صدقهم رأي العين .

وقوله: (إن كانت) إي: ما كانت البعثة من القبور (إلا صيحة واحدة) ينفخ اسرافيل في الصور فتحيا الأجساد (فإذا هم جميع لدينا محضرون) الأولون والآخرون من الإنس والجن ليحاسبوا على أعمالهم (فاليوم لا تظلم نفس شيئا) لا ينقص من حسناتها ولا يزاد في سيئاتها (ولا تجزون إلا ما كنتم تعملون) من خير أو شر، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .

إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (55) هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون (56) لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون (57) سلام قولا من رب رحيم (58)

لما ذكر تعالى أن كل أحد لا يجزى إلا بما عمله، ذكر جزاء الفريقين، فبدأ بجزاء أهل الجنة، فقال تعالى (في شغل فاكهون) أي: في شغل مفكه للنفس مُلذ لها، من كل ما تهواه النفوس، وتلذه العيون ويتمناه المتمنون، ومن ذلك لقاء العذارى الجميلات، كما قال (هم وأزواجهم) زوجاتهم اللاتي قد جمعنا حسن الوجوه والأبدان وحسن الأخلاق (في ظلال على الأرائك) أي: السرر المزينة باللباس المزخرف الحسن (متكئون) عليها اتكاء دالا على كمال الراحة والطمأنينة واللذة .

وقوله: (لهم فيها فاكهة) أي: من جميع أنواع الثمار اللذيذة من عنب وتين ورمان وغيرها، (ولهم ما يدعون) أي: مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ .

ولهم نعيم آخر أكبر حين يكلمهم ربهم الرحيم بهم بالسلام عليهم قال تعالى (سلام) حاصل لهم (قولا من رب رحيم) ففي هذا كلام الرب تعالى لأهل الجنة وسلامه عليهم وأكده (قولا) وإذا سلم عليهم الرب الرحيم حصلت لهم السلامة التامة من جميع الوجوه وحصلت لهم التحية التي لا تحية أعلى منها ولا نعيم مثلها .

وامتازوا اليوم أيها المجرمون (59) ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين (60)وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم (61) ولقد أضل منكم جبلا كثيرا أفلم تكونوا تعقلون (62)

لما ذكر تعالى جزاء المتقين ذكر جزاء المجرمين، وأنه يقال لهم يوم القيامة (وامتازوا اليوم أيها المجرمون) أي: انفصلوا عن المؤمنين وكونوا على حدة ليوبخهم ويقرعهم على رؤوس الأشهاد قبل أن يدخلهم النار فيقول لهم (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين) : هذا تقريع من الله للكفرة من بني آدم، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدو لهم مبين، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم؛ ولهذا قال: (وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم) أي: قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان، وأمرتكم بعبادتي، وهذا هو الصراط المستقيم، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به؛ ولهذا قال: (ولقد أضل منكم جبلا كثيرا) أي: خلقا كثيرا .

وقوله: (أفلم تكونوا تعقلون) ؟ أي: أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به من عبادته وحده لا شريك له، وعدولكم إلى اتباع الشيطان؟

هذه جهنم التي كنتم توعدون (63) اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون (64) اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون (65) ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبَقوا الصراط فأنى يبصرون (66) ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم فما استطاعوا مضيا ولا يرجعون (67)

يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة، وقد بُرزت الجحيم لهم تقريعا وتوبيخا: (هذه جهنم التي كنتم توعدون) أي: هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم، (اصلوها اليوم بما كنتم تكفرون) .

وقوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) : هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة، حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا، ويحلفون ما فعلوه، فيختم الله على أفواههم، ويستنطق جوارحهم بما عملت .

عن أنس بن مالك قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فضحك حتى بدت نواجذه، ثم قال: (أتدرون مم أضحك؟، قلنا: الله ورسوله أعلم قال: من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى فيقول: لا أجيز علي إلا شاهدا من نفسي فيقول كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا، وبالكرام الكاتبين شهودا فيختم على فيه، ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بعمله، ثم يخلى بينه وبين الكلام، فيقول: بعداً لكنَّ وسحقا، فعنكن كنت أناضل) رواه مسلم

وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل، قال فيه: (ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ، فيَقولُ له مِثْلَ ذلكَ، فيَقولُ: يا رَبِّ آمَنْتُ بكَ، وَبِكِتَابِكَ، وَبِرُسُلِكَ، وَصَلَّيْتُ، وَصُمْتُ، وَتَصَدَّقْتُ، وَيُثْنِي بخَيْرٍ ما اسْتَطَاعَ، فيَقولُ: هَاهُنَا إذًا. قالَ: ثُمَّ يُقَالُ له: الآنَ نَبْعَثُ شَاهِدَنَا عَلَيْكَ، وَيَتَفَكَّرُ في نَفْسِهِ: مَن ذَا الذي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فيُخْتَمُ علَى فِيهِ، وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وَعِظَامِهِ: انْطِقِي، فَتَنْطِقُ فَخِذُهُ وَلَحْمُهُ وَعِظَامُهُ بعَمَلِهِ، وَذلكَ لِيُعْذِرَ مِن نَفْسِهِ، وَذلكَ المُنَافِقُ وَذلكَ الذي يَسْخَطُ اللَّهُ عليه.) رواه مسلم بطوله

وقوله: (ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون) بأن نذهب أبصارهم كما طمسنا على نطقهم (فاستبَقوا الصراط) أي: فبادَروا إليه لأنه الطريق إلى الوصول إلى الجنة (فأنى يبصرون) وقد طمسنا على أعينهم .

وقوله: (ولو نشاء لمسخناهم على مكانتهم) ولو شئنا لغيرنا خلقهم وأقعدناهم في أماكنهم ولهذا قال تعالى: (فما استطاعوا مضيا) أي: إلى أمام، (ولا يرجعون) أي: إلى وراء، بل يلزمون حالا واحدا، لا يتقدمون ولا يتأخرون .

ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون (68) وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين (69) لينذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين (70)

يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره رد إلى الضعف بعد القوة والعجز بعد النشاط والمراد من هذا الإخبار عن هذه الدار بأنها دار زوال وانتقال، لا دار دوام واستقرار؛ ولهذا قال: (أفلا يعقلون) أي: يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ثم صيرورتهم إلى سن الشبيبة، ثم إلى الشيخوخة؛ ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى، لا زوال لها ولا انتقال منها، ولا محيد عنها، وهي الدار الآخرة .

وقوله: (وما علمناه الشعر وما ينبغي له) : يقول تعالى مخبرا عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أنه ما علمه الشعر، (وما ينبغي له) أي: وما هو في طبعه، فلا يحسنه ولا يحبه، ولا تقتضيه جبلته .

وثبت في الصحيحين أنه، عليه الصلاة والسلام، تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة، ولكن تبعا لقول أصحابه، فإنهم يرتجزون وهم يحفرون، فيقولون

اللَّهمَّ لولا أنتَ ما اهتدَيْنا ** ولا تَصدَّقنْا ولا صَلَّيْنا
فأَنزِلَنْ سَكينةً علَيْنا ** * ** وثبِّتِ الأقدامَ إنْ لاقَيْنا
إنَّ الأُلى قد بَغَوْا عَلَينا * * ****** وإنْ أَرادوا فتنةً أبيْنَا
أ

ويرفع صوته بقوله: (أبينا) ويمدها

وكذلك ثبت في صحيح مسلم أنه قال يوم حنين وهو راكب البغلة، يقدم بها في نحور العدو

أنــــا النبــــي لا كــــذب ، أنـــا ابـــن عبــد المطلــب

لكن قالوا: هذا وقع اتفاقا من غير قصد لوزن شعر، بل جرى على اللسان من غير قصد إليه .

وكذلك ما ثبت في الصحيحين عن جندب بن عبد الله قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار فنكبت أصبعه، فقال

هــل أنــت إلا إصبــع دميــت، وفــي ســبيل اللــه مـا لقيـت

وكل هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعرا ولا ينبغي له؛ فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم، وليس هو بشعر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش، ولا كهانة، ولا مفتعل، ولا سحر يؤثر، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعا وشرعا .

والمراد بذلك نظمه لا إنشاده، والشعر فيه ما هو مشروع، وهو هجاء المشركين الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، وأمثالهم، رضي الله عنهم أجمعين ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية .

ولهذا قال تعالى: (وما علمناه الشعر) يعني: محمدا صلى الله عليه وسلم ما علمه الله شعرا، (وما ينبغي له) أي: وما يصلح له، (إن هو إلا ذكر وقرآن مبين) أي: ما هذا الذي علمناه، (إلا ذكر وقرآن مبين) أي: بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره ولهذا قال: (لينذر من كان حيا) أي: لينذر هذا القرآن البين كل حي على وجه الأرض وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب، مستنير البصيرة، (ويحق القول على الكافرين) أي: هو رحمة للمؤمن، وحجة على الكافر .

أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون (71) وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون (72) ولهم فيها منافع ومشارب أفلا يشكرون (73)

يأمر تعالى العباد بالنظر إلى ما سخر لهم من الأنعام وذللها، وجعلهم مالكين لها، مطاوعة لهم في كل أمر يريدونه منها، وأنه جعل لهم فيها منافع كثيرة من حملهم وحمل أمتعتهم من محل إلى محل، ومن أكلهم منها، وفيها دفء، ومن أوبارها وأشعارها وأصوافها أثاثا ومتاعا إلى حين، وفيها زينة وجمال، وغير ذلك من المنافع المشاهدة منها (أفلا يشكرون) اللّه تعالى الذي أنعم بهذه النعم، ويخلصون له العبادة ولا يتمتعون بها تمتعا خاليا من العبرة والفكرة .

واتخذوا من دون الله ءالهة لعلهم ينصرون (74)لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون (75)فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون(76)

يقول تعالى منكرا على المشركين في اتخاذهم الأنداد: ءالهة مع الله، يبتغون بذلك أن تنصرهم وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى .

قال الله تعالى: (لا يستطيعون نصرهم) أي: لا تقدر الآلهة على نصر عابديها، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل وأحقر، بل لا تقدر على الانتصار لأنفسها، ولا الانتقام ممن أرادها بسوء؛ لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل .

وقوله: (وهم لهم جند محضرون) هذه الأصنام محضرة عند حساب عابديها؛ ليكون ذلك أبلغ في خزيهم، وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم .

وقوله: (فلا يحزنك قولهم) أي: تكذيبهم لك وكفرهم بالله، (إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون) أي: نحن نعلم جميع ما هم عليه، وسنجزيهم وصفهم ونعاملهم على ذلك، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلا ولا حقيرا، ولا صغيرا ولا كبيرا، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديما وحديثا .

أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين (77) وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم (78) قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم (79) الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون (80)

هذه الآيات عامة في كل من أنكر البعث

والألف واللام في قوله: (أولم ير الإنسان) للجنس، يعم كل منكر للبعث

(أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين) أي: أولم يستدل من أنكر البعث بالبدء على الإعادة، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين .

ولهذا قال: (وضرب لنا مثلا ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم) ؟ أي: استبعد إعادة الله تعالى - ذي القدرة العظيمة التي خلقت السموات والأرض- للأجساد والعظام الرميمة، ونسي نفسه، وأن الله خلقه من العدم، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده؛ ولهذا قال تعالى: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) أي: يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها، أين ذهبت، وأين تفرقت وتمزقت .

روى الإمام أحمد عن ربعي قال: قال عقبة بن عمرو لحذيفة: ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: سمعته يقول (إن رجلا حضره الموت، فلما أيس من الحياة أوصى أهله: إذا أنا مت فاجمعوا لي حطبا كثيرا جزلا ثم أوقدوا فيه نارا، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي فامتحشت، فخذوها فدقوها فذروها في اليم ففعلوا، فجمعه الله إليه فقال له: لم فعلت ذلك؟ قال: من خشيتك فغفر الله له) فقال عقبة بن عمرو: وأنا سمعته يقول ذلك، وكان نباشا وقد أخرجاه في الصحيحين، بألفاظ كثيرة منها: (أنه أمر بنيه أن يحرقوه ثم يسحقوه، ثم يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر، في يوم رائح، أي: كثير الهواء - ففعلوا ذلك فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر البر فجمع ما فيه، ثم قال له: كن فإذا هو رجل قائم فقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: مخافتك وأنت أعلم فما تلافاه أن غفر له) رواه البخاري ومسلم

وقوله: (الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون) أي: الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء حتى صار خضرا نضرا ذا ثمر وينع، ثم أعاده إلى أن صار حطبا يابسا، توقد به النار، كذلك هو فعال لما يشاء، قادر على ما يريد لا يمنعه شيء .

أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم (81) إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون (82) فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون (83)

يقول تعالى منبها على قدرته العظيمة في خلق السموات السبع، بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت، والأرضين السبع وما فيها من جبال ورمال، وبحار وقفار، وما بين ذلك، ومرشدا إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة فقال: (أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم) على سعتهما وعظمهما (بقادر على أن يخلق مثلهم) أي: أن يعيدهم بأعيانهم .

وقال: (بلى وهو الخلاق العليم * إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) أي: يأمر بالشيء أمرا واحدا، لا يحتاج إلى تكرار .

وقوله: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون) أي: تنـزيه وتقديس وتبرئة من السوء للحي القيوم، الذي بيده مقاليد السموات والأرض، وإليه يرجع الأمر كله، وله الخلق والأمر، وإليه ترجع العباد يوم القيامة، فيجازي كل عامل بعمله، وهو العادل المتفضل .

ومعنى قوله: (فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء) .

وقد روى الترمذي في الشمائل، والنسائي، عن حذيفة؛ أنه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل، وكان يقول: (الله أكبر - ثلاثا - ذو الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة) ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوا من قيامه، وكان يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم) ثم رفع رأسه من الركوع، فكان قيامه نحوا من ركوعه، يقول (لربي الحمد) ثم سجد، فكان سجوده نحوا من قيامه، وكان يقول في سجوده (سبحان ربي الأعلى) ثم رفع رأسه من السجود، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوا من سجوده، وكان يقول (رب، اغفر لي، رب اغفر لي) فصلى أربع ركعات، فقرأ فيهن البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة و الأنعام " صححه الألباني .

تم تفسير سورة يس ، ولله الحمد والمنة .

1 - 4 - 1439هـ

التعليقات : 0 تعليق
إضافة تعليق

2 + 6 =

/500
جديد الدروس الكتابية
الدرس 130 الجزء الثالث ‌‌طائفة الصوفية المتسولة: - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 129 الجزء الثالث الغزو الفكري . - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 128 الجزء الثالث ‌‌ تحريم الأغاني  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 127 الجزء الثالث ‌‌مضاعفة الحسنات ومضاعفة السيئات  - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 126 ‌‌بيان حرمة مكة ومكانة البيت العتيق - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر
الدرس 125 ‌‌حكم إعفاء اللحية - تهذيب وتحقيق فتاوى ابن باز -- للشيخ د . مبارك بن ناصر العسكر